التفافات غريبة في حمضك النووي تنظّم حياتك!
الحمض النووي معروف بشكله الرمزي الشهير، أي الحلزون المزدوج الذي وصفه جيمس واتسون وفرانسيس كريك للمرة الأولى منذ أكثر من 60 سنة. لكن نادراً ما تتخذ الجزيئة هذا الشكل في الخلايا الحية.بل يبدو شكل الحمض النووي الحلزوني المزدوج مغلّفاً في أشكال معقدة يمكن أن تؤدي دوراً مؤثراً على طريقة تفاعله مع الجزيئات الأخرى. وقالت لين زيكدريتش، اختصاصية في الفيزياء الحيوية في كلية بايلور للطب وواحدة من الباحثين الذين قادوا دراسة عن الحمض النووي شديد الالتفاف: «يكون الحمض النووي نشطاً في طريقة تنظيمه أكثر مما كنا نظن. لا تبقى الجزيئة جامدة ولا تنتظر بكل بساطة أن تلتصق بها البروتينات».
نُشرت أحدث النتائج التي توصلت إليها زيكدريتش في مجلة Nature Communications وهي تتناول الطبيعة الدينامية للحمض النووي شديد الالتفاف وتشير إلى حل محتمل جديد لواحدة من أقدم الأحجيات بشأن الحمض النووي. تبقى أحرف الرمز الجيني المعروفة بـ}القواعد} خفية داخل الشكل الحلزوني: كيف تتمكن الآلية الجزيئية التي تقرأ ذلك الرمز وتنسخ الحمض النووي من اختراقه إذاً؟ يمكن أن تفكّ بروتينات متخصصة أجزاءً صغيرة من الجزيئة عند نسخها وتحويلها إلى حمض نووي ريبي. لكن يشرح عمل زيكدريتش كيف ينفتح الحمض النووي من تلقاء نفسه. بفضل التفاف الحمض النووي، يمكن أن تظهر القواعد الداخلية نحو الخارج ومن دون مساعدة أي بروتينات. أثبت بحث إضافي أجراه ديفيد ليفينز، عالِم أحياء في «معهد السرطان الوطني»، أن عملية النسخ تغير شكل الحمض النووي في الخلايا البشرية الحية، فتضيّق بعض أجزاء الالتفاف وتوسّع بعضها الآخر. يسبب هذا الضغط تغيرات في الشكل، فينفتح الشكل الحلزوني وتصبح قراءته ممكنة.يلمح البحث إلى وجود لغة لم تخضع للدراسة بعد عن بنية الحمض النووي التي تستطيع توجيه مجموعة من العمليات الخلوية. أوضح كريغ بنهام، اختصاصي في علم الأحياء الرياضي في جامعة كاليفورنيا – ديفيس: {من اللافت أن يتصرف الحمض النووي بهذه الطريقة وأن تحتل بنيته أهمية كبرى لدى الكائنات الحية}.لا وقت للتراخيلفهم حقيقة الحمض النووي شديد الالتفاف، لنتخيل أننا نلفّ خيطاً ثم نفلته قبل أن نلفّه بما يكفي مجدداً كي ينطوي على نفسه. تفرض درجة اللف ضغطاً على الخيط وتحدد الشكل الذي يتخذه.يعمل الحمض النووي بالطريقة نفسها، فهو يفضل مثل الخيط أن يبقى في وضع مريح، بمعنى أن يحتفظ بالشكل الحلزوني المزدوج. لكن نادراً ما يتراخى الحمض النووي. فهو يتعرض لهجوم متواصل من الجزيئات التي تتصل به: تتفكك الأنزيمات وتتراخى ثم تنسخ الحمض النووي، وتحدد الجزيئات الجينات الناشطة والجينات الصامتة، وتجمع البروتينات جزيئات طويلة وتجعلها بحجم مقبول. تعطي هذه الجزيئات كلها أشكالاً جديدة للحمض النووي، فتمنعها من العودة إلى الشكل الحلزوني البسيط. تعكس هذه التفاعلات العمليات الحاصلة داخل الخلية التي تُعتبر أساس جميع مظاهر الحياة. تقرر الخلية مثلاً تنشيط جينة معينة عبر مجموعة معقدة من الجزيئات التي تعمل في المكان الصحيح وفي الوقت المناسب. تشكل التفاعلات بين البروتينات والحمض النووي أهدافاً أولية للأدوية وتطرح أفكاراً جديدة عن الأمراض. لنتصور أن يتمكن دواء من إعاقة نشاط جينة مرتبطة بالسرطان من دون التأثير على جينات أخرى.لكن يصعب أن ندرس هذه التفاعلات للأسف لأن الجزيئات البيولوجية تغير أشكالها بسهولة فائقة. سيجد الميكانيكي صعوبة كبرى في إصلاح سيارة إذا كانت قطعها تتغير باستمرار!لفهم البنية المعقدة لهذه التفاعلات على مقياس النانو، يحوّل العلماء الجزيئات إلى بلورات ويجمّدون شكلها أمام الكاميرا. يستعمل معظم هذه الدراسات خيوطاً قصيرة من الحمض النووي المتراخي (بالشكل الحلزوني المزدوج) نظراً إلى سهولة التلاعب بها وتراجع كلفتها. لكن قد لا تعكس هذه الصورة المشهد كله. غالباً ما يتصرف الحمض النووي المتراخي بطريقة مختلفة عن تلك الموجودة في الخلية فيلتفّ حول جميع أنواع البروتينات.أمضت زيكدريتش ومساعدوها العقدين الأخيرين وهم يصنعون أجزاءً صغيرة من الحمض النووي شديد الالتفاف بما يشبه سلوك الحمض النووي في الخلية الحية. يأخذون خيطاً قصيراً من الحمض النووي ويحركونه، مرة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أكثر، باتجاه الالتفاف الأصلي أو عكسه. ثم يلصقون الأطراف ببعضها. فيحصلون في النهاية على دائرة صغيرة من الحمض النووي الذي يتخذ اتجاهاً معيناً.أثبتت زيكدريتش ومساعدوها وزميلها جوناثان فوغ من كلية بايلور للطب وباحثون آخرون أن هذه الالتفافات المتحولة ترقص وتتأرجح وكأنها تشارك في رقصة باليه مجهرية! يمكن أن تتخذ كل جزيئة مجموعة متنوعة من الأشكال، بدءاً من الدوائر البسيطة وشكل الرقم «8» وصولاً إلى أشكال المضارب والأغلال والإبر والقضبان. قال ديويت سامرز، عالم رياضيات في جامعة ولاية فلوريدا في تالاهاسي: «يكون الحمض النووي الخطي صلباً وغير مرن. لكن عند ثنيه وتحويله إلى دائرة صغيرة، تُفتَح نقطة الوصل وتتخذ عدداً كبيراً من الأشكال المثيرة للاهتمام. إنها ظاهرة غير متوقعة بأي شكل». تقدم أحدث دراسة أجرتها زيكدريتش أوضح صورة عن هذه الحلقات الصغيرة. التقط الباحثون صوراً مجهرية للدوائر الفردية الصغيرة بأشكال متنوعة. من خلال جمع الصور مع نماذج محوسبة ومعقدة من تصميم عالِمة الأحياء سارة هاريس في جامعة ليدز، تمكنوا من توقع حركات كل جزيئة بدقة.صحيح أن العلماء يعرفون أصلاً بعض المعلومات عن وظائف الحمض النووي شديد الالتفاف، لكن من خلال الجمع بين التقنية المجهرية والتصاميم المبتكرة في دراسة جديدة، يمكن إعطاء صورة أكثر دقة. أوضح ستيفن ليفين، اختصاصي في الفيزياء الحيوية ومهندس بيولوجي في جامعة تكساس – دالاس لم يشارك في الدراسة: {بالنسبة إلى الكثيرين في الأوساط البيولوجية، وحدها الأدلة الملموسة تكون مقنعة. يمكن أن نعرض نماذج رياضية، لكن ما لم نملك بعض البيانات البنيوية المقنعة، يصعب أن نجعل الناس يفهمون حقيقة ما يحصل}.كشف النقابيعلم الباحثون منذ السبعينيات أن لفّ الحمض النووي في الاتجاه المعاكس للشكل الحلزوني، أو ما يسمى {الالتفاف السلبي الشديد}، قد يفكّ خيطَين. يحقق هذا التفكك هدفاً مزدوجاً، فهو يخفف الضغط الجزيئي المحصور ويكشف عن الرمز الخفي داخل الشكل الحلزوني، ما يسمح بالوصول إلى الآليات الجزيئية التي تنسخ الحمض النووي وتصنع الحمض النووي الريبي.يأمل العلماء أن تمنح الأحرف الجينية الجديدة والمصنوعة في المختبر قوى جديدة للحمض النووي.لكن بعد إتمام ذلك العمل، طور العلماء تقنيات جديدة لقراءة سلسلة من الأحرف الأساسية في الجينوم، فأطلقوا ثورة في مجال التسلسل الجيني. قال بنهام: {فتح هذا التسلسل احتمالات كثيرة، لكنه شتّت انتباه الجميع في الوقت نفسه فأصبحت الأسئلة [البنيوية] تُعتبر بالية فجأةً}.على مر ثلاثة عقود، افترض معظم العلماء أن الالتفاف الشديد لم يكن مهماً جداً بالنسبة إلى الخلايا المعقدة التي تكون مزودة بأنزيمات خاصة لفكّ الحمض النووي المربوط. تساهم هذه الأنزيمات في منع تراكم أي ضغط مزعج، لكنها لا تكون فاعلة بالكامل. في عام 2008، قاد ليفينز من {معهد السرطان الوطني} فريقاً من الباحثين، فرصدوا التفافات شديدة في الخلايا البشرية وسرعان ما تجدد الاهتمام ببنية الحمض النووي عالية المستوى.اكتشف ليفينز ومساعدوه أن النسخ يلفّ الحمض النووي ثم يترك أثراً من الحمض النووي قليل الالتفاف (أو شديد الالتفاف على نحو سلبي) في المرحلة اللاحقة. واكتشفوا أيضاً أن تسلسل الحمض النووي ينعكس على درجة تفاعل الجزيئة مع الالتفاف الشديد. حدد الباحثون مثلاً سلسلة خاصة بالحمض النووي وهي قابلة للاختراق عند زيادة الضغط مثل أي نقطة ضعيفة في أنبوب داخلي قديم. يتولى هذا الجزء التحكم بالمسار الكيماوي. مع زيادة درجة الالتفاف وتراجعها، سيتباطأ إيقاع الآلية الجزيئية التي تقرأ الحمض النووي أو يتسارع.يقول ليفينز إن هذه التغيرات البنيوية تساعد الحمض النووي على التواصل. مثلما يؤدي ضغط أنبوب داخلي إلى نتوء نقطة ضعيفة، قد ينشط الضغط في أماكن أخرى منه بسبب التغيرات في شكل جزيئةٍ من الحمض النووي، وقد تساهم هذه العملية في تنظيم الجينات.تتماشى هذه النتائج مع نماذج هاريس التي تشير إلى أن الالتفاف الشديد قد يقسم خيطين من الشكل الحلزوني، فتدور قواعد الحمض النووي التي تقبع في العادة داخل الشكل الحلزوني وتوجهها نحو الخارج، وتُعرَف هذه الظاهرة باسم {تقليب القاعدة}. تشير تجارب محاكاة أخرى إلى أن تكثيف الالتفاف يقلب قواعد إضافية، فينشئ فقاعة من الحمض النووي المتّجه نحو الخارج. وفق نظرية زيكدريتش، قد تحفز هذه الفقاعات على متابعة النسخ أو على التعبير الجيني. لكن تتعارض هذه الفكرة مع الرؤية النموذجية التي تعتبر أن البروتينات تلتصق بالحمض النووي وتطلق تلك الحوادث. قال سامرز: «من يقود العملية في الأيض الخلوي؟ إنها عملية دينامية جداً: يؤثر الحمض النووي والبروتينات على طريقة التفاعل بينهما».يأمل العلماء أن توحي هذه النتائج بأسئلة جديدة وأن تعيد النظر بشكل الحمض النووي ومرونته. قالت ويلما أولسون، اختصاصية في الكيمياء الفيزيائية الحيوية في جامعة روتجرز، نيوجيرسي: {ستشجّع هذه التجارب على التفكير مطولاً وإعادة النظر بالأفكار القديمة، لا سيما في مجال الفيزياء}.لطالما انجذب علماء الرياضيات والفيزياء إلى الحمض النووي شديد الالتفاف والدور الذي تؤديه بنية الحمض النووي في الخلايا. بحسب رأي سامرز، يستحق هذا المجال الاستكشاف اليوم عبر مقاربات رياضية جديدة: {تحمل الطبيعة الأم رسالة واضحة في هذا الإطار. المهم أن نجيد تفسيرها}.