«أن تقرأ لوليتا في طهران»... مقاربة بين إيران وروسيا

نشر في 18-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 18-09-2015 | 00:01
No Image Caption
ربما لن تكون آذار نفيسي الكاتبة الإيرانية الوحيدة التي تتصدَّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لجريدة {نيويورك تايمز} وتترجم تحفتها الرائعة {أن تقرأ لوليتا في طهران} إلى نحو 32 لغة، هنا قرأءة في الرواية تقدمها الكاتبة أميرة المشعل.
تحظى الكاتبات اللواتي انتجتهن ثورة 1979 باهتمام عالميّ منقطع النظير، منذ فترة طويلة، فقد ذكرت «نيويورك تايمز» في تحقيق لها أن عدد النساء الإيرانيات اللواتي نشرن كتباً في إيران وصل إلى 370 امرأة مقارنة بعشرين أديبة وثلاث روائيات إبّان حكم الشاه.

وعلى الرغم من الرقابة المشددة على نصوص الكاتبات، فإنهن استطعن اختراق المحرم بابتكار لغة موحية ومليئة بالرموز والاستعارات، ويتناولن بعمق قضايا محظورة واضعات القارئ أمام أسئلة جديرة بالتفكير. ويحققن ذلك كلّه بلغة سردية مكثّفة وحميمة باتت تميّز الطابع العام للكتابة النسوية في إيران.

 فهل يمكن مثلاً نسيان رواية «صباح سكّير» للكاتبة فطينة حاج سيد جوادي التي أثارت ضجة بعد نشرها عام 1998؟ أو رواية «طيري» للكاتبة الرائعة فاريبا فابي 2008، الكاتبة التي لم تتمكن من دخول الجامعة ومع ذلك حققت شهرة ونجاحاً كبيرين وحازت روايتها ثلاث جوائز إيرانية؟ أو الكاتبة دلفين مينوي صاحبة كتاب «دجاجات الحبش في طهران»، والذي يصور تحدي المرأة الإيرانية اليومي لسلطة حكومة ثيوقراطية سلبت منهن إنسانيتهن وهوياتهن وحقهن في الاختلاف؛ وتشدد مينوي في روايتها على «أنّ الحيز العام في إيران هو أنثوي الى درجة عالية»؟ أو كاتبات من أمثال نهال تجدد ومرجاني ساترابي وشهرنوس باسيبور اللواتي يشكلن تياراً عرف باسم «أدب الاحتجاج الإيراني» واللواتي وقفن بالضد من طرق تكميم الأفواه العنصرية التي مارسها نظام الملالي عليهن، لينتجن سردهن الأنثوي الخاص ولينقذن بذلك التاريخ الحقيقي لمرحلة تعتبر الأكثر اضطراباً في تاريخ إيران، وهي مرحلة زاخرة بفكر ذكوري رجعي مستبد عمد منذ بداية الثورة إلى إقصائهن تماماً من المشهد العام بوصف حضورهن كنساء مثقفات كجزء من «الغربنة»؟!

سيرة وعنوان مربك

أرادت الكاتبة الإيرانية آذار نفيسي أن تقدم سيرتها الذاتية للقراء بهذا العنوان المربك، مستخدمةً مزيجاً من اسم واحدة من أكثر الروايات إثارة للجدل وهي رواية «لوليتا» للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف. فهل أردات نفيسي أن تعقد مقارنةً بين الثورة الشيوعية الروسية والثورة الإسلامية بوصفهما وجهين لعملة واحدة يمكن أن نطلق عليها مصطلح ثورة الأيديولوجية الشمولية؟ أمّا التماهي مع تجربة نابوكوف الذي أبى أن يتورط في جرائم القتل باسم الدفاع عن «الحرية» والذي كان في التاسعة عشرة من عمره عندما قامت الثورة الشيوعية.

فقد ابتعد عن سياسة التصفيات الجسدية وواصل كتابة القصائد الصوفية بينما كانت أصوات الرصاص تتناهى إلى مسامعه، فيرى المحاربين الدمويين عبر الشباك. فجاءت لوليتا بمثابة حنين لماض يسترد عنوة بأبشع صورة. مثّلت لوليتا تلك العلاقة الحميمية- المرضية بين الضحية والسجان، لوليتا بأجوائها الشبحية اللاإنسانية المعتمة، تماماً مثل طهران. فربطت آذار نفسي بين الرواية والمدينة بفعل القراءة الذي تحوّل ليصبح فعل مقاومة ومعارضة، فعل تقويض لنظام شمولي ينظر بعين الريبة والتخوين والمصادرة إلى كل كِتاب لا يحمل فكره المتوحد.

تقول اذر نفيسي إنّ  لوليتا هي تلك الرواية التي تتحدث عن رجل أراد أن يمتلك طفلة في الثانية عشرة من عمرها ويتحكمّ بحياتها فتسبب بموت والدتها (شارلوت) بشكل أو آخر، وأبقى الفتاة الصغيرة لدية جاعلاً منها عشيقة وسبية. لقد حاول هامبرت أن يخلق من الطفلة لوليتا نسخة عن حبيبته (أنابيل لاي)، التي مثلّت حب طفولته الضائع وغير المتحقق. فكان علية أن يحطّم تاريخ لوليتا الحقيقي، وينتزع منها شخصيتها الحقيقية  ليستبدلها بتاريخه المفقود وشخصية حبيبته القديمة. وهنا تتقاطع الثورة الإسلامية مع لوليتا، تلك الثورة التي عمدت منذ أيّامها الأولى إلى طمس الهوية الفارسية والتنوع الثقافي في المجتمع الإيراني، وتعزيز هوية جديدة وموحدة وذات مفهوم إسلامي.

كان الخميني يأسر خيال الجماهير الواسعة، مثلما قَدَّمَ هومبرت نفسه في الرواية باعتباره المرجع الوحيد الذي تملكه لوليتا ويمكن أن تلجأ إليه عند الضرورة. ومثلما دمّر هومبرت لوليتا (الحلم) عبر استبدال ماضيه المشوّه بمستقبلها الطبيعي، فإنّ الثورة الإيرانية دمرّت مستقبل إيران وشعوبها، وسعت إلى استبدال نسخة طبق الأصل عن التصور الذي شكله الخميني بفكّره (الراديكالي الشيعي) بالنسيج المتنوع للمجتمع الإيراني. فجعل الخميني الإنسان الإيراني خاضعاً لرغباته ونزاعاته الذاتية، وصوره بالأبيض والأسود، فتنشأ حالة من الاغتراب الحقيقي داخل المجتمع الإيراني. تقول آذار نفيسي: «أصبحناً نموذجاً لحلم شخص آخر يحاول تحقيقه بنا». فتشابه هومبرت لوليتا وخميني إيران لدى آذار نفسي يتجّلى حتى في الطريقة التي يبرر بها هومبرت عمله ويورط ضحيته بما وصفته نفسي «بالأسلوب الدارج والمألوف لنا في الجمهورية الإسلامية».

الثورة الثقافية

يتحدث الكتاب في مستهله عن فترة خريف أكتوبر، وكانت الدكتورة آذار نفيسي قد استقالت من الجامعة عام 1995 إثر تضييق الخناق على المثقفين والذي بدأ فعلياً منذ ما اصطلح عليه بـ «الثورة الثقافية» التي دعا إليها الخميني عام 1980، ولكنّ شغفها بالأدب لم يتوقف، فتقوم باختيار سبع من ألمع طالباتها، لتواصل تدريسهن ولكن هذه المرة في بيتها.

ومن تلك النوافذ التي رفضت آذار نفيسي أن تقفلها أمامنا نتخيل طالباتها على تباين انتماءاتهن اليسارية والعلمانية والإسلامية ومستوياتهن الاجتماعية والاقتصادية والحوارات التلقائية لهن تعليقاً على نص ما أو خارج سياقه كنا نقبض بيسر على تلك الصورة الشاحبة والجنائزية إلى حد مخيف التي اتخذتها طهران بعد الثورة في عقولهن. فنرى كيف أن رواية لوليتا التي بين أيديهن لا تعود هي ذاتها، إنما تقرأ بوعي مختلف وفي مدينة طهران، وكيف أنّها لونت طهران بلون مختلف، حتّى استطاعت  طهران أن تعيد التعريف برواية نابوكوف؛ فخلقت منها هذه «اللوليتا» المختلفة: لوليتا الخاصة بنا وحدنا. أرادت آذار نفسي وعبر الفكرة التي بني عليها الكتاب بالكامل عرض ما أحدثته الثورة الإسلامية من تغير صادم طرأ على نظرة الفرد إلى نفسه «إذ أصبحنا في المحصلة نموذجاً مختلفاً عن أنفسنا، أصبحنا نموذجاً لحلم شخص آخر يحاول تحقيقه بنا». وأمام الجدب الشامل الذي أصاب طهران بعد الثورة الإسلامية التي حاربت كل أشكال الحياة الممكنة، بدءاً بالصحف والتلفزيون ودور السينما وليس انتهاءً بلباس المرأة ولون جواربها وطول أظفارها ومستوى علو ضحكتها، بل وحوّلت الصحف والتلفزيون والسينما من فضاءات لتوسيع الخيال والحثّ على الإبداع وبثّ الأمل في النفوس إلى أدوات تعبوية ودعائية ساذجة وسطحية.

وفي سرد حميم ومكثّف يأسر قلب القارئ ويجعله يتوغّل في أشدّ مناطق البوح أَلَمًاً تواصل آذار سرد قصصهن الموجعة في ظل «القبضة الحديدية» التي تحاصرهن من كل جهه. وتواصل الكاتبة حلمها بأن لا تكون هي وطالباتها ضحيةً مرتين كلوليتا.

back to top