عبدالله الكردي لـ الجريدة.: إيلان رسالة من الله إلى العالم لإحداث التأثير

• «الحكومة التركية تكفلت بمصاريف نقل جثامين أسرتي ودفنها... وإردوغان اتصل بي باكياً ومعزياً»
• «شاهدت جثمان ابني على الشاطئ في الصحف... والبحر يبتلع المئات من الأطفال»

نشر في 04-12-2015
آخر تحديث 04-12-2015 | 00:03
هذا العالم يحتاج إلى وقفة من الجميع مع المحتاجين... ولولا أصحاب النوايا الحسنة، لبات هذا العالم المجنون فضاءً لا يُطاق، من فرط الظلم والجشع والقتل ورائحة الدماء، التي أزكمت أنوف المُرحّلين عن أوطانهم.

في خضم عبثية هذا الجنون، لا يمكن أن ننسى صورة الطفل «إيلان»، ببنطاله الأزرق وبلوزته الحمراء وصندله الصغير، ذلك الملاك المرمي على الرمال ملتحفاً مياه الشاطئ... هي لمحة موت لروح بيضاء آلمتنا جميعاً، زادت تعاطف العالم واهتمامه بقضية اللاجئين السوريين، هذه القضية التي باتت إحدى أبرز مآسي القرن الواحد والعشرين، هي حكاية هروب ملاك من الموت في بلاد الحرب إلى الموت بحثاً عن الحياة.

في ردهة فندق «ديفان» في أربيل، كانت المقابلة مع عبدالله الكردي والد إيلان، عرَّفني به قنصل الكويت في أربيل د. عمر الكندري، الذي كان أكبر معين لي في رحلتي، وساعدني في المقابلة السابقة التي أجريتها مع النائبة الإيزيدية فيان دخيل، وأصرَّ على أن أقابل عبدالله، أخبَرَه أنني صحافية ومهتمة بحقوق الإنسان وأود مقابلته.

في البداية، لم يتشجع الكردي للمقابلة، وتلكأ بأنه سيتناول عشاءه، قلنا له سننتظرك في الردهة، وبعد إصرارنا استشف جديتنا، وحضر بعدها بعشرين دقيقة.

روح مثقلة بالهموم

تكلم عبدالله الكردي لـ«الجريدة»، بروح مثقلة بالهموم، فلا تجد في ملامحه أي بهجة، حين يتحدث عن أسرته، هناك دوماً غصة في قلبه تحشرج حديثه، هذا الرجل فقد كل أسرته خلال أربع دقائق، واليوم عليه أن يتعايش مع هذه الحقيقة، التي يعجز عقله عن تقبلها في أحيان كثيرة.

بدأ كلامه لي، قائلاً: «لم أعد أشعر بمتع الحياة، بل قد أكون كرهتها، وهمّي الآن رعاية الأطفال، بكل النواحي الصحية والتعليمية والدراسية».

ما بين كوباني وتركيا

وأوضح الكردي، أنه كان يعمل بمشغل خياطة في تركيا، كمساعد خياط، ومعاشه الشهري 300 دولار، مشيراً إلى أنه كان يعمل شهراً ونصف الشهر، ثم يذهب لزيارة أسرته في كوباني «عين العرب» في سورية، ويتبقى له القليل من النقود، بعد هذه السفريات.

ولفت إلى أنه ظل لمدة سنة ونصف السنة يزور أسرته، التي تتكون من زوجته وابنيه (غالب وإيلان)، بعدها يعود إلى تركيا، إلى أن احتل تنظيم «داعش» كوباني، وتم تهجير الجميع، وضمنهم أسرته.

وتابع: «ذهبت لاستقبلهم على الحدود من غازي عنتاب إلى إسطنبول، لكن بعد ذلك واجهتني معضلة كبيرة، وهي أين سيسكنون؟ فأنا أنام بالمشغل، ولا أملك بيتاً، أنام في القبو، كفأر محبوس، ويُقفل عليَّ الباب إلى صباح اليوم الثاني، عطلتي الأسبوعية كانت يوم الأحد فقط، وكنت مجبراً على هذه الحياة، التي كانت أشبه بالسجن، فكيف لأسرتي أن تعيش معي هكذا؟!»

رحلة البحث عن بيت

وأضاف: «لم أجد بيتاً للإيجار بمعاشي المتواضع، فناموا جميعا معي الليلة الأولى بالمشغل، وحالما يُفتح، آخذهم لأي حديقة عامة يقضون بها ساعات عملي، من ثم يعودون معي إلى القبو، ليناموا، واستمرت هذه الحال خمسة أيام».

ولفت إلى أنه كان في رحلة بحث دائمة ومضنية عن بيت للإيجار، لكن ذلك لم يجدِ نفعاً، إلى أن نصحه صاحب العمل، وهو رجل طيب - وفق ما قال الكردي - بالذهاب إلى منطقة تدعى «أيوب» بإسطنبول، لأن الإيجارات هناك أرخص من المدينة، وهو ما حدث بالفعل، فقد وجدت بيتا بنصف معاشي، وساعدني الأتراك والأكراد في تأثيثه، لكن منطقة أيوب كانت بعيدة كثيراً عن مكان عملي الأساسي، ما اضطرني إلى ترك عملي في نهاية المطاف، لأبحث عن عمل قريب من مكان سكني.

العمل بالإنشاءات

وأضاف الكردي: «استطعت أن أجد عملاً في الإنشاءات، ذلك المجال الذي كان متعباً جداً بالنسبة لي، فهو يحتاج إلى قوة بدنية، لم أكن أملكها، فعملي الأساسي كان حلاقاً رجالياً، وعملت بالخياطة أخيراً، لكن الإنشاءات كانت صعبة عليَّ، حيث إنها تتطلب حمل أكياس إسمنتية تبلغ 50 كغم، وكنت رغم ذلك أكابر وأقاوم، لتوفير لقمة العيش والسكن لأسرتي».

حينها يبدو أنه تذكر موقفاً معيناً، فقال بحزن: «كنت أشعر بآلام في كل جسدي، وأعود منهكاً للبيت، ولم يكن إيلان يفهم ما أمرُّ به، إلا أنه كان يشعر بي، ويقوم بتدليكي»، متنهداً «لقد كان ملاكاً هذا الطفل الصغير».

وأوضح أنه استمر في هذا العمل، وكانت يوميته ما بين 40 و50 ليرة، لكن كانت هناك أيام لم يكن يعمل بها، فقد كان الوضع صعباً جداً، لذا طلبت من أختي، التي تعيش في كندا، أن تعينني على الأقل في دفع إيجار البيت.

وأوضح: «بالفعل، لم تخذلني أختي، وظلت تدفع لي إيجار البيت لمدة عام كامل، ورغم ذلك، لم أستطع الإيفاء بجميع المصاريف، حيث كان غالب والآن يعانيان مرضاً جلدياً، يستوجب دهنهما بدهان معيَّن، يومياً، ما يتطلب مالاً، فضلا عن المصاريف الأخرى».

طلب اللجوء إلى كندا

وقال بحسرة: «بعد أن ضاقت بي الدنيا، طلبت من أختي مساعدتي، بأن أقدم طلب لجوء إلى كندا، حيث تعيش، لاسيما أنها تحمل الجنسية الكندية».

ووصف هذه الفترة، قائلاً: «تكوَّنت الكثير من الآلام لديَّ، فقد حلمت بأن أنتقل مع عائلتي إلى كندا، حيث سيتلقى غالب وإيلان أفضل تعليم، ويتعلمان اللغة الإنكليزية، وسيكون مستقبلهما زاهراً، وستتم معاملتنا كإنسان أخيراً، لكن جميع أحلامي تحطمت، بعد أن تم رفض طلب اللجوء، فتضايقت وزوجتي كثيراً، وهنا بدأت تلح عليَّ باللجوء إلى أوروبا، فالوضع متعب في تركيا».

معاناته مع المهربين

ثم انتقل الكردي للحديث عن معاناته مع المهربين، ومتاجرتهم بأزمة اللجوء، موضحاً: «المهربون من الجنسية التركية، لكن التعامل يتم مع وسطاء سوريين وعراقيين، ويلتقون المهرِّب يوم السفر، والذي يريد الهروب بالقارب المطاطي يدفع 1000 يورو على الفرد الواحد، وهو الأكثر خطورة، لأنه عادة يتم تحميله بما يفوق العدد المسموح به، أما الذي يريد الهروب بالقارب الخشبي، فيدفع 2000 يورو».

وأضاف: «كنت بمدينة إزمير أدرس موضوع الهروب، لكن كل المهربين كانوا يكذبون بشأن المسافة، بعد أن تحققت من الخريطة، فقد اكتشفت أنهم لا يقولون الحقيقة، فهم يزعمون بأن الرحلة ستأخذ ساعة ونصف الساعة، وفي الواقع تأخذ أربع ساعات، لكنهم يتاجرون بمعاناتنا».

وأوضح أنه لم يقتنع بأن عملية الهروب من مدينة إزمير ستكون آمنة، فقرر الذهاب لمدينة «بودرم» التركية، لأنها الأقرب لشواطئ اليونان.

وأشار إلى أنه على مدى ثلاثة أسابيع كان يدرس الموضوع، ويختبر المسافة، من خلال هاتفه، إلى أن تم الاتفاق على الهروب بيخت خشبي كبير.

وقال إنه استدان مبلغ التهريب من أخته وأبيه، لكن بعد أن وصلوا إلى نقطة الانطلاق، صُدموا بعدم وجود اليخت الكبير، أو حتى قارب خشبي، كما كان الاتفاق، بل كان مطاطياً، وعند الوصول إلى نقطة التهريب، يصبح الرجوع بعدها مستحيلا.

لقاء المهرب التركي

وعن لحظة اللقاء مع المهرِّب التركي، قال: يأخذ المهرِّب المبلغ مقدماً، مؤكداً لهم أن وصولهم «مضمون»، وكانت الجزيرة اليونانية بالفعل قريبة، ولم أكن أملك أي حل سوى القبول بالأمر الواقع والرضوخ لرحلة الهروب، التي كنت أظن أنها ستقدم لي ولأسرتي حياة أفضل.

سترات نجاة مغشوشة

وقال آسفاً: «بعد أن استنفدت جميع الحلول، ركبنا القارب، وبعد أربع دقائق واجهتنا موجة خفيفة، ثم تلتها موجة أكبر، فقرر المهرِّب القفز من المركب».

وقد وصف هذا الموقف قائلاً: «أصاب الهلع زوجتي، وقد حاولنا الإمساك بالمقود، لكننا لم نستطع، حيث كان القارب يسير بسرعة، وكنا 13 فرداً به، وقد انقلب، بسبب موجة قوية، كنت أنزل تحت الماء، أحاول دفع زوجتي وأبنائي للسطح، لكن لم أستطع، رغم أننا جميعا كنا نرتدي سترات النجاة، لكن يبدو أنها كانت مغشوشة».

وبألم شديد، قال: «توفي ابني غالب، الذي حاولت إنقاذه، بعدما دفعت زوجتي وطفلي إيلان للتمسك بقطعة من القارب، توفي خلال دقائق، فكان أول المتوفين، مات على يدي، تركته مضطراً، لإنقاذ إيلان وأمه، لكنهم ماتوا جميعاً خلال دقائق معدودات».

حالة صدمة

وفي حالة ذهول كانت مسيطرة عليه، قال: «بعدها، تمنيت الموت لنفسي، وأنا أشاهد عائلتي تموت أمامي، كنت أدعو ربي وأنا في عرض البحر، أن يأخذ أمانته... ظللت أربع ساعات في البحر، لكنني حتى اليوم، لا أعرف ماذا جرى لي خلالها، كنت في حالة صدمة، لفقدان أسرتي، بعدها تم إنقاذنا من قِبل خفر السواحل التركية، لأن أحد الناجين استطاع السباحة، وصولاً إلى الشاطئ، وأبلغهم بغرق مركبنا، ومن بقي على قيد الحياة بعد رحلة الموت، 9 أشخاص، ومات خمسة».

وعن اللغط الكبير، الذي أثير بشأن صورة إيلان، وهو على الشاطئ التركي، وإذا ما كان ملقى في مكان آخر، وتم وضعه على الشاطئ، أجابني بكل بساطة: «أنا مثلكم، شاهدت صورته في الصحف، ولم أكن أعلم بمكان وجوده، كنت في الجانب الآخر، وليس بنفس الشاطئ الذي وُجد به».

وعن نهاية المطاف، قال إنهم أخذوه للمشفى، لإجراء الإسعافات الأولية، وطلبوا منه في اليوم التالي التعرف على جثامينهم، وحين وصل بحديثه عن هذا الموقف وجدته أجهش بالبكاء، متذكراً لحظة موتهم.

«إيلان»... ملاكي الحارس

يقول الكردي إنه بعد وفاة أسرته، كان همُّه الأكبر كيفية دفنهم في مسقط رأسهم بكوباني، وليس في تركيا، كما تم إبلاغه.

وأضاف: «تشردوا كثيرا، وأقل شيء أستطيع تقديمه لهم، أن أدفنهم في بلدهم، بعد أن ضاقت بهم جميع الأوطان، لكن قيل لي إن الموضوع سيكلف كثيراً».

وأشار إلى أنه كان في حال يُرثى لها، وقد توافدت إليه الاتصالات وطلبات اللقاءات من الصحافيين، لكنه أوضح أنه لم يكن في أحسن أحواله معهم، بسبب حالتي النفسية التعيسة، فبعضهم لم يرحم مصابي الجلل، فقد كنت مشغولاً بفكرة واحدة، وهي دفنهم في وطنهم.

ثناء

وقد أثنى على الحكومية التركية، لتكفلها بمصاريف نقل الجثامين ودفنها في كوباني، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصل به، وهو يبكي معزياً ومقدماً عرضه الكريم.

وأكد الكردي أن ابنه الراحل إيلان كان رسالة من الله، مضيفاً: «الكثيرون ماتوا، سواء أطفالاَ أو نساء، لكن إيلان كان مختلفاً، كأنه رسالة للعالم ليحدث التأثير».

امتنان

وأعرب عن امتنانه لاهتمام رئيس وزراء إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، الذي تحدَّث معه ثاني يوم عزاء، وهو في كوباني، بصدق، وكأن ابنه مَن مات، وكان يبكي بحرقة، ودعاه للعيش في أربيل، لافتاً إلى أنه قابل هناك جميع أفراد عائلة بارزاني، الذين كانوا قمة في التواضع.

وقال إنه خلال لقاء بارزاني به، بكى ثلاث مرات، وسأله عن طلباته، وحينما أعربت له عن رغبتي ببناء مدرسة ومستشفى باسم إيلان في مسقط رأسه بكوباني، وعدني بأنه سيحقق لي ما أريد وبشكل فوري، بعد أن يتم أخذ الموافقة الرسمية.

ويقول عبدالله: حلمي اليوم بعد أن ماتت عائلتي، أن أنقل معاناة اللاجئ للعالم، لأنه منهم، فهناك المئات مثل إيلان يموتون على الشواطئ وبعرض البحر كل يوم».

وفي ما يخص مشكلة اللاجئين، قال: «لم تعد تقتصر على إيجاد مكان ليؤويهم، بل في تعرُّضهم للموت أثناء رحلة الهروب إلى أوروبا».

لنا كلمة

هل سينسى العالم صورة إيلان؟ وتغدو قضية اللاجئين في طي النسيان؟ وهل سيستمر جشع المهربين من دون أن يؤنبهم ضميرهم؟ وهل ستتم المتاجرة بقضية اللاجئين والتلاعب بحلمهم الأكبر، العيش في أوروبا؟ فحتى هذا الحلم بات مرفوضاً من العديد من الدول، وهو حلم مشوب بكثير من التضحيات، قد تكون أرواحهم واحدة منها.

مسقط رأسه

كوباني هي مسقط رأس عبدالله الكردي، وهي مدينة ومنطقة إدارية تابعة لمحافظة حلب - سورية، تقع على بُعد 30 كيلومتراً غربي نهر الفرات، ونحو 150 كيلومتراً شمال شرق حلب، تقطنها غالبية من الأكراد وبعض العرب، كان يسكن فيها الكثير من الأرمن، الذين نجوا من المذابح العثمانية، وقد هاجروا إلى مدينة حلب والولايات المتحدة الأميركية. كانت فيها 3 عيون ماء كبيرة جف آخرها عام 1958.

تتألف هذه المنطقة من 400 قرية صغيرة، وعدد من النواحي الإدارية، وعدد سكانها أكثر من 350 ألفاً، وقد خططت شوارعها من قبل الجيش الفرنسي وبعض دوائرها الرسمية (السرايا)، كانت بالأصل مخافر قديمة للجيش الفرنسي المحتل، آنذاك، لسورية.

وتشتهر البلدة بزراعة القمح والشعير والقطن والفستق الحلبي والجوز واللوز، واشتهرت في الآونة الأخيرة بزراعة الكمون وبعض المحصولات الأخرى.

سكانها عمال نشيطون، وقد اشتهرت حفاراتهم وحصاداتهم الزراعية المجمعة محلياً في عين العرب.

«داعش» وكوباني

أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، بأن مسلحي تنظيم داعش تمكنوا من دخول بلدة كوباني «عين العرب»، بعد أن خاضوا معارك مع القوات الكردية، وسيطروا على منطقة النشوة في محافظة الحسكة.

وأضاف أن مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية تمكنوا من دخول مدينة عين العرب (كوباني)، التي اشتهرت بمقاومته طوال أشهر، قبل أن يتمكن «داعش» من دفعهم خارجها، وقتل وطرد الأكراد من منازلهم.

الكردي في أربيل

يعيش عبدالله الكردي حالياً في أربيل، وقد زار العديد من المخيَّمات في كردستان، ولمس تأثر الأطفال بابنه، وكشف أنه ينوي فعل شيء ترفيهي لهم، ولا يخفي سعادته حينما يرى الأطفال يضحكون، ويحلم كذلك بإنشاء مستشفى مجاني للمحتاجين من جميع الجنسيات والأديان.

عمليات التهريب

عن عمليات التهريب، قال الكردي إنها أصبحت تجارة مربحة لجميع من يمارسها، وهم كلاجئين في عرض أي بارقة أمل، لأن يتم استقبالهم في أوروبا، لكن المشكلة تكمن في أن هذه الرحلات تكون في الظلام، لأنها غير شرعية، وتتم من دون أي إجراءات أمنية وبعدد يفوق الحمولة.

back to top