العالِم النفسي شيلدون سولومون:

قلقنا من الموت يجعلنا نكره المختلفين عنا

نشر في 13-07-2016
آخر تحديث 13-07-2016 | 00:04
No Image Caption
الخوف من الموت رفيقنا الدائم. أجرى العالِم النفسي شيدلون سولومون أبحاثاً عن تأثير ذلك القلق على حياتنا واكتشف أن تذكّر الموت قد يُخرِج أسوأ ما فينا. أجرت صحيفة “شبيغل” مقابلة معه وعادت بهذه الأجوبة.
أمضيتَ مسيرتك المهنية كلها تقريباً وأنت تركّز على موضوع الخوف من الموت. هل تتذكّر أول مرة اختبرتَ فيها هذا الخوف؟

كنت في الثامنة من عمري فقالت لي والدتي في إحدى الليالي: «وَدِّع جدتك لأنها لن تبقى موجودة لفترة طويلة». ثم ماتت في اليوم التالي لأنها كانت مصابة بالسرطان. بعد ذلك صعدتُ إلى الطابق العلوي وبدأتُ أفتّش مجموعات الطوابع التي أحتفظ بها. كنت أملك طوابع أميركية كثيرة تطغى عليها صور رؤساء راحلين. رأيتُ جورج واشنطن: كان رجلاً عظيماً ومع ذلك مات. ثم رأيتُ توماس جيفرسون. ثم اجتاحني ما يشبه الصاعقة النفسية فاندهشتُ مما يحصل وشعرتُ بأن هذا الوضع لا يناسبني. أدركتُ فجأةً أنه مصيري الحتمي.

ما زالت تلك الصدمة تؤثر بك بعد مرور خمسين سنة؟

نعم. وفق الكلمات الجميلة التي استعملها عالِم الأنثروبولوجيا إرنست بيكر، يسود شكل كامن من الهلع دوماً تحت سطح الوعي. يعطينا دماغنا الأمامي الكبير القدرة على التفكير بطريقة مجرّدة ورمزية، ونحن أذكياء بما يكفي كي ندرك أن مدة حياتنا تبقى محدودة، مثل جميع الكائنات الحية. تجتمع هذه العوامل لإنشاء رعب وجودي يُشعِرنا بالعجز.

لكن رغم قلقك الشديد، تبدو سعيداً...

يجب أن يتعايش كل شخص منا مع هذا الرعب. يدّعي بيكر أننا نغلّف نفسنا بأنظمة من القناعات الرمزية والمصمَّمة بحذر، أو ما يسمّيه علماء الأنثروبولوجيا «ثقافة»، كي نتمكّن من النهوض في صباح كل يوم. تعطي الثقافة لكل واحد منا شعوراً بأنّ الحياة لها معنى وأننا نحمل قيمة مهمة عبر التأكيد على مفهوم الخلود بأسلوب حرفي أو عبر فكرة الجنّة أو استمرارية الأرواح في الحياة الأخرى أو المفهوم القائل إن جزءاً من ذواتنا سيستمر رغم انقضاء الزمن نتيجة إنجاب الأولاد أو جمع ثروات ضخمة أو إنتاج أعمال فنية أو علمية عظيمة. لكن لا يكون أي نظام من القناعات الرمزية قوياً بما يكفي لاستئصال القلق الذي يسبّبه إدراك الموت بالكامل.

هل تعاني أكثر من غيرك بسبب هذا الرعب الوجودي؟

لا أظن ذلك. بين عمر الخامسة والتاسعة تقريباً يكتسب الأولاد، بفعل نضجهم الفكري والعاطفي، مستوىً من الوعي الذاتي فيدركون بفضله أنّ أهاليهم لا يعرفون كل شيء ولا يتمتعون بسلطة مطلقة بقدر ما كانوا يظنون وأنهم معرّضون للخطأ وفانون. في هذه المرحلة تحديداً، نغيّر ولاءنا النفسي وننتقل من الاتكال الحصري على أهالينا كأساس للأمان النفسي إلى الثقافة عموماً. بدل أن يُحسِن الأولاد التصرف بكل بساطة، يفكرون بأن يكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم، بحسب البناء الثقافي الذي ترتكز عليه هويتنا.

متى قررتَ أن تُركّز مسيرتك المهنية على الخوف من الموت، علماً أنه موضوع قاتم جداً؟

حدث ذلك عن غير قصد، كما يحصل دوماً في مجال العلوم. كنت موجوداً في مكتبة وأبحث عن بعض كتب فرويد فشاهدتُ كتاباً عليه نقطة خضراء مثيرة للاهتمام. كان مؤلّفه إرنست بيكر. في أول مقطع من الكتاب، كتب بيكر: «أريد أن أكتشف الدوافع وراء سلوكيات الناس». ففكّرتُ بأنني أريد استكشاف هذا الموضوع بدوري!

يتناول المفكرون موضوع الخوف من الموت منذ قرون.

هذا صحيح. تعود هذه الفكرة إلى أيام العهد القديم وحتى العصور القديمة التي تسبقها. تكثر الأعمال الفكرية، الفنية والفلسفية واللاهوتية، التي تعتبر الوعي البشري لمفهوم الموت محوراً نفسياً ديناميكياً يُستعمَل لتوجيه سلوكنا. كان علماء النفس الأشخاص الوحيدين الذين تجنبوا هذا الموضوع. حين بدأتُ العمل في هذا المجال، اعتبره الجميع سخيفاً.

لماذا؟

قالوا لي: حتى لو اعتبرنا هذه الأفكار مثيرة للاهتمام، إلا أنها تبقى غير علمية وترتكز على التكهنات في معظمها.

كيف تمكّنتَ من إقناعهم بالعكس؟

أظن أنها مساهمتنا الصغيرة في هذا المجال. قلنا لِنحاول أن نكتشف مدى تأثير الخوف من الموت على السلوك. لِنُخضِعْه لفحص تجريبي. استفدنا مجدداً من حادث عرضي. شاركت طالبة جامعية في حصة خاصة بموضوع الموت وطُلب من زملائها في الصف أن يدوّنوا ما قد يشعرون أو يفكرون به إذا كانوا سيموتون جسدياً. سمعنا بما يحصل هناك وقررنا أن نقوم بالمثل. لِنَطلب من مجموعة أشخاص الإجابة على تلك الأسئلة عن الموت، بينما نطلب من مجموعة أخرى الإجابة على أسئلة مرتبطة بتجربة سلبية أخرى مثل الذهاب إلى طبيب الأسنان أو التعرّض لحادث سيارة. ثم لِننتظر كي نرى إذا كان أعضاء المجموعتين يتصرفون بطريقة مختلفة.

هل نجحت التجربة؟

أجرينا أول دراسة مع قضاة في أريزونا، فطلبنا من نصف القضاة أن يفكروا بموتهم ثم طلبنا منهم أن يحددوا قيمة كفالة لامرأة متّهمة بالدعارة، علماً أن هذه الجريمة كانت الأكثر شيوعاً في أريزونا حينها. بلغ متوسط الكفالة المرتبطة بتلك الجريمة 50 دولاراً، لكن حين تذكّر القضاة أنهم فانون قبل تحديد قيمة الكفالة، فرضوا مبلغاً أعلى بتسع مرات وصل إلى 455 دولاراً.

لهذا الحد كان الفرق كبيراً؟

ما زالت النتيجة تذهلني. يُفترض أن يكون القضاة قد تدرّبوا على تطبيق القانون بطريقة منصفة ومنطقية. لكن حين فسّرنا لهم ما كنا نفعله، قالوا إن استطلاعنا الغبي لا يمكن أن يؤثر على أحكامهم بأي طريقة. لكن تكررت النتائج في مناسبات عدة، هنا وفي بلدان أخرى. تعددت الحالات التي تضخّمت فيها العقوبات ضد مرتكبي التجاوزات الأخلاقية بعد تذكير الناس بالموت.

في كتابك، تذهب إلى حد اعتبار نجاح هتلر مرتبطاً بخوف الألمان من الموت.

لا بد من توخي حذر شديد في هذا المجال. يجب أن نشتبه بأي تفسير أحادي لأي مفهوم. في كتابنا، ربما بالغنا في طريقة معالجة الموضوع، وقد فعلنا ذلك حتماً، لأننا نظن أن علماء النفس أغفلوا عن احتمال أن يؤثر إدراك الموت على سلوك الناس. في ما يخص هتلر، وقعت هزيمة خلال الحرب العالمية الأولى. وقد فُرضت شروط مهينة جداً على الألمان وحصل اضطراب اقتصادي بفعل الكساد العظيم. مهّد هذا الخليط من العوامل لظهور قائد جذاب.

لكن تختلف الِمحَن الاقتصادية والمشاعر الوطنية المجروحة عن الخوف من الموت.

لا داعي للتفكير بالموت كي تترسخ هذه المخاوف في داخلنا. لنأخذ مثالاً آخر حلّلناه عن قرب: قبل اعتداءات 11 سبتمبر، كانت نسبة تأييد الرئيس جورج بوش الإبن متدنية في الاستطلاعات الرئاسية بقدر عدد ضئيل من الرؤساء تاريخياً. لكن بعد فترة قصيرة، حصد أعلى نسبة تأييد. ظننا أن اعتداءات 11 سبتمبر شكّلت مؤشراً بارزاً لتذكير الناس بالموت. انتشرت فكرة مفادها أن الإرهابيين أشرار لكنهم أذكياء أيضاً. ما الذي استهدفوه؟ البنتاغون وبرجَي «مركز التجارة العالمي» وربما البيت الأبيض. لقد استهدفوا أهم رموز للعظمة الأميركية العسكرية والاقتصادية والسياسية. وتكثر الأدلة على أنّ الناس في مونتانا صُدِموا بقدر المقيمين في مانهاتن. لذا كان الحدث مؤشراً رمزياً وحرفياً لتذكير الناس بحتمية الموت.

ستخبرنا الآن على الأرجح بأن دونالد ترامب يستغل هذه المخاوف نفسها.

هذا صحيح. تواجه الولايات المتحدة منذ فترة مشكلة انعدام الأمان الاقتصادي ويشعر المنتمون إلى الجزء الأدنى مستوى من الطبقة الوسطى، وتحديداً الذكور البيض غير المتعلّمين، بأن وجودهم أصبح مهدداً الآن بفعل التغيرات الديمغرافية الحاصلة في الولايات المتحدة حيث يوشكون على التحوّل إلى أقلية. لكن ظهر ترامب ليقول: سأعيد العظمة إلى الولايات المتحدة مجدداً! سأبني سوراً عظيماً لمنع دخول المسلمين! قمنا بأول دراسة منذ بضعة أشهر واكتشفنا أن المشاركين عبّروا عن استعداد متزايد للتصويت لصالح ترامب حين تذكّروا حتمية موتهم.

تبدو مقتنعاً بأن الجوانب القاتمة في هويتنا الثقافية تكون العناصر الوحيدة التي تتضخم بفعل الخوف من الموت. هذا ما يجعلنا قوميين وكارهين للأجانب وغير متسامحين. لكن لماذا؟ تتعدد العناصر الإيجابية في الثقافة أيضاً.

ربما نهتمّ بكل بساطة بقدرة الشر الهائلة التي تكمن في داخل كل شخص منا (يضحك). لكن تكون المؤشرات التي تذكّرنا بالموت كفيلة بتضخيم أي قناعات مسبقة. يتراجع ميل المحافظين إلى تقبّل الليبراليين حين يتذكّرون أنهم فانون. لكن في المقابل يزيد حب الليبراليين للمحافظين حين يتذكرون أنهم فانون لأنهم يصبحون أكثر تسامحاً وانفتاحاً. نعلم أيضاً أن الناس الذين يتذكرون أنهم فانون يصبحون أكثر سخاءً ولا يترددون بفعل الخير حين يُطْلَب منهم ذلك. لكن يجب أن نفهم المظاهر الخبيثة التي تترافق مع إنكار الموت. القلق من الموت يجعلنا نكره الناس المختلفين. لذا لا نشعر بالراحة في تعاملنا مع جسمنا ووظائفه. فنتحوّل إلى مستهلكين طائشين للمنتجات. يدفعنا هذا الوضع إلى التسوق وزيادة الأكل والشرب والتدخين لكنه يُضعِف راحتنا الجسدية والنفسية في آن.

هل ساعدتك أبحاثك على التصالح مع فكرة الموت؟

أسمع هذا السؤال دوماً: كنتَ تفكر بالموت طوال 40 سنة. هل غيّرك هذا التفكير؟ هل خفّف خوفك من الموت؟ لكني أجيب بالنفي للأسف. بدرجة معينة، أشعر بأن هذه الأبحاث تعكس آلية إنكار الموت الخاصة بي. لكني أفكر أحياناً بأنني أحرزتُ بعض التقدم وأنني أقطع خطوات صغيرة نحو التصالح مع الموت.

على طريق التصالح مع الموت، هل تستفيد حين تفكّر بأنّ الخلود قد يكون أسوأ من الموت؟

هذا صحيح! لو كنا خالدين، كانت الحياة لتفقد معناها لأن جميع أفعالنا ستكون بلا عواقب. لتخفيف وَقْع زوالنا الحتمي، يجب أن نتأمّل فظاعة أن نعيش إلى مالانهاية. ومع ذلك، إذا قيل لي إن حياتي ستنتهي بعد عدد معين من الأيام، سأرغب حتماً في العيش لمدة إضافية.

وحين يأتي ذلك اليوم: كيف تريد أن تموت؟

أريد أن أجلس في هذا المكان وأملأ فمي بالشوكولا ثم أغفو بكل بساطة.

كتبتَ أن لحظة بلوغ ذلك الوعي كانت محورية في مسار تطور البشرية. متى حصل ذلك بحسب رأيك؟

تكون الحجج التطورية مبنية بالضرورة على التكهنات. لكننا نعتبر أنّ البشر تعلّموا أن يستبقوا المستقبل ويخططوا ويطرحوا الأسئلة عن العالم حين بلغوا أعلى مستويات الوعي الذاتي. ثم بدأت مرحلة بات فيها الوعي يطرح إشكالية كبرى في ظل غياب تطور آليات الإنكار التي تسمح لنا بالاستفادة القصوى من الوعي الذاتي من دون أن يطغى علينا القلق من الموت. يجب أن نعود أيضاً إلى الصحوة المعرفية قبل 50 ألف سنة تقريباً. تتزامن هذه الحقبة مع بداية ظهور السلع وحلي الجسم والفنون المرتبطة بمراسم الدفن. تمنعنا هذه المظاهر كلها من إدراك العناصر المأساوية للظروف البشرية بكل وضوح.

هل كان الفن مجرّد طريقة لإنكار الموت؟

نعم. قال برنارد شو: «من دون الفن، كانت فجاجة الواقع لتجعل العالم لا يُطاق». وكتب رالف والدو إمرسون: «نطير نحو الجمال بعيداً عن أهوال الوجود المحدود».

يقدّم الدين أملاً بالخلود بشكلٍ أوضح من الفن؟

نعم ويُعتبر هذا الجانب على الأرجح أهم دور تؤديه جميع الأديان. أحب فكرة أن يكون الدين طريقة مبتكرة على نحو مدهش كي تتمكّن مجموعات كبيرة من أشخاصٍ لا رابط بينهم من التوافق وتعزيز التماسك والتنسيق في المجتمع. بدأ كل شيء مع الإيقاع. كنا نرقص ونقرع الطبول ونغني قبل فترة طويلة من استعمال اللغة الخطابية. ومع ذلك، لم يذهب الفاتح خوان بونس دي ليون بحثاً عن «ينبوع التماسك الاجتماعي». بل ذهب للبحث عن «ينبوع الشباب». ولم يتخيّل الأفراد الذين بنوا الأهرام صور أشخاص متكاتفين، بل فكروا بأنهم يريدون العيش إلى الأبد.

هل تتغيّر مواقفنا من الموت على مر حياتنا؟ ماذا يحصل مثلاً حين يشخّص الطبيب مرضاً مميتاً؟ هل يؤجج هذا الموقف خوف المريض من الموت؟

إنه سؤال ممتاز لكني لا أعرف الجواب. نريد أن نكتشف الجواب وبدأنا نحلل الآن وضع الأشخاص المصابين بمرض عضال. تعمل زوجتي كمستشارة في التعامل مع الحوادث المفجعة في مركز محلي وتتحدث عن اختلاف تام في ردة فعل الناس تجاه الأمراض المميتة. قد يُبدون أحياناً ردة فعل متوقعة، فيشعرون بقلق شديد وخوف هائل ويصيبهم الإحباط. لكن في حالات أخرى، يشعرون بقيمة الحياة. يكون المرض في حالتهم أشبه بصحوة نفسية تُطلِق عملية تجعلهم يستمتعون بآخر لحظات حياتهم.

إذا كنا فانين في مطلق الأحوال، ما أهمية أن نعيش لثلاثين سنة إضافية أو سنة واحدة فقط؟

كتب الروائي السويدي هنينغ مانكل المتخصص بأدب الجريمة عن هذه المسألة تحديداً بأسلوب آسر. لقد كتب عن ردة فعله حين علم بإصابته بسرطان مميت وكيف شعر، طوال 10 أيام، بأنه في طريقه إلى الجحيم. اعتبر نفسه رجلاً مشلولاً ومرعوباً ثم وصف بأسلوب أدبي مؤثر وجميل كيف أدرك أن لا أهمية لعدد السنين التي نعيشها. ثم تمكّن من العودة إلى الحياة بعدما أدرك هذه الحقيقة.

back to top