بزّي يطيّر «غرابه» في وجوه الناس وخرائب المدينة

نشر في 03-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 03-01-2016 | 00:01
No Image Caption
بزّي يطيّر «غرابه» في وجوه الناس وخرائب المدينة
أصدر الشاعر يوسف بزّي ديواناً شعرياً بعنوان «في فم الغراب» عن دار الريس للكتب والنشر، مهشماً فيه لغة الصورة الشعرية، تاركاً إياها في حيرة، حيث لا التزام بقاموسٍ ناعم أو هامسٍ اعتادته استجابةً لشروط الكتابة المعهودة.

لكتابات يوسف بزّي الشاعر من ينتظرها، لأسباب عدة، أكثرها وجاهة، أن قارئه يراهن على مزاجه الصعب في الكتابة والاختيار وقرار النشر، فحَذَره "المرَضي" وعدم استسهاله الكتابة والنشر، يغريان بالتشوّق والانتظار.

ثاني وثالث أسباب ترقّب قارئه وانتظاره، هو الجدَّة المتوقعة دوماً في أعمال بزّي الكتابية على تنوعها من حيث التميّز والاختلاف والمغايرة، إضافةً إلى فضول القارئ لمعرفة إلى أين وصل الشاعر السياسي بنصه الشعري الآن، بعد أن مضى شوطاً بعيداً في السياسة والكتابة الصحافية من مقالات وتحقيقات وحوارات (ينشر حالياً حوارات فكرية في جريدة "المدن" الإلكترونية مع أسماء معروفة يُتوقّع صدورها في كتاب).

في مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً "في فم الغراب" (عن دار الريّس للكتب والنشر – ديسمبر 2015) يعبث بزي بالصورة العامة للشعرية الساكنة المؤدبة، يصطحبها معه في الشوارع والساحات والحواري والضواحي الشعبية، ويُجلسها في أحيائه كغريبة، ليعلّمها التوحّش والدخول في العتمات الوعرة، ومنازل لم تألفها.

ومن جانب آخر، يهشّم لغتها ويتركها في الحيرة، حيث لا التزام بقاموسٍ ناعم أو هامسٍ اعتادته استجابةً لشروط الكتابة المعهودة. لذا يصدمها - مستمتعاً- بتوحّشٍ وعدوانية: بالسيارات ذات الدفع الرباعي، بالشاحنات، بالموتوسيكلات، بالتصاميم الهندسية، والدبابيس والكاميرات، بالأسلحة، بالأرقام، بالرغبات بالأيديولوجيات، بميكروفونات المساجد، بالمازوت، بموسيقى سائقي "الفانات". يدهسها ويمضي، متيّقنا أنها ستصنع موسيقاها الجديدة الخاصة بها رغم ثقل الآلات المشحونة، وحِدّة زواياها، وقابليتها للانفجار، يتجوّل في "الأرض المدقعة" رافضاً كلّ ما يرى، كمتظاهر يسير في تظاهرته وحيداً، يدخل "مع موسيقى سائقي الفانات/ مع الإيمان الكبير، الحاذق بتشغيل الأموال/ مع زبد البحر عند أطراف عيونهم/ مع ميكروفونات المساجد التي تنفخ الأوداج.../ مع المازوت وبيض الغنم ومع الذاهبين إلى التسول". ولا يرى في كل ما حوله سوى "دخول وخروج وأرض مدقعة" (عنوان النص).

حشرات تتناسل تحت المشهد

المشهدية التي يعتمدها بزّي في نص "الذين ماتوا بسببي يطيرون الآن" وفي النصوص الأخيرة في المجموعة لم تكن وصفية عابرة متفرّجة، أو "تجميعاً" لأدوات الحياة اليومية ومشاهد من الذاكرة، لم تكن حنيناً أو امتعاضاً لما يرى ويسمع فقط، لكنها تضرب في جذر المشهد بعنف، بثقةِ مَنْ يحفر ليقتلع شجرة معمّرة أكلها السوس، وثقةِ مَنْ يؤمن أن الانتباهة والرؤية تحرّكان المشهد، وأن اللوحة تُخفي تحتها خراباً أعمق. في نصه الأخير "في أي مكان" يقول إنّ "تحت الأشياء البسيطة/ سنجد حشرةً تتناسل، جذوراً ترتوي/ كائنات ضخمة أيضاً ولا مرئية"، وكأنما يقول: "لا تثقوا بسطح الصورة، لا تثقوا بما ترون، أنا أعرض المشهد لأدمّر ما خلفه، وأهدم أساسه القديم، أنا أبحث عن العثّة التي تأكلنا بصمت".

يرى وينصت لـــ "صرخات صغيرة مندلعة على الشاطئ"، يرى "مباني مهدمة بين شجيرات الأرز/ قطعان ماعز ملطخة بالكلس/سيداتٍ، بأسرارهن الرصينة، في مخيلة عمال البناء/ وانفجارات ليلة الجمعة".

ويرى أيضاً أباه"الذي فلعته قذيفة عام 1975" و"الجمهور كله في الباصات يصرخ مع المهرّج/ وكاميرات اللايقين منصوبة للأشباح وللصداع الكبير".

نفَس متصل لهدم الصورة

"الأحداث: أورام الزمن" يقول سيوران، ويكتبها يوسف بزّي بطريقته، محاولاً كتابة ورم الحرب وذكرياتها وأشباحها، الاقتتال والوحشية والأحقاد المترسبة والموت المجاني وانغراس الطائفية وغباء أمرائها والتلقين وعفن التعاليم الموروثة وصدأ المدينة، وكأنه لن يُشفى منها إلا بكتابتها، سواء بالاعتراف أو بالفضح، ماراً على تضاريس المدينة المريضة الموبوءة، لا مرور "نبي" جبران، فلا تشاوف ولا وعظ ولا ملائكية، لكنه مرور أحد ضحاياها الموشومين بجرح قديم، بلا قدسية ولا هالات تعلوه أو تتبعه، فقط يريد التشهير والهدم، والتأمل في أحواله وأحوالها.

لا يلحظ القارئ أي تفاوت زمني بين النصوص وتواريخ كتاباتها، خصوصاً أن الشاعر افتتح مجموعته بنص قصير "قلب أقلّ" بما يشبه المقدمة، وختمها بنص "في أي مكان" كنهاية مفتوحة، متأملِّة، كمن يشدّ رزمة قصائده بغلافين ويترك – ماكراً- نافذتين مشْرعتين تسمحان بمرور هواء بين النصوص، يضمن الوحدة الموضوعية.

كذلك، يبدو بزي في مجموعته كمن يستكمل كتابة نصوص انقطعت منذ أكثر من عشرة أعوام وبنفَس واحد (كانت آخر مجموعاته الشعرية "بلا مغفرة" صادرة عام 2004)، وهذا ما يشير إلى قناعة الشاعر وإصراره على تجذير تجربته الخاصة والمتفردة في كتابة القصيدة السياسية الحديثة، التي أكد في إصداره هذا على استكمال رسم ملامحها بخط (Bold)، كي يضمن "حقوق الملكية" لقصيدة بدأت تتشكّل صورتها وتتضح أكثر، بعد أن ساهم هو وقّلة آخرون (على اختلاف وتمايز تجاربهم) منذ ما يقارب عقدين في خلق نواتها.

اللحظة السياسية

كتابة "الشعري" في اللحظة السياسية ليست خيانة، هذا ما يعيه الشاعر (السياسي) ما دام يرى أن جذر الصراعات كلها، وبكل أصولها وتنوعها هو "الثقافي" المغروس في التربة الأولى، والمرفوعة أغصانه إلى أعلى، كشجرة جهنمية "مجنونة" تتسلق قامة الوطن وتأكل ملامح وجهه.

ليست خيانة إذاً، بشرط أن تستدرج "السياسي" وتجترح له لغة وقاموساً خاصيْن. أن تخلق من تشوهاته مادة شعرية. أن تضعه في غير مكانه، ورغم ذلك لا يتجرأ على الخروج عن السياق. أن تغامر بإحضار هيئته كاملة وتقذفها في العبارة الشعرية. أن يموت نشازه في الكورال، أن يتشكل كائن بين يديك، لا تعرف اسمه. أن تنجح في كل ذلك، وهذا ما التقطه"غراب" بزّي من الحقليْن، المتضاديْن المتباعديْن، وصنع منهما قصيدة.

دودة القز... تلتهم خشب اللوحة

مثلما يصنع فنانٌ تشكيلي معرضاً فنيّاً باهراً، من بقايا هياكل سيارات قديمة مهملة ومرمية في فضاء الساحات (سكراب)، هياكل معدنية لا يلتفت إليها أحد، ولا يخطر في باله أن أكوام هذا الحديد "الثقيل" ستؤلف "فنّاً" سيُبهره ما إن يدخل صالة العرض. هكذا صنع بزّي _ إن جازت المقارنة والتشبيه _، أدخَل ما لا نعتقد أنه شعريٌّ فأقنعنا به، في الوقت الذي لم يتكلّف حتى مجاملتنا، فيصهر المعدن والمصطلح والرقم والحدث السياسي المدوِّي.

هذه لعبته المفضلة، أن يقرّب الانفجارات إلى وجوهنا.

تحلو له اللعبة فيعبث بشكل آخر بصورة الرئيس/ الزعيم/ الحاكم/ الرمز (الديني أو السياسي)، عبثاً طفولياً غير برئ، فيسيّل ملامحه، يبشِّعها، يكبّرها، وأحياناً يصغّرها بحجم الأظفر، إمعاناً في نزع القداسة والهالة وإفراغ هيبته أمام شعبه أو مريديه أو أتباعه المرعوبين، محاولاً إقناعهم أن لا شيء داخل الكتلة الإسمنتية سوى الوهم.

"هنا، بين عائلات صامتة مثل غيوم

تتحرك وتتبدد

لكنها فجأة على شفرة الأرض

مجتمعة على مائدة الدم".

وفي مقطع آخر يقول:

"في جوف الضاحية، في القاعات الكبيرة للتأبين

بجوار الأرامل، حيث المحنة

مبقّعة بالشجن الديني، في حشرجة عمومية

مع القلوب المجنونة لأتباع بلا أعناق"

السائر في شوارع المدينة، يتأمل كل ما هو حوله، ليعلن أنه الوهم وحده يتجوّل في المدينة، الخالية من المدينية:

"هنا، مع أطفال مؤمنين بأفواه باردة

ونسوة مؤمنات أيضاً

في منازلهن الخالية من النجاسة

وهنا، على مقربة من المساكن ومداخل المدينة

وفوق سطوحها المنقصفة".

وبتتابعٍ يُعيد الدخول بصورة أخرى:

"مع البث المباشر لوجهه الذي رأيته يتغير كمحارة جافة

بعينين تخسران كل مهارة، بشفاه بطيئة".

شعرية الألم وشعرية الغضب

"السياسي" الجريء داخل بزّي خَدَمه، إذ حوّل الألم وطاقة الغضب - اللذيْن عادةً يفسدان الشعر- إلى ماكينة تطحن جنازيرها كل ما يقع أمامها، لا تهدِّئ سيرها ولا تتوقف، كلّ صرخةٍ شعرٌ، كل خرابٍ شعر، كل ارتطام شعر، كل دخان شعر، كل دم نافر شعر. بلا "بيانات" أو لافتات، يلبي الشاعر نداء اليد الصغيرة المرفوعة في زرقة البحر، وجسد البلد المغدور، والنظرة الأخيرة في عينيْ صديقه الذي اغتيل في سيارته.

ماكينة مكلومة وغاضبة، لا تهدأ ولا تتوقف.

كان سلفادور دالي يسيّل ساعاته الزمنية عن مللٍ وجودي، ليقتل الزمن "ويهرس" عقاربه، بماذا كان يفكّر يوسف بزّي حينما سيّل ملامح "الرئيس" بصورة غرائبية؟ النص الذي دخله كحلم – دون حاجة لتبريره بالحلم - هل كان يقول إنّ النكتة والرسم الكاريكاتوري تمرينٌ أوليّ لإسقاط الهيبة، ومن ثم التمرّد؟ هل كانت أمطاره تغسل وجه الصنم المقدّس لتمحو ألوانه؟

فعلاً، هو يقود تظاهرته وحيداً، ضد الخرافة أينما كانت؛ ضد الليل وعتمته؛ ضد الحائط الذي يخترق خاصرة بيروت، يتظاهر ضد التظاهرات "الملقَّنة"؛ ضد المقاعد الوثيرة للكبار الملقِّنين، وضد الزعيم الأوحد، بل ضد الزعيم وناسه، فيلتهِم صورته الثابتة ويُعيد إنتاجها بشكل غرائبي:

"كأن تطول قامته فجأة

 أو يتقلص إلى حجم بطة بلاستيكية

أن يصير بالوناً ضخماً أو آلة تسجيل

حتى أنه في لحظة بات ظفراً في إصبعي

يخدش الأشياء التي ألمسها".

ريش الغراب... غلافه

في بعض الإصدارات، يأتي الغلاف معبّراً عن مضمون الكتاب، أو شارحاً لمادته بشكل مباشر، وهو الاستخدام الأكثر فجاجة وقتلاً للمعنى وجمالية اللوحة والكتاب، لكن لوحة الفنانة/ ريم الجندي لـــ "غراب" بزي لم يُكشف معناها، بينما تركت أثرها الغامض في خلطة ألوان الأحمر القاني، الذي أخذ أغلب المساحة العلوية من الغلاف، بالأسود، بالأبيض الرمادي، على وجهيْ رجل وامرأة حائرين ملتصقين على طاولة بيضاء توحي بأحاديث خاصة وهم مشترك.

هل كانت لوحة الجندي قصيدةً مضافة، أم هي إحدى قصائد المجموعة التي طفرت من الفهرس إلى صفحة الغلاف، وكان بالإمكان إدراجها "في أي مكان"؟

" منذ البداية، أنا مع كل العطش

أنا سليل الجدة الوليدة في القافلة الأرمنية

الهاربة عبر الثلج والسيوف

والتي تركت جرار الذهب في الأقبية،

وسليل الآباء الذين يتدفقون إلى العاصمة

منذ خمسين عاماً

مزودين بمخافة الله والأسلحة".

back to top