كيف بدأ تلفزيون الكويت؟

نشر في 11-07-2016
آخر تحديث 11-07-2016 | 00:07
كتاب الأخ الفاضل محمد السنعوسي عن تلفزيون الكويت ليس وثيقة دقيقة عن تطور الإعلام الكويتي فحسب، وليس مجرد مرجع إعلامي تحول فور صدوره إلى أحد «الكلاسيكيات» في هذا المجال، بل هو فوق هذا وذاك، نموذج راق لمزج الكلام بالصورة، والعسير باليسير، وإضافة عمل فني في مجال الطباعة والإخراج.
 خليل علي حيدر قد لا يكون كتاب بوطارق محمد السنعوسي "تلفزيون الكويت تاريخ وحكايات 1961-1985" أشمل كتاب عن تطور الإعلام الكويتي الرسمي المرئي والمسموع، فللآخرين من الإعلاميين مساهماتهم ورؤاهم المنشورة أو اللاحقة. ومن المستبعد أن يعتبر "بوطارق" هذا الكتاب بمثابة سيرة ذاتية، وإن كان في مطلع الكتاب وبعض ما فيه يوحي بذلك، فالواقع أنه "سيرة مهنية" لعطاء إعلامي قيادي كتبت بعناية وأخرجت بإتقان.

كتاب رائد الإعلام الكويتي الرسمي ومرشده الأول والمجدد الجريء، يعيد طرح السؤال نفسه بين الكويتيين مرة أخرى: أين توارت "روح الستينيات الحية" التي اجتذبت كل أولئك المبدعين الكويتيين ودعاة التجديد، والأدباء والإداريين، والفنانين والمخططين، وكل تلك الفعاليات النسائية والطاقات المبدعة، التي تجاوزت الإطار المهني والإداري، بل استقطبت إلى مدارها الأدبي والفني حتى كبار أفراد أسرة الحكم الكريمة ورجال الدولة؟

أين توارت حقا في واقعنا المعاش تلك الروح الخلاقة التي يعرض تجلياتها ومساهماتها وصورها كتاب السنعوسي المدهش، الذي يوحي تارة بأنه ألبوم صور، أو حتى "كشكول مجهود شخصي"، وأخرى كرصد دقيق لإعلامي كويتي مبدع دخل كل مجال وانتهز كل فرصة، وسافر مطاردا كل الطاقات الداعمة لمسيرة الإعلام والثقافة الدرامية، والذي وفق في حشد تلك النخبة لعقدين أو ثلاثة لبناء صرح هذا الإعلام القائم؟

هل كانت مرحلة الستينيات، خصوصا ما بعد استقلال الكويت، ثرية بالطموحات والأحلام، أم كانت البلاد زاخرة بالفرص، أم كانت الكويت مستيقظة للتو من سبات ما قبل الحداثة، وخارجة بالكاد من عالم السفر والغوص، والصيد والرعي، لتداهمها الأخطار الحدودية المحدقة، والأحداث العربية الصاخبة، فأتيحت الفرصة لنخبة ما بعد الاستقلال بكل ذلك العطاء، أم كان ذلك الجيل مجبولا على الإبداع والعطاء وطلب العلا... لعلة لا نعرفها حتى اليوم؟

كتاب السنعوسي عن تاريخ تلفزيون الكويت معدّ بطريقة عجيبة في دمج الصور بالمعلومات، وتداخل العنصرين في التواصل مع القارئ، بحيث تستوعب التاريخ الإعلامي للكويت وتستوعب المعلومات والأسماء... فيما أنت تتأمل صفحات مصورة حاولت أن ألقي نظرة عابرة على الكتاب- الأطلس، وأن أتصفحه كما يفعل الكثيرون مع الكتب المصورة الثقيلة الأوراق، ولكن أبواب الكتاب ومعلوماته وفصوله مترابطة متوالية، تجعلك تعود باستمرار لما تجاوزت من صفحات وفاتتك من معلومات، فالرجل شخصية غير عادية بين من برزوا في مجال الإعلام أو أي مجال آخر في الكويت.

يبدأ السنعوسي حديثه عن أصوله وعن نجد والجذور، ويستوقف القارئ ربما، أن يبدأ شخص حداثي ليبرالي متمرد مثل السنعوسي كتابه بكل هذه التفاصيل، وإن كانت شيقة واضحة وخالية من التفاخر القبلي، عن شمر والسناعيس، وشقرا والوشم، وحائل وأثيثية، من مناطق نجد وقبائلها! ولا شك أنه يتبع في هذا الاستهلال سنّة مألوفة لدى كتاب السير الذاتية، ولكن قد لا يكون هذا الجانب التوثيقي الهدف الوحيد، ولعل بعض المراد من التفاصيل والتوثيقات الرد على المحافظين والمتشددين ممن تصدوا له لاحقا خلال أدائه المهني بحجج دينية أو اجتماعية، واعتبروا تصريحاته واقتراحاته، والكثير من أفكاره الانفتاحية وغير ذلك، متعارضة مع ما اعتبر بحكم طول المدة ووضع اليد، من العادات والتقاليد الكويتية... وبخاصة النجدية منها!

درس محمد السنعوسي خراطة المعادن في الكلية الصناعية بالكويت، "ليس غراما بهذه الحرفة أو لرغبتي أن تكون مهنة المستقبل، بل لأنني قدرت أن بها شيئا من الفن". وفي هذه الكلية انجذب إلى النشاط الكشفي، وفي رحلات المغامرة والاستكشاف وليالي السمر، كما يقول، بدأت علاقاته مع الوسط الفني وهواة الغناء والطرب والموسيقى، وعلى رأسهم الفنان المعروف شادي الخليج، وكذلك حمد الرجيب الذي وجهه لدراسة المسرح بالقاهرة بعد انتهاء الدراسة في الكلية الصناعية.

وفي القاهرة، "تعمقت فينا القومية العربية واعتبرناها فكرة نبيلة وثورة من أجل حياة أفضل للإنسان"، وفي مصر كذلك تتلمذ على يد المخرج المعروف "زكي طليمات"، ولم يواصل دراسته، إذ وصل وفد إلى القاهرة عام 1961، وجرى اختيار السنعوسي للعمل في تلفزيون الكويت الوليد "وعلى الرغم من بريق الفكرة إلا أنها كانت مرعبة لعدم معرفتي بتقنيات هذا الجهاز، وكان قبول الأمر كأنه مغامرة غير محسوبة".

وكانت هذه بداية ارتباط "بوطارق" بهذا الجهاز الذي كتب له فيما بعد أن يكون على رأس سائر أجهزة الإعلام الكويتية التي كانت تتشكل في الدولة من إذاعة وصحافة، فلم يكن التلفزيون آنذاك مستقرا في مبنى حديث متعدد الأدوار، بل كان مجرد الدخول إليه مغامرة!

يقول السنعوسي: "لا زلت أتذكر ذلك اليوم الذي تعرفت فيه إلى التلفزيون وكتيبته المحدودة... كان ذلك مطلع شهر نوفمبر سنة 1961 حينما وجهت سيارتي نحو منطقة بنيد القار، وما إن بلغت شارع دسمان وقصر أمير البلاد حتى سلكت زقاقا صغيرا محدودا بين السور الطيني لقصر دسمان ورمل البحر وتوقفت سيارتي أمام باب حديدي يتقاطع مع سور من الشبك الحديدي ما إن تجاوزته حتى وجدت نفسي أمام شبرة كبيرة تقع في محيط لا يتجاوز الـ250 مترا مربعا.

إذاً ما يطلق عليه "مبنى" تلفزيون الكويت إنما مجرد "شبرة" تقع على تلك البقعة المملوكة لقصر دسمان، وهو مقر أمير البلاد، صحيح أن تلك "الشبرة" لها جدران إسمنتيه إلا أنها سُقفت بالكيربي، وتضم استديو معدات وأجهزة، وهكذا.. ربما كان الشيء الوحيد اللافت للنظر والدال على أن شيئا ما هنا له علاقة بالبث والإرسال هو ذاك الـ"إيريال" المرتفع عند تلك الشبرة.

سارعت عيناي تعبثان بالمكان، وولجت إلى غرفة صغيرة تدعى بتعالٍ كاذب أنها "استديو تلفزيوني"، وخلف ستارة انحشرت كشافات إضاءة مع كاميرتين PCR كبيرة الحجم ذات قواعد مع ميكروفونات للصوت، بالإضافة إلى أجهزة تشغيل أفلام 16 ملم ومجموعة أفلام كرتونية، وكونترول للمخرج وجد خلف أجهزة متواضعة يقوم عليها بعض العاملين، فيما غابت أجهزة التسجيل وضبط الصورة وغيرها من التقانات التي لا يمكن تقديم فن مرئي بمعزل عنها. هكذا وجدت نفسي سجين غرفة كئيبة تشوهها كميات كبيرة من الكيبلات والأسلاك بينما تتوزع في سقفها الأضواء بشكل ارتجالي ولم تكن تتلحف بالعوازل المتعارف عليها". (ص89).

عرضت صحيفة "القبس" محتويات الكتاب عرضا مسهبا، فهو يوجز في الواقع بروز ملامح دولة الكويت بعد الاستقلال، ومحاولة مؤسسي الهيئات والوزارات تشكيلها في بعض الأحيان من الصفر، والعمل في أبسط الظروف وأقساها، والتجاوز عن الكثير من الأخطاء والهفوات. ولا شك أن أحد أجمل جوانب كتاب السنعوسي جهده الملحوظ للتهوين من دوره وإبراز أدوار الآخرين، وسعيه في أن يذكر كل المساهمين في بناء الإذاعة والتلفاز من كويتيين وغير كويتيين مهما كان دور البعض جانبيا.

ولا شك أن الكثيرين منا ممن عايشوا بدايات التلفزيون الكويتي المتواضعة، ثم زيادة ساعات البث، ثم الدخول إلى عصر التلفزيون الملون والنقل المباشر، قد سعدوا كثيرا بهذا العرض التاريخي الشائق وتوضيح بعض الجوانب الفنية ومعارك الإعداد والتجهيز، والصراعات السياسية والإعلامية التي جرت خلف الشاشة! وقد نجح المؤلف كذلك في أن يعود بالجمهور بمهارة وكفاءة إلى كل البدايات، وأعاد التذكير بأسماء كل المخرجين والفنيين والكتّاب وأسماء البرامج والمذيعين، الأحياء منهم ومن توارى عن دنيانا من قريب أو بعيد، ومن ترك منهم بصمة قوية أو كان مجرد ترس بسيط في جهاز التلفاز العملاق.

كتاب الأخ الفاضل محمد السنعوسي عن تلفزيون الكويت ليس وثيقة دقيقة عن تطور الإعلام الكويتي فحسب، وليس مجرد مرجع إعلامي تحول فور صدوره إلى أحد "الكلاسيكيات" في هذا المجال، بل هو فوق هذا وذاك، وكما ذكرنا، نموذج راق لمزج الكلام بالصورة، والعسير باليسير، وإضافة عمل فني في مجال الطباعة والإخراج.

كان السنعوسي أحد الإعلاميين المجددين ممن حاولوا جاهدين تغيير وظيفة الإعلام ودوره في هذه الدولة الناشئة، وإدخال الأفكار الحديثة والطرق المبتكرة إلى حياة مجتمعه، والتصدي لكل ما هو جامد ورتيب ومتوارث دون تفكير. وقد ناله الكثير من النقد الجارح وأذى التيار المحافظ وجمعيات الإسلام السياسي مما نرى في الكتاب، وفوق ذلك مر بظرف عائلي عصيب بوفاة ابنه البكر، لكن السنعوسي لم يفقد روحه الوثابة وشخصيته المتفائلة المجددة التي نراها في مختلف مراحل حياته.

ولا شك، ختاما، أن السنعوسي الذي قدم أنجح البرامج في المصارحة دون خوف والانتقاد العلني بشجاعة قد نجح في جعل كتابه متميزا بحق، وأن يسد الثغرات المتوقعة في أي كتاب، قدر المستطاع، وأوجه القصور.

كتاب محمد السنعوسي عن تاريخ تلفزيون الكويت، بما يحوي من تجارب وتفاصيل وحكايات إضافة حقيقية للمكتبة الإعلامية الخليجية والعربية، تضاهي أي عمل مماثل، ولا بد أن يكون في مقدمة مقررات وقراءات كلية الإعلام في الجامعة!

السنعوسي أحد الإعلاميين المجددين ممن حاولوا جاهدين تغيير وظيفة الإعلام ودوره في هذه الدولة الناشئة

نال السنعوسي الكثير من النقد الجارح وأذى التيار المحافظ وجمعيات الإسلام السياسي
back to top