ترانيم أعرابي: ثقب العقول

نشر في 05-01-2016
آخر تحديث 05-01-2016 | 00:00
 عبدالرحمن محمد الإبراهيم حياتنا اليومية في مفهومها العام جزء من البيئة المحيطة بنا، فالبيئة لا تقتصر على الماء والغذاء والأرض، بل هي مؤثر قوي على الفرد وعقله وطريقة تفكيره، قد يتساءل القارئ كيف يكون ذلك والبيئة ليست أكثر من مجرد مؤتمرات حول الاحتباس الحراري، وذوبان القطب الشمالي، وكمية غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث من عوادم السيارات والطائرات وحتى المصانع؟ كيف نؤمن بتأثير البيئة على العقول، وغالب الحلول المطروحة على طاولة الاجتماعات هي تخضير وزراعة الأشجار وتقليل عمل المصانع، وتحديد عدد السيارات سنوياً، كما يحدث في الصين مثلاً؟

نعم هذا الأمر صحيح، لكن من الناحية العلمية البحتة فقط، فالإنسان ابن بيئته، فالرجل الذي يعيش في صحراء قاحلة مترامية الأطراف له من الصبر ما يعجز عنه من يسكن على ضفاف الأنهار وفي وسط الغابات المثمرة المزدحمة بصنوف الثمار والحيوانات، وسبحان الخالق العظيم كيف أعطى القدرة لجسم الإنسان أن يتأقلم مع البيئات والأجواء المختلفة.

هب أن رجلاً يعيش في أوروبا الباردة ساقته عقود البترول للحياة في قلب الربع الخالي من الجزيرة العربية أتراه سيموت من القيظ وشدة الحر؟ قد يكون لكن غالبهم يتكيف مع الجو والبيئة، وهذا من نعم الله علينا بني البشر، والدليل على ذلك قصص الرحالة الذين جالوا في الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر والعشرين كعبدالله فلبي وديسكون ومبارك بن لندن، وويلفرد ثيسجر، وغلوب باشا (أبوحنيك)، وأشهرهم لورانس المشهور بلورانس العرب، فكيف صبروا على حر الجزيرة العربية في ذلك الزمان حيث لا أجهزة تبريد حاضرة ولا مباني فخمة مبنية.

إذاً فالبيئة تأثيرها جلي على تصرفات الإنسان، فأهل السواحل أقدر على الاندماج مع الآخرين، لأنهم يستقبلون صنوفاً من البشر من خلال الموانئ المحيطة بهم، وهم كذلك أهل سفر وتجارة يتعرفون من خلال رحلاتهم على أصناف وشعوب مختلفة، فيأخذون المفيد ويطورون به ذواتهم، وقابليتهم للتغيير كبيرة، خصوصا إذا ما اقترنت بالاقتناع.

أما أهل الصحراء والجبال فأكثر انغلاقا، ينشغلون بالكفاح من أجل العيش أكثر من تفكيرهم بأمور أخرى، فالبدوي أو الأعرابي يتميز بالقوة والصلابة والصراحة، فليس عنده ما يخفيه في وسط صحراء تعريه، وهم أهل كرم وجود لأنهم يعلمون ما يقاسيه المسافر في الصحراء، فيكرمون الضيف لأنهم أحسوا بما يعانيه، ويحملونه دينا أن يعامل الآخرين بالكرم والبشاشة لأنهم قد يكونون ضيوفه يوما.

للطبيعة سحر على عقول وقلوب بني البشر، وهي جزء لا يتجزأ من البيئة المحيطة بالإنسان، وليس أبلغ من حكاية علي بن الجهم عندما وصفته المصادر بأنه "البدوي الحافي" قدم على الخليفة المتوكل لمدحه وللحصول على بعض المال فقال في مدح أمير المؤمنين:

أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُد               وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ

أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً     مِن كِبارِ الدِلا كَثيرَ الذَنوبِ

وهنا أدرك الخليفة المتوكل حقيقة البيئة التي جاء منها الشاعر، ففهم بفراسته أن في عقل ابن الجهم ثقبا كانت بيئته الجافة سببا في وجوده، وذلك لأنه وصف كما رأى، ولعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم ‏لطيف والجسر قريب منه، فأقام ستة أشهر على ذلك ثم استدعاه الخليفة لينشد، فقال:‏

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ

جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن

سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ

فقال المتوكل: أوقفوه، فأنا أخشى أن يذوب رقة ولطافة!

فمن الذي غيّر ابن الجهم البدوي الحافي إلى أديب رقيق المشاعر، لم تغيره سوى البيئة التي انتقل إليها واندمج فيها حتى سدت ثقبا وجفوة في أدبه، وأخرجت أديبا رقيقا لطيفا شاعرياً، فرويدكم يا سادتي على الناس، وابحثوا عن الثقوب في عقولهم وسدوها، كما فعل الخليفة المتوكل، فالبيئة لها دور كبير في رقة الإنسان وجلافته، وصبره وقلة حيلته، وحيائه وجرأته، وتفكيره وتدبيره، فكونوا له عوناً ولا تزيدوا الثقب اتساعا فتعينوا البيئة عليه.

شوارد:

«لقد ثبت بالتجربة أنه لا شيء أقوى أثرا من البيئة إلا العقيدة!»

محمد قطب

back to top