80 عاماً من الدم والغدر (9) إمام الإرهابيين

نشر في 11-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 11-07-2015 | 00:01
بعد تنقل سيد قطب بين مختلف التيارات المصرية العلمانية والإسلامية، استقر على اعتناق أشد الأفكار ظلامية، وخطا خطوة جديدة في التركيز على أفكار التكفير وجاهلية المجتمعات المعاصرة، فاتحا الباب لكل من جاء بعده من معتنقي الأفكار المتشددة في تكفير المجتمعات المسلمة، واستخدام السلاح ضد المواطنين الأبرياء، ففتح بأفكاره المتشددة بابا من الدماء لا يزال المجتمع المصري والعربي يعانيه حتى يومنا هذا.
انضم سيد قطب إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في سنة 1953، في وقت كانت الجماعة منشغلة بالصراع على السلطة وتجاذباتها بين ضباط ثورة يوليو، وانخرط قطب في هذا الصراع فبعيد انضمامه إلى جماعة «الإخوان»، تولى الإشراف على الذراع الإعلامية للجماعة، بعدما كلف بتحرير صحيفة «الإخوان المسلمين»، والتي خصصت أعدادها لمهاجمة عبد الناصر، واستوحى قطب شخصية «المصري أفندي» الكاريكاتورية التي كانت تظهر في صحف حزب «الوفد»، استوحاها في شخصية «قرفان أفندي»، ليحمل الأخير هجومه على عبدالناصر ونظام ثورة 23 يوليو.

ومع اشتداد الأزمة وإغلاق صحيفة الإخوان، انتقل قطب إلى العمل السري وأشرف بنفسه على كتابة المنشورات السرية المهاجمة لعبدالناصر، تحت عنوان «الإخوان في المعركة»، حاول سيد قطب وقتذاك حشد القوى السياسية خلف جماعة «الإخوان»، فنراه يتصل بالشيوعيين، ويجري لقاءات معهم بهدف التحالف معا لإسقاط نظام يوليو عبر تنظيم التظاهرات بهدف إرباك قيادات الجيش وإجبارهم على التنازل عن السلطة.

وجاءت مواقف قطب ضد عبدالناصر ورفاقه بمثابة الانقلاب الكامل على مواقفه السابقة، فالرجل عرف بتقربه واقترابه من عبدالناصر، وكان قطب المدني الوحيد الذي يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة في أيامها الأولى، وبدأ يدعو الثورة لاعتناق «الدكتاتورية العادلة»، في عشرات المقالات التي دافعت عن الضباط الأحرار وحركتهم «المباركة»، وحصل قطب على المقابل عندما اختاره عبدالناصر نائبا له في «هيئة التحرير»، وهي أول أشكال التنظيمات السياسية للنظام الجديد بعد ثورة 1952، لكن سرعان ما انقلب قطب على عبدالناصر بعدما تجاهل عبد الناصر طلب قطب بتولي وزارة «المعارف» (وزارة التربية والتعليم حاليا)، ليغير قطب من مواقفه بشكل كامل ليقف في معسكر الإخوان ضد عبدالناصر ورفاقه.

وتبدو المشاعر الحادة التي تجعل المرء يحب ويبغض بمثل هذه الحدة، من السمات النفسية المميزة لقطب، فالرجل كان في المقام الأول من أبناء التيار الرومانسي ومن معتنقي أفكار المثالية، القائمة على رؤية العالم باللونين الأبيض والأسود فقط، لذلك كانت تنقلات قطب بين التيارات حادة وعفو الخاطر، يعتنق الفكرة حتى تظن أنه صاحبها، ثم ينقلب عليها لأهون الأسباب وكأنه لم يدبج المقالات دفاعا عنها، رأينا ذلك في تتلمذه على يد عباس العقاد، ثم انقلابه عليه ومفارقته، ورأينا كيف أهدى سيرته الذاتية لعميد الأدب العربي، طه حسين، ثم انقلب عليه وهاجمه بحدة، وكان هذا المعلم النفسي من أهم مكونات شخصية قطب.

تحركات قطب جاءت بالتزامن مع تخطيط الجماعة لاغتيال عبدالناصر في عملية إرهابية كتب لها الفشل في أكتوبر 1954، ليكون رد فعل الأخير الزج بالإخوان في السجون، وكان من ضمنهم سيد قطب ذاته، والذي كان منشغلاً في هذه الفترة بكتابة الكثير من البيانات المعارضة لعبدالناصر، وتم تشكيل «محكمة الشعب» برئاسة جمال سالم –أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة- لمحاكمة الإخوان.

وفور سقوط تنظيم «الإخوان»، حاول سيد قطب أن يهرب ويختبئ عن الأنظار، لعله يهرب من مصير رفاقه في التنظيم الإرهابي، وهرب بالفعل إلى بني سويف واختفى عن الأنظار مدة ثلاثة أسابيع، سرعان ما وقع بعدها في قبضة الشرطة، وتمت محاكمته ثم إدانته بالسجن 15 عاماً أشغالا شاقة.

تمتع قطب في السجن بامتيازات عدة، فقضى معظم مدة حبسه في مستشفى السجن، نظرا لسوء حالته الصحية، وتم السماح له بقراءة الكتب والكتابة الحرة داخل السجن، حيث أصدر من داخل السجن كتب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، و»الإسلام ومشكلات الحضارة»، و»هذا الدين»، و»المستقبل لهذا الدين»، فالكتب كانت تخرج إلى النور تحت سمع وبصر نظام عبدالناصر، وهو من الأمور المحيرة في علاقة قطب بالنظام السياسي، فلماذا ترك النظام الفرصة لقطب ينشر أعماله تباعاً.

ويقترح أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، الدكتور شريف يونس، في أطروحته المهمة عن «سيد قطب والأصولية الإسلامية»، أن تكون جرت مساومة ما، قد تكون ضمنية، سمح بموجبها لسيد قطب بالكتابة والنشر من داخل السجن، مقابل التعهد الضمني بعدم تهريب مقالات تهاجم النظام بشكل مباشر، ما يؤكده رفض قطب الكتابة في صحف إخوانية تصدر خارج مصر.

وبدأ قطب في مراجعة أفكاره والميل أكثر للتشدد، بعدما رأى أن أطروحاته السابقة حول التغيير الاجتماعي وإقامة مجتمع إسلامي متطور، فشلت في تحقيق التغيير الآني الذي كان يحلم به، فقطب لم يؤمن بالتدرج الإصلاحي، كان يريد تغيير الواقع مرة واحدة وللأبد، وساعدته تجربة السجن في التشدد أكثر والبحث عن أفكار أكثر صدامية وعنفا لتحقيق ما كان يؤمن به من أفكار حول إعادة تأسيس العلاقات داخل المجتمع المصري.

ومن الأحداث المهمة في دفع قطب إلى طريقه الجديد، واقعة اعتصام الإخوان داخل سجن «ليمان طره»، يونيو 1957، بعدما تم فض الاعتصام بالقوة، ومات في عمليات الفض الذي تميزت بالإفراط في استخدام القوة بعض المساجين، كانت هذه الحادثة هي مسك الختام بين قطب القديم، والآخر الذي أخرج كتاب «معالم في الطريق»، واعتنق قطب منذ تلك اللحظة أفكار جاهلية المجتمع وخروج النظم السياسية في المنطقة عن صحيح الإسلام، وأنه لابد من مقاومة هذه الأنظمة ومحاربتها وحمل السلاح في وجهها حتى تطبق الإسلام الصحيح من وجهة نظر قطب وأتباعه.

الأب الروحي

في السجن، أجرى سيد قطب مراجعة نهائية لأفكاره داخل السجن، وكان واضحا من خلال كتاباته التي أرسل بها إلى خارج السجن حيث يتم طبعها في كتب تنشر على الناس، أنه اعتنق أفكار التكفير، ما تجلى بوضوح في إعادة تنقيحه لكتابه الشهير «في ظلال القرآن»، وهو ما اعترف به مرشد الإخوان الأسبق مصطفى مشهور قائلاً: «بدأت ألفاظ الجاهلية والحاكمية تظهر في كتابات سيد قطب عندما كان يعد تفسيره في (ظلال القرآن) للطبعة الثانية أثناء وجوده في السجن، حيث تأثر بكتابات أبو الأعلى المودودي، وتفاعل مع المحنة فأضاف هذه الألفاظ إلى الظلال».

وكان المودودي (توفي سنة 1979)، أحد أهم من نظّروا لفكرة الحاكمية والأب الروحي لما يعرف بـ»الإسلام السياسي»، فضلاً عن خروج كثير من الأفكار الدموية من تحت عباءته، نظرا لعدم فهم الظروف الموضوعية التي أدت بالمودودي لهذه الأفكار، حيث كان هدفه من الدعوة لإنشاء الحكومة الإسلامية التعبير عن أحلام مسلمي الهند في العودة لقيادة الدولة بعدما فقدوها بفعل الاستعمار الإنكليزي، لكنه تشدد في آرائه ورأى أنه يجب مقاتلة جميع النظم السياسية والمجتمعات التي لا تطبق مفهومه لتفسير آية {إن الحكم إلا لله}، داعيا الى حكومة رجال الدين الذين تنبع سلطاتهم من التفويض الإلهي واحتكار تفسير الشريعة، رافضا نظم الحكم الحديثة من ليبرالية وعلمانية واشتراكية، ووصف وضع المجتمعات الإسلامية بـ»الجاهلية»، تشبيها لها بوضع المجتمع العربي قبل البعثة النبوية.

وعلى الرغم من أن أفكار المودودي الضيقة والمنغلقة نشأت في ظل تجربة المجتمع الهندي وخصوصيته، بما فيه من إشكاليات وأزمات لا يمكن تعميمها على الواقع الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أن الجماعات الأصولية في العالم العربي التي كان ينقصها التأصيل لأفكارها الجهادية التكفيرية، وجدت بغيتها في أفكار المودودي فبدأت عمليات النقل والاجترار لمقولات المودودي دون نظر أو بحث، فاجتمعت الحركات الإسلامية على جاهلية المجتمعات العربية وتكفير الأنظمة الحاكمة في المنطقة، ورفض كل ما يأتي من الغرب الكافر باستثناء السلاح الذي استخدم لقتل الأبرياء من أبناء العالم العربي.

جاهلية المجتمع

لعب سيد قطب الدور الأبرز في نقل أفكار المودودي إلى العربية، والعمل على زراعتها في وجدان شباب الجماعات الإسلامية، التي بدأت منذ الستينيات في اعتناق أفكار التكفير بصورة فجة، وكان سبب نجاح قطب في زرع هذه الأفكار داخل جماعة "الإخوان"، هو الحيرة التي وقع فيها شباب الجماعة وقياداتها، بعد فشل الجماعة منذ تأسيسها سنة 1928، في الوصول إلى الحكم وتطبيق مشروع حسن البنا في أستاذية العالم، فالمشروع التدرجي الذي أمن به البنا، والقائم على التقية أساسا بإخفاء النشاط المسلح وأفكار التكفير بغطاء من المرونة السياسية، تم التخلص منه على يد سيد قطب، الذي يعتبر أول من أنهى تقية الإخوان وكشف عن أفكار الجماعة الإرهابية للمرة الأولى إلى العلن.

انتقل قطب من مجال التنظير في مجال النظام الاجتماعي الإسلامي إلى الأصولية الإسلامية وأصول الحكم الديني، وبحلول عام 1959، كان قطب قد بلور أفكاره بشكل نهائي، بحسب زميله في السجن ومساعده في قيادة تنظيم 1965، محمد يوسف هواش، بأن "الحركة الإسلامية تواجه حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها المجتمعات البشرية يوم جاء الإسلام أول مرة من ناحية الجهل بالعقيدة الإسلامية"، وكان الهدف هو تربية الإخوان المسلمين على هذه الفكرة الجديدة.

ووجد قطب غايته في مفهوم "الحاكمية" لدمج الإسلام بنظم الحكم السياسية بشكل مطلق، عبر إخضاع النسبي للمطلق، ويشرح قطب تطبيق المفهوم بأن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها ولا في أي جانب من جوانها من عند أنفسهم، بل يرجعون فيها إلى حكم الله ليتبعوه، ويرى شريف يونس أن الحاكمية عند قطب تعني: "سلب نظري لسلطة البشر على شؤون حياتهم، هكذا بإطلاق، وتفريغ إرادتهم نفسها، وتحويلهم نظريا إلى أدوات في يد مطبقي الشرع الإلهي حسب وجهة نظر هؤلاء، وعلى ذلك فالكفر هو كل خروج على السلطة الإلهية، وهو خروج يتحقق بمجرد اللجوء إلى أي سلطة بشرية عدا سلطة مطبقي الشريعة الإلهية".

ويعطي قطب تعريفه لمصطلح الجاهلية في "الظلال" قائلاً: "الجاهلية ليست اسما لمرحلة تاريخية سابقة على الإسلام، بل إنها تنطبق انطباقا حرفياً على كل وضع بصرف النظر عن اعتبارات الزمان والمكان، إذا كان الوضع مشابها لتلك المرحلة التاريخية السابقة على الإسلام"، ثم يضيف في موضع آخر: "يدخل في المجتمع الجاهلي، كل مجتمع ملحد كالدول الشيوعية، وكل مجتمع وثني كالهند وأواسط إفريقيا واليابان والفلبين، وكل مجتمع كان ولايزال يعد من أهل الكتاب كالمجتمعات الرأسمالية عموما، وتدخل تحته أيضا تلك المجتمعات التي خلفت المجتمعات الإسلامية وورثت أرضها وديارها وأسماءها، أي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم أنها مسلمة... لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله وتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها".

ويهدف قطب بحسب ما كتبه في "معالم في الطريق" إلى "إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان"، ويهدف إلى إحلال نظام جديد "تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده... وبهذا يكون الدين كله لله، أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله"، وكانت هذه الأفكار مستوحاة من أفكار المودودي، والتي دمجها بأفكار التنظيم الخاص، الذراع المسلحة لتنظيم "الإخوان"، وبدأ في عملية الترويج لأفكاره الجديدة بين مجموعات الإخوان في السجون، كما بدأ في مخاطبة الإخوان في ذلك ووضع الرؤية الكلية لكيفية تدريب الإخوان على الأهداف الجديدة وفقا لرؤية قطب.

...يتبع

تنظيم 65

ووصلت أفكار قطب إلى الإخوان خارج السجن، وقال أحد قادة الإخوان في تنظيم 1965، علي عشماوي في اعترافاته أمام النيابة إنه "في الاجتماع الأول بيني وبين أعضاء القيادة، محمد فتحي رفاعي (مسؤول التنظيم في الغربية) أتى بنشرة مطبوعة وقال إنها من سيد قطب في السجن... وعرضها علينا لقراءتها، وكان فيها مشروع برنامج دراسي إسلامي مؤداه أنه لابد من تدريس هذه الكتب خلال سنة ونصف، منها على ما أذكر تفسيره في ظلال القرآن وبعض كتبه، وكتب شقيقه محمد قطب وكتب أبو الأعلى المودودي الباكستاني".

وانتشرت أفكار قطب بين الإخوان كالنار في الهشيم، كانت توفر لهم الأمل في تنفيذ انقلابهم على السلطة والوصول إلى الحكم للانتقام من خصومهم السياسيين، كما أنها عبرت عن مكنونات أنفسهم التي أخفتها تقية حسن البنا، لذلك تكونت داخل السجون مطلع الستينيات الكثير من الخلايا الإخوانية التي تؤمن بالفكر القطبي، وقد سميت هذه الخلايا بـ"الأسر"، وأعطى مرشد الإخوان حسن الهضيبي مباركته الشخصية لأفكار قطب قائلاً عقب الإفراج عنه صحياً في سنة 1961: "على بركة الله إن هذا الكتاب (في ظلال القرآن)، حصر أملي كله في سيد، ربنا يحفظه، لقد قرأته، وأعدت قرأته، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن، إن شاء الله".

وبدأت الأفكار في الانتشار داخل السجون، وهو ما يعترف به قطب صراحة قائلا في اعترافاته أمام النيابة: "تكونت خلايا سميت الأسر، ومن سجن القناطر وحده ناقشت حوالي 100 أخ، 25 منهم اندمجوا في الدراسة، وأصبحت لهم مفهومات واضحة في العقيدة والمنهج، و23 عارضوا مبدأ السماع إلا من قيادة الجماعة في الواحات (يقصد سجن الواحات حيث محبس قادة الجماعة)، و50 درسوا ولم يصلوا إلى الوضوح الكافي".

وفي ظل انخراط قطب في تكوين التنظيم القطبي داخل جسد جماعة "الإخوان"، هاجمته أزمة صحية حادة سنة 1964، ما استدعى نقله إلى مستشفى المنيل الجامعي، حصل بعدها على إفراج صحي من قبل الرئيس جمال عبدالناصر، ويعترف قطب بأن الرئيس عبدالسلام عارف (رئيس العراق حينذاك) قد قام بالوساطة للإفراج عن قطب، خاصة أن عارف سجل إعجابه الشخصي بكتاب "في ظلال القرآن"، ما يؤكد هذا التدخل زيارة السفير العراقي لقطب مهنئا، عارضا عليه السفر إلى بغداد كخبير في مناهج التعليم، إلا أن قطب رفض وأصر على البقاء في مصر.

كانت الفكرة المسيطرة على قطب بعد خروجه من السجن هي بناء التنظيم الخاص به، وانخرط في اجتماعات مع قادة الجماعة ممن هم خارج السجون خاصة زينب الغزالي وعلي عشماوي وغيرهما، ووفقا لدارسي سيد قطب فإن الأخير بدا وكأنه يتعمد العمل في العلن ضربا بعرض الحائط بقواعد العمل السري ما جعل عملية رصد تحركاته من قبل جهات الأمن سهلة، وهو أمر يقف أمامه رفعت السعيد مندهشاً في كتابه "الإرهاب المتأسلم.. لماذا ومتى وأين".

على كل حال، افتقد سيد قطب لقدرات حسن البنا الهائلة في المسائل التنظيمية، ما جعل من قطب قائدا فاشلاً على المستوى الحركي، ويبدو أن هدف قطب من تنظيمه السري داخل جماعة "الإخوان"، هو السيطرة على الجماعة أولاً ثم السعي لتغيير المجتمع المصري بأكمله وفقا لرؤيته التي بلورها داخل السجن، واستعد قطب بخطط إرهابية لمواجهة أي تحرك من قبل نظام عبدالناصر، فوضع خططه لتفجير القناطر الخيرية لإغراق دلتا مصر، ونسف مطار القاهرة الدولي، بهدف إرباك النظام، وإعطاء الإخوان الفرصة للقفز على السلطة.

انكشف التنظيم سريعا أمام الأجهزة الأمنية، ورصدت عمليات شراء أسلحة وتخزينها في عدد من القرى القريبة من القاهرة، خاصة قرية "كرداسة" جنوب الجيزة، والتي كانت أحد المراكز الرئيسية لتجميع سلاح الإخوان، ولاتزال كرداسة حتى يومنا هذا من معاقل الإخوان الرئيسية في مصر، ولا يغيب عن الذهن واقعة اقتحام قسم كرداسة عقب الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، في يوليو 2013، حيث اقتحم الإخوان قسم الشرطة وقتلوا 11 شرطياً ومثلوا بجثثهم.

انكشفت خطط قطب سريعاً فألقي القبض عليه في أغسطس 1965 أي بعد الإفراج الصحي عنه بنحو 3 أشهر، وقدم للمحاكمة، أقر خلالها بوجود تنظيم سري، قائلاً: "أعضاء القيادة تحدثوا معي طويلا، وذكروا لي أنهم ليسوا وحدهم، وإنما وراءهم مجموعات أخرى من الشباب، وذكروا لي تاريخ هذه المجموعات، وقالوا إنهم منذ سنة 1959 حتى عام 1963 كونوا مجموعات، وبعد عدة لقاءات قالوا إن لهم تنظيماً سرياً يرجع لعدة سنوات سابقة، وأن هذا التنظيم قائم على أساس فدائي ينتقم لما جرى للجماعة عام 1954، ولكن أنا قلت إن هذا الهدف صغير لا قيمة له، ونتائجه أخطر من فوائده"، وبرر رئاسته للتنظيم بأنه اندفع لكي "لا يركب الشباب رؤوسهم".

وبعد محاكمة علنية استمرت قرابة عام، صدر الحكم بإعدام سيد قطب، وتم تنفيذ الحكم فيه سريعاً في 29 أغسطس 1966، ويروي اللواء فؤاد علام في كتابه "الإخوان وأنا"، تفاصيل اللحظات الأخيرة لقطب قائلاً: "يوم إعدام سيد قطب لم يكن اليوم معلوما لأحد وكنت أجلس في السيارة الأولى وبجواري سيد قطب، وفي الثانية كان يجلس محمد يوسف هواش، نائب سيد قطب في قيادة التنظيم، وفي الثالثة كان يجلس عبدالفتاح إسماعيل، المسؤول عن الاتصالات الخارجية لجماعة "الإخوان المسلمين"، والثلاثة محكوم عليهم بالإعدام، وركب السيارات يتحرك بهم من السجن الحربي لسجن الاستئناف لتنفيذ الحكم فيهم.

وكان سيد قطب يرتدي بدلة داكنة اللون تحتها قميص أبيض ويبدو بصحة جيدة فهو لم يتم ضربه أو تعذيبه كما أشاع الإخوان كما أنه لم يكن مجهدا أو مرهقا، وقال سيد قطب خلال الطريق بنبرة تشف وحسرة :"للأسف الشديد لم ينجحوا في تنفيذ عملية نسف القناطر الخيرية التي لو تمت لانتهى النظام"، وأضاف قطب "إن مشكلتي في عقلي أنا مفكر وكاتب إسلامي كبير والحكومة تريد القضاء على الإسلام عبر قتلي.. تدمير القناطر ومحطات الكهرباء والمياه كان سيكون بداية الثورة الإسلامية وإنذار شديد للناس لينتبهوا من غفلتهم وسكرتهم بنظام حكم عبدالناصر".

الفصل الأول

تجرع قطب كوبا من الماء، ثم طلب أداء صلاة الفجر قبل أن تنفذ فيه عملية الإعدام، لكن لم تنته القصة بوفاة سيد قطب بل أنهت فقط الفصل الأول، من فصول رواية دموية، فأفكار قطب حول الحاكمية وجاهلية المجتمع كانت النبع الصافي الذي نهل منه مؤسسو الجماعات التكفيرية الذين ظهروا تباعا منذ السبعينيات حتى يوم الناس هذا.

البعض صار على خطى قطب ومد الخيط على مداه، فيما رأى البعض الآخر في "المسكوت عنه" عند قطب فرصة طيبة لإعلان مبادئ تكفير المجتمع جملة وتفصيلا، وجاءت وفاته بطريقة تراجيدية لتجعل منه أيقونة للتشدد واتخذت كتاباته كمقدمة منطقية لكل أفكار تكفير المجتمع التي ظهرت تباعا، ففتح بأفكاره المتشددة بابا من الدماء لا يزال المجتمع المصري والعربي يعانيه حتى يومنا هذا، وصار على دربه صالح سرية وشكري مصطفى وأيمن الظواهري، فيما تولى التيار القطبي عملية السيطرة بشكل كامل على تنظيم جماعة "الإخوان"، على يد مجموعة من تلاميذ قطب المخلصين، أمثال محمود عزت ومحمد بديع، والذين كشفوا عن وجه الإرهاب للمصريين.

back to top