الطاهر أمين: «داعش» امتداد للاستبداد الشّرقيّ وجزء من التسلّطيّة العربيّة

نشر في 20-06-2015
آخر تحديث 20-06-2015 | 12:01
No Image Caption
«ما معنى أن تكون مثقّفاً عربيّاً اليوم؟» هذا السؤال بمحاوره «الثقافة الهوية - المكان - الزمان»؛ راوغه المفكر التونسي والباحث في الإسلاميات الطاهر أمين أكثر من عشرين عاماً نيلا منه، ففجَّر في بحوثه واشتغاله المعرفي محاكمات لم تتوقف مرافعاتها عبر مجموعة من الكتب، وليخلص إلى بؤس المشهدية التاريخية، وصيغ التّلفيق والتزوير في ما سُميّ بالثورات، «فلا ثورات في الصحراء العربية»، «لا الثورة العربية الكبرى ولا ما يسمى بالربيع العربي»، وما التطرف الذي يتشكل بالداعش وغيرها من الجماعات الأصولية إلا {فضيحة» أزمنة متداخلة ومتعاقبة ومتوارثة، ليسدد اتهاماته للمثقفين الذين قال لهم في أطوار عزلتهم ودخولهم في الصمت: {عليكم اللعنة}. وكان لـ«الجريدة» معه هذا الحوار:
ثلاثيّة البؤس: {بؤس الثّورة} في يناير 2012، و{بؤس الثّقافة} في يناير 2013 ثمّ {بؤس الهوية} في أكتوبر 2013، أيّ بؤس يحمله عام 2015 وسط بحيرات الدّماء المحيطة بنا؟

كانت ثلاثيّة البؤس مجرّد إطار تحليليّ سمح لي بالاقتراب من ثلاثة مفاهيم رئيسة تحتاج إلى علاقة نقديّة هي الثّورة والثّقافة والهويّة. قادني البؤس إلى التّشديد على أنّنا ضحايا هويّة مفقّرة، وعلى أنّنا أسرى ثقافة فقيرة، لذلك جاءت «ثورات الرّبيع العربيّ» الكاذبة والملفّقة فقيرة ومفقّرة في آن. البؤس هو المناخ الخانق الذي قادنا إليه الانحطاط بوصفه كابوساً جاثماً على صدورنا منذ أن وصل السّلاجقة إلى السّلطة في القرن الحادي عشر الميلادي. مفارقة العرب الكبرى هي أنّ بؤسهم لا يكفّ عن تجديد دوراته. إنّه ليس حدثاً عابراً، بل أزمنة متداخلة ومتعاقبة. مع جرائم تنظيم داعش التي فتحت أعيننا على الدّرس الحقيقيّ: «خلف الأصوليّة الإهانة» يأخذ البؤس اكتماله حيث نجد أنفسنا محاصرين داخل الرّعب الدّمويّ. اليوم يضعنا داعش بوصفه فضيحتنا العارية وخطيئتنا الكبرى التي لا عودة منها أمام مرايا بربريّة ليلنا العربيّ الذي لا آخر له. بؤس سنة 2015، هو مجرّد مقدّمة لتقسيم العراق، وسورية، واليمن لإخراج عرب الصّحراء القاحلة من السّياسة، أي من الجغرافيا والتّاريخ بشكل كامل.

«أيّها المثقّفون، عليكم اللّعنة، فخياناتكم المكشوفة والخفيّة صارت أكبر من قدرتنا على التحمّل»، ألست أحد مكوّنات الكيان الثّقافيّ ومن تشكيلته النّخبويّة التي قد يمسّها هذا الغضب؟

كان كتابي الثّاني «بؤس الثّقافة» الصّادر في جانفي 2013 وفيّاً لقناعة ثابتة وهي أنّه لم يكن حريصاً على صداقة {المثقّفين} لأنّها ليست عقلاً. قدّم الكتاب نفسه بوصفه صرخة في وجوه من اصطلح على تسميتهم بـ{المثقّفين} بسبب خطيئتهم الكبرى {الإفراط في العبارة}، وبسبب ادّعاء المثقّف العربيّ بأنّه {حلاّل مشاكل}؛ وفق تعبير عالم الاجتماع التّونسيّ الطّاهر لبيب. لست معفيّاً من جريمة الخيانة، فقد لذت بالصّمت طيلة عشرين سنة خلال حكم الفاسد بن علي. صحيح أنّي رفضت أن أؤدي دور الحاجب، وأن أكون شاهد زور، ولكنّ القبول بالاستقالة (الدّخول في الصّمت) كان الاسم الآخر للخيانة. تقود {خيانة المثقّفين} دائماً إلى {انحطاط الثّقافة}: هذا هو درس البروفيسور إدوارد سعيد، الذي لا يجب أن نغمض عيوننا عليه بوصفه قد {وضع المحاولة الفكريّة في سياقها الصّحيح}، كذلك شهد بذلك محمود درويش سنة 2003. للخيانة دلالة أساسيّة لدى إدوارد سعيد: إنّها {الإفلاس الأخلاقيّ الكامل}، كما كتب في مقاله {خيانة المثقّفين} الصّادر بجريدة {الأهرام ويكلي} بتاريخ 24 يونيو 1999. كان عليّ أن أؤدّب نفسي بمواجهة السّؤال الذي تحايلت عليه على امتداد عشرين سنة: ما معنى أن تكون مثقّفاً عربيّاً اليوم، تماهياً مع سؤال الفيلسوف الفرنسيّ ريجيس دوبريه: ما جدوى أن يكون المرء مثقّفاً؟ المفارقة هي أنّ المثقّف يتوهّم الفوز بخلاصه داخل الخيانة، أي داخل الاستقالة والصّمت، ولكنّه ينسى فداحة الضّريبة التي عبّر عنها الإمبراطور {الفيلسوف} ماركوس أوريليوس في كتابه {التأمّلات}: {لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك. ما لا يفيد السّرب لا يفيد النّحلة. لا مجد لنحلة في خليّة منهارة}.

خارج عزلته الفكرية المأمونة... كيف ترى دور المثقف؟

تحديداً أن يمارس وظيفته النّقديّة. غياب النّقد بوصفه حاجة اجتماعيّة وتاريخيّة قاد إلى بؤس الثّقافة العربيّة وانحطاط الواقع العربيّ السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي. أن يكون المثقّف نقديّاً هو بمعنى أساسيّ أن يقدّم نفسه بوصفه وعياً تعساً وشقيّاً لمجتمعه. النّقد هو أفق المثقّف بوصف النّقد أفقاً تحرّريّاً وتنويريّاً. أتحدّث عن النّقد بمعناه الكانطيّ أساساً، فقد {دشّن النّقد الكانطيّ عتبة حداثتنا}. ربط كانط بين النّقد والتّنوير عبر التّشديد على المبدأ: {يتعيّن على كلّ شيء أن يخضع لمحكمة النّقد}. نحن لا نزال خارج اللّحظة الكانطيّة لأسباب متداخلة أخطرها أنّنا نرفض الاعتراف بأنّ حقيقة الأزمنة الحديثة ليست دينيّة. أمّا السّبب الآخطر فهو أنّ السّلطة العربيّة لا تزال تصرّ على تدمير الرّوح النّقديّة نتيجة هلعها من النّقد الذي يؤدي بعض أدوار السّلطة، فهو يشكّل سلطة مضادّة عبر أداء دور الرّقابة. للنّقد علاقة بالحقيقة، فالمثقّف الذي يرفض أن يكون شاهد زور على لحظته التّاريخيّة، هو مثقّف نقديّ يستند إلى حسّه النّقديّ فقط، أي يرفض أن يقول الكذب بوصف الكذب حجباً للواقع، أي للحقيقة. يشترط قول الحقيقة الشّجاعة في قول الحقّ، والجرأة على تعرية الشّأن العام. بهذا المعنى، كان الفيلسوف الفرنسيّ ميشال فوكو يرى في النّقد {قيمة أخلاقيّة} هي قيمة الفضيلة. النّقد فضيلة بوصفه شهادة على الحقيقة. مفارقة معظم مثقّفينا العرب هي أنّهم لا يقولون أشياء مضيئة لأنّهم يقومون بإفراغها من أدنى فضيلة.

تساقط الكثير من الأسماء جراء تخاذلها، ولكن هل اقتصرت الخيانة بـ{الصمت}؟

كنت قد قدّمت، سابقاً، عناصر جواب: عندما نشدّد على درس أنطونيو غرامشي: المثقّف هو  {ضمير المجتمع}، أي {المسؤول عن الدّفاع عن المضطهدين في كلّ مكان}، بلغة جان بول سارتر، أي {الوسيط، بامتياز، بين الاجتماعيّ والثّقافيّ، أي صياغة اللّحمة بين المدنيّ والسّياسيّ}، بتعبير الطّاهر لبيب يكون ذهاب المثقّف إلى عزلته (صمته، استقالته، وقوفه على الرّبوة) نفياً لدوره وتعطيلاً لفاعليّته. تعرفين أنّ غرامشي قبل رحيله (نزيف في الدّماغ) سنة 1937 كان قد طلب منه أن يطلب العفو، فقال: {هذه طريقة تعني الانتحار، وليست لي أيّة رغبة في الانتحار}. العزلة هي الاسم الآخر للانتحار. بهذا المعنى، تكون الخيانة أكثر أشكال الانتحار فداحة.

 

ما القضيّة الأساس التي نحتاج إلى التّركيز عليها في واقعنا العربيّ اليوم، التغيّرات السّياسيّة، أم القراءات الفكريّة؟

المفارقة العربيّة هي أنّ {التغيّرات السّياسيّة} تجري خارج {القراءات الفكريّة} دائماً. إنّها ثنائيّة السّياسيّ- الثّقافيّ التي لا تزال تطرح ضمن صيغ التّلفيق منذ أن أخذنا عالم الاجتماع المصريّ سعد الدّين إبراهيم إلى الوهم بإمكان {تجسير الفجوة بين المثقّف والأمير}. تظلّ إشكاليّة المثقّف والسّلطة أكثر إشكاليّات ثقافتنا العربيّة التباساً وتعقيداً ما دام السّياسيّ يسكن خيبات الثّقافيّ، وما دمنا نقيم خارج الوعي {وبدلا من أن نرى السّياسة جزءاً من الكلّ الثّقافيّ، نرى على العكس الكلّ الثّقافيّ جزءاً من السّياسة (...) لا يمكن للسّياسة أن تكون حرّة وعظيمة ـ إلاّ إذا نهضت على ثقافة حرّة وعظيمة}. نحن بحاجة إلى قراءة الواقع العربيّ عبر نقد البنى السّياسيّة والاجتماعيّة، أي عبر الحاجة المتزايدة إلى نقد المجتمع ونقد السّلطة. أن نقدّم قراءات متعدّدة لمآسينا التي ترفض أن تنتهي، من أجل أن نؤسّس معرفة حقيقيّة للذّات وللعالم. ثمة قضيّة واحدة مركزيّة: ضرورة اكتشاف آفاق النّقد المغيّبة عبر النّفخ في رماد الرّوح النّقديّة.

 انطلاقاً من إحياء {روح النقد}؛ وعبر الثّورات وتشكلها حروباً أهلية، كيف تفسّر هذا الاحتشاد حول الهويّات الصّغيرة المتصارعة؟

وأين هي الثّورات في صحراء الثّقافة العربيّة؟ منذ «الثّورة العربيّة الكبرى 1918-1916} التي جرى تلفيقها عبر إغراء البدو بشقّ عصا الطّاعة في وجه {الرّجل المريض} والعرب لم يكفّوا عن خوض حروب الآخر ضدّهم، وباستعادة أيّام جاهليّتهم وإسلامهم. حروب {الهويّات الصّغيرة المتصارعة} تجد تبريرها الأساسيّ في أنّنا نعيش مأزقنا التّاريخيّ الحقيقيّ بوصفه عجزاً مريراً عن اكتشاف تاريخنا الخاصّ. لا يجب أن ننسى تاريخاً طويلاً لمحاولات الغرب الاستعماريّ احتلالنا من الدّاخل، فمنذ قرنين، ونحن نتخبّط داخل عواصف الانكسار الدّاخليّ، الذي ولّدته ولا تزال تولّده حروبنا الأهليّة. نحن أسرى فهم مفقّر للهويّة يقود إلى التورّط في {سياسات للهويّة}، كما شدّد إدوارد سعيد.

فكر الهويّة الذي حكم تاريخنا القوميّ والدّينيّ يكشف اليوم عن تناقضاته داخل هاوية الانقسام والتفتّت وإعادة تقسيم جسد الأمّة.

{هذا الاحتشاد حول الهويّات الصّغيرة المتصارعة} هو التّلخيص المكثّف لعجز السّلطة العربيّة عن تجاوز أزمتها الخانقة: الوصول إلى الدّيمقراطيّة. من هنا، فإنّ هذا الانفجار الهويّاتي هو التّعبير الملموس عن واقع الانسداد المرعب الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربيّة. الحروب الأهليّة العربيّة هي جراحات الهويّات التي لم تسمح لها سلطة الاستبداد العربيّ بالتّعبير عن حقوقها السّياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة والثّقافيّة.

يتضمّن التعدّد الثّقافي التّعبير النّقديّ لمفهوم الأقلّيات، وتقديم البديل... فما النّظام الذي يحقّق التّعددية التي تبرز التنوّع البشري؟

إنّها الدّيمقراطيّة بوصفها نسقاً فكريّاً وسياسيّاً يسمح للمجتمع بأن يعمّق تعدّديته، وبأن يعترف لجميع أفراده بحقوقهم الأساسيّة.

 لم يعد ممكناً اليوم تأجيل الحاجة إلى حلّ المسألة السّياسيّة العربيّة، بوصفها أزمة الوجود العربيّ.

العلم والفكر الغيبي

متى ينتهي الصّراع  بين العلم والفكر الغيبيّ على مستوى العالم العربيّ تحديداً؟ ومتى تبدأ حلقات البحث والحوار في الإصلاح المنطقيّ الإنسانيّ الشموليّ؟

ببساطة، عندما تمتلك مجتمعاتنا العربيّة القدرة على إنتاج معرفة حقيقيّة بالذّات، أي عندما تمتلك وعياً نقديّاً بتاريخها المحلّي أوّلا. لفشل الكامل الذي تغرق فيه المنطقة العربيّة ليس معزولاً عن فشل مشروع النّهضة العربيّة الذي طرح في مطلع القرن التّاسع عشر، أي فشل إشكاليّة الإصلاح الدّينيّ والإصلاح السّياسيّ والإصلاح الاقتصاديّ. نحن بحاجة إلى مراجعة جذريّة لفكر النّهضة من داخل الاعتراف الكامل بـ{فشل السّياسة الثّقافيّة لفكر النّهضة»، كما يشدّد برهان غليون؛ وهي مراجعة ستسمح لنا بطرح أسئلة الواقع العربيّ الرّاهن.

وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول الصّراع القائم منذ قرن ونصف على ضرورة الإصلاح في المجتمع التي تنطلق من «شرعيّة» التّعامل في الشّأن الدّيني؟ متى تفكّ عقدة هذا التّابو مع التّراث المقدّس؟

عندما نقوم بتأصيل نظريّ حقيقيّ لأسئلة الشّأن الدّينيّ، أي عندما ننجح في أشكلة قضايانا. ثمة غياب غير مبرّر للأسئلة التّأصيليّة على صعيد نظريّ. نحن أسرى قناعات دينيّة لم ننجح في زحزحتها نتيجة الازدواجيّة والانتقائيّة التي تمارس داخل تلفيقيّة غريبة. لا يجب أن ننسى أنّ مشروع الإصلاح كان محكوماً بخلفيّة المرحليّة والبراغماتيّة، من أجل الاستجابة لحاجات محدّدة. لم يكن الخطاب الإصلاحيّ في معظمه نقديّاً بسبب غرقه في الطّابع السّجاليّ وعجزه عن الوصول إلى تمثّل تاريخيّ للإرث الإسلاميّ وللوافد الغربيّ.

نحن لم نؤسّس لنقد جذريّ للمسألة الدّينيّة، أي لم ننخرط في مسار تدميريّ خلاّق لذلك اكتفينا بتحويل مفهوم التقدّم إلى استعارات مريضة وخاوية. لا يجب أن ننسى كذلك أنّ الحسّ الدّينيّ الذي رافق الحركة الإصلاحيّة كان حادّاً إلى درجة أنّ الفصل بين المقدّس والدّنيويّ لم يكن ممكناً. لقد توهّم المصلحون إمكانيّة الظّفر بمفاتيح الحداثة شرط أن يحتفظ الدّين بأقفاله ومفاتيحه الخاصّة. إنّنا نتعمّد نسيان معطى أساسيّ وهو أنّ روح العصور الحديثة ليست دينيّة. إنّ غياب تحليل دقيق للظّاهرة الدّينيّة هو التّعبير المكشوف عن الفقر الفكريّ. صحيح أنّ الوعي بالمسألة الدّينيّة لا يزال جنينيّاً، ولكن لا يجب أن ننكر أنّ المشروع الإصلاحيّ قد نجح في إدخال نوع من الفكر الدّنيويّ.

أين الخطأ في نظرك الذي يفسّر عجزنا كعرب في التّعامل مع التطوّر المتنامي بسرعة شديدة في التطوّر العلميّ وفهم «قصّة الحضارة» للعالم: في اللّغة العربيّة، في التلقّي، أم في بنية المجتمع الفكريّة؟

لا يمكن أن نفصل اللّغة عن بنية التّفكير وعن عمليّة التلقّي. أعتقد أنّ الخلل الحقيقيّ يعود إلى طبيعة الاستجابة للتحدّي الأوروبّي: توهّم روّاد نهضتنا «المعاقة» و{المجهضة» إلى آخر التّوصيفات أنّ الحلّ يتلخّص في استيراد مثال جاهز. يكفي أن نقتبس عن الآخر حتّى نحلّ مشكلة التأخّر. لم يكن عائق اللّغة مطروحاً، لذلك شهدت الثّقافة العربيّة مشروع الإحياء اللّغويّ، الذي لم يقدنا إلى القبض على السّياق الثّقافيّ والفلسفيّ العميق للعبارات اللّغويّة في تراثنا وفي ما اقتبسناه من الآخر. كانت فكرة التقدّم جذّابة ومغرية: سننجح في اللّحاق بالأمم المتقدّمة شرط أن نعطّل عوامل التأخّر. المفارقة هي أنّنا لم نراهن على البناء الفكريّ بوصفه المحرّك الأساسي للتطوّر. المفارقة الأخرى هي أنّ التّعاطي مع التطوّر العلميّ الذي يجري بنسق سريع من خلال ثنائيّة ثقافيّة (نظام التّعليم الثّنائيّ اللّغة كما في تونس مثلا) قاد إلى ربط النّخب بالتبعيّة للغرب.

بين «الإصلاح الدّيني»، «تجديد الفكر العربيّ/ الإسلاميّ» و{إعادة قراءة التّراث» الخ... هل تجد هذه العناوين كافية لترتيب العلاقة مع الشّأن الدّيني؟

لا تكمن المشكلة في إضافة «عناوين» جديدة، فمفاهيم «الإصلاح الدّينيّ» و{التّجديد»، و{إعادة قراءة التّراث»، و{التّحديث»، و{التّنوير»، و{الاجتهاد»، و{قراءة النصّ الدّينيّ»، و{في الشّأن الدّينيّ» (إشراف عبد المجيد الشّرفي)، و{نقد الخطاب الدّينيّ» (نصر حامد أبو زيد)، و{قضايا في نقد العقل الدّينيّ: كيف نفهم الإسلام اليوم؟» (محمّد أركون)، و{قضيّة الفقه الجديد» (جمال البنّا)، و{تحديث الفكر الإسلاميّ» (عبد المجيد الشّرفي)، و{تحرير العقل الإسلاميّ (قاسم شعيب)، و{الإسلام وضرورة التّحديث» (فضل الرّحمان)... الخ لا تزال تؤكّد حضورها في النّتاج الفكريّ العربيّ. يمكن أن نحصي مئات الإصدارات، التي تتنوّع عناوينها ولكنّها تظلّ تنويعاً على المقاربة الحداثيّة للشّأن الدّينيّ. هذه العناوين هي مجرّد تلمّسات تحمل طموح الاقتراب من المسألة الدّينيّة، ولكن لا يجب أن نغفل عن التّشابه المضمونيّ رغم اختلاف العناوين.

لا يمكن أن نرتّب علاقتنا مع الشّأن الدّينيّ عبر تنويع العناوين بل بتنويع المقاربات، وبحلّ مشكلات المنهج.

وكيف يمكن التّعامل في مسألة التّجديد أو الإصلاح الدّيني مع العقل الذي أنتج التّراث وقدّسه؟

لا يوجد «عقل» يمارس وظيفته خارج التّاريخ. إنّه محكوم بالبنى الاجتماعيّة للمعرفة التي يرتبط بها. من هنا، نحتاج إلى التّشديد على تاريخيّة «العقل الذي أنتج التّراث وقدّسه»، كما فعل البروفيسور محمّد أركون في كتابه «تاريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ». لا معنى للتّجديد أو الإصلاح الدّينيّ عندما يجري خارج شرطه الأساسيّ: دراسة الموروث الدّينيّ ضمن سياق تاريخيّ. يجب أن نقرأ ماضينا الفكريّ وفق حاجات «السّلف» بوصفها إجابات عن أسئلة واقعهم السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ، وبوصفها مواقف من الصّراعات الاجتماعيّة داخل عمليّة إنتاج المعنى. نحتاج اليوم إلى صياغة علاقة جديدة بالموروث وبمكوّنات هويّتنا الجماعيّة بعيداً عن وساطة الأئمّة والشرّاح.

هل يمكن أن يأتي التطرّف الدّيني بما هو أكثر تطوّراً من «داعش»؟

لا أظنّ، فداعش هي فضيحتنا الكبرى وخطيئتنا التي لا عودة منها. داعش هي الرّعب الدّمويّ المجانيّ، وهي ليلنا البربريّ الطّويل. إنّها التّلخيص المكثّف للانحطاط الذي لم يكفّ عن تجديد دوراته منذ لحظة سلاجقة القرن الحادي عشر الميلاديّ إلى اليوم. داعش هي نموذج قمعيّ يفضح إفلاس السّياسات العربيّة، حيث يغيب أدنى تصوّر أصليّ للسّياسات الإسلاميّة التي يمكن أن ترتكز عليها الأسئلة المتعلّقة بالتّربية الدّينيّة. داعش هي مستنقع الزّيف الإيديولوجيّ الذي يشوّه صورة الإسلام بشكل متعمّد. داعش هي الإسلام بوصفه تجريداً صحراويّاً، فضيلة دون إله، سلعة رخيصة داخل سوق العولمة. داعش هي قناع الرّغبة في السّلطة حيث يتداخل المطلقان الدّينيّ والسّياسيّ. في كتابي الأخير «الإسلام النّقديّ: المثقّف النّقديّ والمسألة الدّينيّة» الصّادر في شهر فبراير 2015 حللت ظاهرة الأصوليّة الدّينيّة، أو الإسلام السّياسيّ، بوصفها تجسيداً لنبوءة المستشرق الفرنسيّ إرنست رينان: {إنّ المسلمين هم أوّل ضحايا الإسلام} ما دام أنّ أمّة الإسلام يجري تأسيسها خارج إنجازات العقل وداخل المثال الدّينيّ. لست متشائماً، لأنّ داعش رغم كونها فضيحة عربيّة قبل أن تكون صناعة غربيّة، وهي بالفعل كذلك، تأخذنا إلى نوع من البروتستانتيّة الحديثة. أنا أؤمن بأنّ ثمة بروتستانتيّة في حالة تشكّل الآن من داخل الرّعب الدّمويّ الدّاعشيّ. في المستقبل لن يسمح الإسلام بأن يصارع قضايا يجري إسقاطها عليه. يزداد الإسلام دنيويّة رغم العمى الذي يحجب عنّا الحقيقة.

وكيف يمكن ملاحظة ملامح «البروتستانتية» التي ستوقف التطرّف الدّيني والعمليّات الإرهابيّة بشكل أكثر سرعة وحسماً ووضوحاً؟

سأفاجئك بإجابة قد تبدو لك غريبة ومستحيلة، وهي أن نحافظ على إصرارنا الكامل بأن نخوض الصّراع مع الغرب الاستعماريّ بوصفه أولويّة مطلقة. «التطرّف الدّينيّ والعمليّات الإرهابيّة» هما أداتان من أدوات الحرب التي يشنّها الغرب علينا. في المقابل، لا يجب أن نعفي أنفسنا: السّلطة العربيّة مسؤولة عن مآسينا التي لا تنتهي.

بربرية الوجود السياسي

ما الذي يحدث من حولنا: مؤامرة ومكيدة تحقّق نجاحاتها، حرب أهليّة، فوضى طبيعيّة خلاّقة؟

باختصار، نجح الغرب في تحويل الصّحراء العربيّة القاحلة إلى أرض صراع، منذ أن طرق نابليون بونابرت أبوابنا الصّدئة سنة 1798.

هل ترى أنّ غياب الحداثة وأمراض المتديّنين وأزمة الهويّة ونشوء الأصوليّات والاستبداد والفساد وغياب الحرّية والعدالة وراء ظهور الوحش الإرهابيّ، أم ثمة أسباب أخرى؟

يفسّر عجزنا الكامل عن الوصول إلى الدّيمقراطيّة بربريّة وجودنا السّياسيّ، إذ عندما يقذف بالمجتمع في نفق الاستبداد المظلم فإنّ التوحّش يبتلع كلّ شيء. تتحدّثين عن «الوحش الإرهابيّ»: أليست السّلطة العربيّة المنشغلة ببقائها وديمومتها وحشاً أكثر ضراوة من الإرهاب؟ السّلطة العربيّة نموذج قمعيّ لا ينتج سوى معادله القمعيّ. من هنا، لا فرق بين إرهاب السّلطة وسلطة الإرهاب: كلاهما جسد متعفّن.

هل تمكّن العالم العربيّ من خوض المسكوت عنه، والتّفكير في اللاّمفكّر، وإيجاد المثقّف الكونيّ؟

لدينا مفكّرون كبار (نتاجات محمّد أركون/ محمّد عابد الجابري/ حسن حنفي/ هشام جعيّط/ عبد الله العروي/ هشام شرّابي/ عبد الكبير الخطيبي، إدوارد سعيد/ علي حرب). ما ينقصنا هو حركة نقديّة فاعلة. تمّ تجذير مفاهيم المسكوت عنه، والمفكّر فيه، والقطيعة المعرفيّة، والجهاز المفاهيمي، والخطاب، والأطر الاجتماعيّة للمعرفة، ومديونيّة المعنى، وتاريخ الخلاص، ومجتمعات الكتاب، والنصّ، والأسطورة، والمعقول، واللاّمعقول، والنّقد المزدوج، والتّاريخانيّة... الخ. ثمة بدايات جادّة، ونحتاج إلى أن نراكم الانجازات المعرفيّة القليلة وأن نضيف إليها. تظلّ مشكلة المنهج مؤرّقة دائماً. إنّها أخطر التحدّيات التي تواجهها الثّقافة العربيّة. خارج حلّ مشكلات المنهج ستظلّ المفاهيم معلّقة في فراغ عجزنا المعرفيّ.

«داعش»... والجماعات المتطرّفة مثلها، أتمثّل حالة طارئة أم امتداداً للتّراث إسلاميّاً طبيعيّاً؟

إنّها جزء من تاريخنا السّياسيّ: لقد مارس الخوارج، والقرامطة، والزّنج، والدّعوة العبّاسيّة جرائم لا تقلّ بشاعة عن جرائم داعش اليوم.

 ماذا نقول عن جرائم زياد بن أبيه، وعبيد الله بن زياد، والحجّاج بن يوسف، وخالد بن عبد الله القسريّ، والسفّاح، والمنصور؟

 داعش امتداد للاستبداد الشّرقيّ الذي لم يدرس بعد. إنّها جزء من البنية التسلّطيّة العربيّة.

الاحتشاد حول الهويّات

عند سؤال الباحث الطاهر أمين عن الثّورات العربية وتشكلها حروبا أهلية، فسر الاحتشاد حول الهويّات الصّغيرة المتصارعة قائلا: { وأين هي الثّورات في صحراء الثّقافة العربيّة؟. منذ {الثّورة العربيّة الكبرى 1916-1918» التي جرى تلفيقها عبر إغراء البدو بشقّ عصا الطّاعة في وجه «الرّجل المريض} والعرب لم يكفّوا عن خوض حروب الآخر ضدّهم، وباستعادة أيّام جاهليّتهم وإسلامهم. حروب {الهويّات الصّغيرة المتصارعة} تجد تبريرها الأساسيّ في أنّنا نعيش مأزقنا التّاريخيّ الحقيقيّ بوصفه عجزا مريرا عن اكتشاف تاريخنا الخاصّ. لا يجب أن ننسى تاريخا طويلا لمحاولات الغرب الاستعماريّ احتلالنا من الدّاخل، فمنذ قرنين، ونحن نتخبّط داخل عواصف الانكسار الدّاخليّ، الذي ولّدته ولا تزال تولّده حروبنا الأهليّة. نحن أسرى فهم مفقّر للهويّة يقود إلى التورّط في {سياسات للهويّة}، كما شدّد إدوارد سعيد. يكشف فكر الهويّة الذي حكم تاريخنا القوميّ والدّينيّ اليوم عن تناقضاته داخل هاوية الانقسام والتفتّت وإعادة تقسيم جسد الأمّة. «هذا الاحتشاد حول الهويّات الصّغيرة المتصارعة} هو التّلخيص المكثّف لعجز السّلطة العربيّة عن تجاوز أزمتها الخانقة: الوصول إلى الدّيمقراطيّة. من هنا، فإنّ هذا الانفجار الهويّاتي هو التّعبير الملموس عن واقع الانسداد المرعب الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربيّة. الحروب الأهليّة العربيّة هي جراحات الهويّات التي لم تسمح لها سلطة الاستبداد العربيّ بالتّعبير عن حقوقها السّياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة والثّقافيّة».

في سطور :

الطّاهر أمين مواليد 1960 بالجنوب الشّرقيّ (محافظة تطاوين/ تونس). كاتب وباحث في الإسلاميّات. صدر له: {بؤس الثّورة- تونس/ جانفي 2012، بؤس الثّقافة- تونس/ جانفي 2013، بؤس الهويّة- تونس/ أكتوبر 2013، - الأفق النّقديّ الجديد- تونس/ سبتمبر 2014، الإسلام النّقديّ: المثقّف النّقديّ والمسألة الدّينيّة}- تونس/ فيفري 2015.

الأدب والفنون بدائل الوعظ

هل يمكن للأعمال الأدبيّة والفنّية أن تكون بديلاً عن الخطاب الإصلاحيّ المباشر؟

نعم، بمعنى ما. تحتاج المجتمعات إلى أعمال أدبيّة وفنّية كبرى من أجل أن تكتشف أفاق تطوّر جديدة. بريطانيا تدين لمسرحيّها شكسبير؛ فرنسا لموليير وفولتير، اسبانيا لسرفانتس وبيكاسو ودالي. تجد اللّغة تطوّرها في الرّواية لا في المجامع اللّغويّة (لن تنكر العربيّة فضل نجيب محفوظ عليها). نحتاج اليوم إلى ما أسماه المغربيّ عبد السّلام بنعبد العالي بـ{ثقافة الأذن وثقافة العين»، لتجاوز الكمّ الهائل من المحظورات، وتأكيد الارتباط بالزّمان (الأذن) والمكان (العين).       

back to top