6/6 مكافحة الفساد و«فساد المكافحة»

نشر في 29-12-2015
آخر تحديث 29-12-2015 | 00:10
 يوسف الجاسم ليس مستغرباً إلغاء وجود هيئة مكافحة الفساد كنتيجة لحكم المحكمة الدستورية بعدم توافر شرط الضرورة بمرسوم تشكيلها، إنما المستغرب صدور ذلك المرسوم في فترة حل المجلس، تحت مسوّغ الضرورة الذي تنص عليه المادة ٧١ من الدستور، ومقتضاها أن "السلطة التقديرية تنشأ لسمو الأمير لإصدار مراسيم الضرورة في فترات عطلة أو حل مجلس الأمة حال استيفاء الأمر المسبب لإصدار المراسيم لشروط ثلاثة:

"حدث مفاجئ خلال فترة عطلة المجلس أو فترة حلّه تستوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير"، وهي شروط تتصل بالعوارض الطارئة التي تستوجب العلاج حالاً.

وعليه يكون الأمر المستغرب مع افتراض "حسن النوايا!" هو صدور المرسوم خلال غياب المجلس المبطل الأول، وكان تاريخ الصدور ٢٠١٢/١١/١٩، ولم يتبق على الانتخابات النيابية إلا ١١ يوماً، حيث جرت في الأول من ديسمبر لنفس العام.

فهل الفساد الضارب أطنابه في جوانب الدولة كان طارئاً ومفاجئاً حين صدور المرسوم، ولا يحتمل علاجه تأخير ١١ يوماً بمشروع قانون يكتسب صفة الثبات والاستقرار، وليس للمزايدة على مطالب الناس وقوى المعارضة بمحاربة الفساد، أو من باب رفع العتب؟

كان من المفترض صدور القانون بعد انتخاب المجلس لتدعيم مصداقية الحكومة في أمرين:

الأول: محاربة الفساد من خلال آليات إجرائية غير متوافرة في الجهات الرقابية والعقابية القائمة كديوان المحاسبة والنيابة العامة.

الثاني: حسم قضية الإفصاح عن الذمة المالية الذي تضمّنه قانون الهيئة

والمتعارف عليه بقانون "من أين لك هذا؟"، وهو من أهم الشباك الرادعة لنهم بعض شاغلي الوظائف العامة والقيادية منها على الأخص، الذين يسيل لعابهم من فيض ما يمكن أن تلتهمه ضمائرهم الفاسدة من كسب غير مشروع عبر مسؤولياتهم التي يتسنّمونها ورائدهم في عملهم خلال فترات ولايتهم المقولة الانتهازية "من صادها عشّى عياله!". والشواهد على ذلك تتراوح خلال مرحلة ما بعد التحرير بين اختلاسات "الناقلات" بالأمس و"التأمينات". اليوم! وما على المتضرر إلا اللجوء إلى القضاء، أضف إلى ذلك فساد البلدية اللي ماتشيله البعارين والبيروقراطية الحكومية التي تحقق لنا مكانة عالمية متواترة بالتراجع عاماً بعد عام!

كان على الحكومة ومستشاريها القانونيين، وخصوصاً "إدارة الفتوى والتشريع"، التثبت من صواب إصدار التشريع بصيغة مرسوم الضرورة، كي لا تتحمل الدولة نفقات وتبعات صدوره الخاطئ، و"إلغائه" الذي كان مرتقباً! فضلاً عن خلق حالة الارتباك بشأن المراكز القانونية والأدبية التي ترتبت سواء على مصير الجهاز الوظيفي الذي يرأسه واحد من رجال القضاء الأفاضل ومعاونيه من أجهزة الهيئة، أو التي ترتبت على إحالات عدد من كبار الموظفين للتحقيق أمام النيابة العامة ووقفهم عن أعمالهم، مع كل ما ترتب عليه من إضرار بسمعتهم وأوضاعهم الوظيفية تحت مبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، وأضِف على ما تقدم ما تم الإفصاح عنه من ذمم مالية لكبار المسؤولين وغيرهم ممن بادر، في حين أن من تلكأوا في ذلك أصبحوا هم الفائزون!

إن ما حدث يرسّخ الواقع المؤلم بفشلنا في الإدارة وسوء اتخاذ القرارات حتى المتعلقة منها بمصير الدولة وقضاياها الرئيسية التي شابت رؤوس ولداننا وهي تنادي بحّلها، وعلى رأسها مكافحة الفساد.

المهم الآن التدارك الصائب لأخطاء الحكومة التي تقع بها كلما انفردت بالقرار، وهنا تنهض مسؤولية مجلس الأمة عن تصويب المسار، ووضع هذه القضية الوطنية الكبرى على السكّة الآمنة تشريعياً وإجرائياً، وكذلك فإن المجلس مسؤول عن "تدعيم" لا "تقليم" أظافر الهيئة في معالجة الفساد، وإلحاقها كجزء من سلطات الرقابة في الدولة، لا كتابع لمجلس الوزراء، للنأي بالحكومة عن مواقع الشبهات مع احترامنا للجميع.

ولعل من محاسن النائب الراحل نبيل الفضل أن عكف قبل وفاته، رحمه الله، على إعداد مشروع بديل متكامل لهيئة مكافحة الفساد لسد فراغ إلغاء المرسوم، وبكل التقدير علمنا بتبني الأخ الفاضل مرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة مقترح الفقيد (بو براك) ليطرحه على المجلس لإقراره، ونأمل أن يتم ذلك في أول جلسة قادمة له، وهو ما أكده رئيس المجلس قبل يومين، وهذا هو العشم في السلطة التي تقع على عاتقها مسؤولية التشريع والرقابة في آن معاً.

إن بطء المعالجة لهذه القضية الهامة والتسويف فيها سيوقعنا في مأساة "فساد المكافحة، لا مكافحة الفساد!"، وهو ما سيئِدها في مهدها، خاصة بعد أن سمعت من أحد النواب "وآمل ألا تكون له أغلبية مؤيدة" بأنه غير مقتنع بمبدأ إفصاح الوزراء والنواب عن ذممهم المالية، ومن وجهة نظره فإنه لأمر تعجيزي أن يطلب منهم ذلك من خلال قانون مكافحة الفساد، متناسياً أنه لو جلس في بيته فلن يسأله أحد عن مضامين حساباته، وهو شأن كل الديمقراطيات المحترمة في العالم.

أخيراً، فإن "فساد المكافحة" يمثل خطورة أكبر من الفساد نفسه، الذي جثم ولايزال على صدورنا دهوراً طويلة، وانتهينا معه إلى قضية كبرى لا تزال عالقة في ذاكرة المجتمع وذمم نواب الإيداعات المليونية!

والله يستر من القادم!

back to top