مشكلة تعقيد الصين

نشر في 02-09-2015
آخر تحديث 02-09-2015 | 00:01
التاريخ عامر بالإخفاقات أكثر من النجاحات التي حققتها الصين في الدفع إلى ما وراء عتبة نصيب الفرد في الدخل، وآخر ما تحتاج إليه الآن هو أن تحاول موازنة حمل أثقل مما ينبغي على رأس دبوس، ويتعين على قادتها أن يعملوا على تبسيط وتوضيح أجندتها.
 ستيفن س. روتش هناك العديد من الأجزاء المتحركة في العملية الانتقالية الشاقة الدائرة في الصين لإقامة ما يسميه زعماؤها مجتمعا ميسور الحال باعتدال، وتحدث التحولات التكتونية بالتزامن مع العديد من الجبهات: الاقتصاد، والأسواق المالية، والاستراتيجية الجيوسياسية، والسياسة الاجتماعية، وقد يكمن الاختبار النهائي في إدارة التفاعل الشديد التعقيد بين هذه التطورات، تُرى هل ترقى القيادة في الصين إلى قدر هذه المهمة، أم أنها تتصدى لمهمة أعظم من قدراتها؟

الواقع أن أغلب المعلقين الغربيين مستمرون في الإفراط في تبسيط هذه المناقشة، فيضعونها في إطار من السيناريوهات التي تصور الهبوط الحاد للصين والتي كانت خاطئة طيلة عشرين عاما، ففي أعقاب الانخفاض الحاد الذي سجلته سوق الأسهم هناك هذا الصيف والخفض المفاجئ لقيمة الرنمينبي، يتكرر الأمر ذاته مرة أخرى، بيد أنني أظن رغم ذلك أن المخاوف إزاء احتمالات حدوث ركود تام في الصين مبالغ فيها إلى حد كبير.

في حين لا يجوز لنا أن نهون من أهمية المناقشة الدائرة حول آفاق الصين في الأمد القريب، فإن القضية الأكبر هي التقدم المتين الذي حققه اقتصادها على الطريق نحو إعادة التوازن، أو على وجه التحديد التحول البنيوي بعيداً عن أنشطة التصنيع والبناء ونحو الخدمات، ففي عام 2014 بلغت حصة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي الصين 48.2 في المئة، وهو ما يتجاوز كثيراً عن حصة التصنيع والبناء المجمعة التي بلغت 42.6 في المئة، وتستمر الفجوة في الاتساع، فقد سجلت أنشطة الخدمات نمواً بلغ 8.4 في المئة مقارنة بالعام السابق في النصف الأول من عام 2015، وهو ما يتجاوز كثيراً النمو في قطاعي التصنيع والبناء الذي بلغ 6.1 في المئة.

إن الخدمات تُعَد في الكثير من النواحي البنية الأساسية للمجتمع الاستهلاكي في حالة الصين: توفير المرافق الأساسية، والاتصالات، ومنافذ بيع التجزئة، والرعاية الصحية، والتمويل، وهو ما تطالب به بشكل متزايد الطبقة المتوسطة الناشئة في الصين، وهي أيضاً تتطلب عمالة كثيفة: ففي الصين تطلق الخدمات فرص عمل إضافية بنحو 30 في المئة زيادة لكل وحدة من الناتج مقارنة بمتطلبات التصنيع والبناء الكثيفة من رأس المال.

ولهذا السبب كانت اتجاهات تشغيل العمالة في الصين أفضل كثيراً مما كان متوقعاً في مواجهة التباطؤ الاقتصادي، فقد بلغ نمو فرص العمل في المناطق الحضرية في المتوسط ما يزيد قليلاً على 13 مليون وظيفة في 2013-2014، وهذا أعلى كثيراً من الملايين العشرة التي استهدفتها الحكومة، وعلاوة على ذلك تشير البيانات الخاصة بأوائل عام 2015 إلى أن تشغيل العمالة في المناطق الحضرية يظل قريباً من الوتيرة المبهرة التي تحققت في السنوات الأخيرة، ومن المؤكد أن هذا بعيد تماماً عن إجهاد سوق العمل الذي يرتبط عادة بالهبوط الاقتصادي الحاد أو الركود.

والخدمات هي أيضاً العنصر الذي يجعل استراتيجية الصين في التوسع الحضري شديدة الفعالية، فاليوم يعيش ما يقرب من 55 في المئة من سكان الصين في المدن، مقارنة بأقل من 20 في المئة في عام 1978، ولابد أن ترتفع الحصة إلى 65 في المئة أو 70 في المئة على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة، وتعمل المدن الجديدة والمتوسعة على تعزيز النمو من خلال توفير فرص العمل في الخدمات، وهو يعمل بدوره على تعزيز القدرة الشرائية للمستهلك من خلال مضاعفة نصيب الفرد في الدخل إلى ثلاثة أمثاله نسبة إلى نظيره في المناطق الريفية.

لذا فعلى الرغم من كل مظاهر الضيق الشديد إزاء انهيار الصين، يعمل التحول السريع نحو اقتصاد يقوم على الخدمات على تخفيف الضغوط السلبية في الاقتصاد القديم القائم على التصنيع، وقد أكد صندوق النقد الدولي النتيجة نفسها في مشاوراته الأخيرة مع الصين بشأن المادة الرابعة، مشيراً إلى أن دخل العمل يتوسع الآن كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن الاستهلاك ساهم بقدر أكبر قليلاً مقارنة بالاستثمار في نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2014، وقد يبدو هذا وكأنه تقدم هامشي، ولكنه في واقع الأمر تقدم سريع للغاية مقارنة بالوتيرة الشديدة البطء للتغير البنيوي، وهي العملية التي بدأت بالصين في عام 2011 مع إصدار الخطة الخمسية الثانية عشرة.

ولكن هناك فخ كبير للأسف، ففي حين كان التقدم على مسار إعادة التوازن الاقتصادي مشجعا، فإن الصين استهدفت ما يتجاوز قدراتها: الخطط المتزامنة لتحديث النظام المالي، وإصلاح العملة، ومعالجة التجاوزات في أسواق الأسهم والديون والعقارات. ومن ناحية أخرى، تلاحق السلطات أيضاً حملة عنيفة لمكافحة الفساد، وسياسة خارجية أكثر عدوانية، والإحياء القومي استناداً إلى "حلم الصين".

وقد يتبين أن التفاعل بين هذه الأهداف المتعددة أمر شديد الإجهاد. على سبيل المثال ربما يتسبب الجمع بين تقليص الديون وتفجير فقاعة الأسهم في خلق دوامة هابطة ذاتية التعزيز في اقتصاد التصنيع القديم على النحو الذي قد يؤدي إلى زعزعة ثقة المستهلك وتقويض الدينامية الناشئة لاقتصاد الخدمات الجديد. وعلى نحو مماثل، من الممكن أن تؤدي المغامرات العسكرية في بحر الصين الجنوبي إلى الإضرار بالروابط بين الصين وبقية العالم قبل فترة طويلة من تمكنها من الاعتماد على الطلب المحلي لتحقيق النمو الاقتصادي.

ومن عجيب المفارقات أن لعبة التوازن التي تمارسها الصين ربما تثبت أنها أكثر صعوبة من أن تتمكن السلطات من إتقانها في ظل نظام قائم على السوق وموجه نحو المستهلك، ويبدو أن الحكومة التي وجدت نفسها حبيسة عملية الانتقال من نموذج توجهه الدولة وتسيطر عليه بإحكام باتت تدور حول نفسها؛ على سبيل المثال من خلال التأكيد على التحول الحاسم للأسواق، فقط لكي تتدخل بقوة عندما تسجل أسعار الأسهم هبوطاً حادا، وعلى نحو مماثل تتبنى السلطات المزيد من نظام الصرف الأجنبي القائم على السوق في حين تدفع الرنمينبي إلى الانخفاض عمدا.

أضف إلى هذا التعهد بإصلاح الشركات المملوكة للدولة الذي بدأ ثم توقف، وسيتبين لك أن الصين ربما تجد نفسها دون قصد غارقة في شيء أشبه بما أسماه مينشين باي منذ فترة طويلة "الانتقال الحبيس"، حيث تُحبَط استراتيجية الإصلاح الاقتصادي بفِعل الافتقار إلى الإرادة السياسية في دولة الحزب الواحد.

تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، لا يوجد افتقار إلى الإرادة السياسية في الصين اليوم، ويتمثل التحدي الآن في تحديد أولويات هذه الإرادة على النحو الكفيل بإبقاء الصين على المسار إلى الإصلاح وإعادة التوازن، وأي تراجع على هذه الجبهات من شأنه أن يقود الصين إلى ذلك الفخ الذي أعرب مينشين باي لفترة طويلة عن خشيته من أن يكون حتميا.

كانت التنمية الاقتصادية تشكل دوماً تحدياً رهيبا، وكما تؤكد التحذيرات بشأن "فخ الدخل المتوسط"، فإن التاريخ عامر بالإخفاقات أكثر من النجاحات التي حققتها الصين في الدفع إلى ما وراء عتبة نصيب الفرد في الدخل، وإن آخر ما تحتاج إليه الآن هو أن تحاول موازنة حمل أثقل مما ينبغي على رأس دبوس، ويتعين على قادتها أن يعملوا على تبسيط وتوضيح الأجندة التي قد تصبح أشد تعقيداً من أن يتمكن أحد من إدارتها.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لبنك مورغان ستانلي في آسيا، ومؤلف كتاب "انعدام التوازن: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top