في قمة العطاء... فارقنا!

نشر في 22-08-2015
آخر تحديث 22-08-2015 | 00:01
 عبدالهادي شلا تعرف الجمهور العربي على صناعة السينما في بداية انطلاقتها عن طريق الأفلام المصرية التي نشأت على يد رعيل من المبدعين الذين أرسوا دعائمها، وقدمت ممثلين ملتزمين بالقيم الفنية العالية في اختيار أدوارهم وقصص أفلامهم ورسالتها، وتحملوا "انتقاد" المجتمع لهم في وقت كان العمل في الفن يلحق بالفنان أو الفنانة الكثير من الصفات غير المنصفة في مجتمع متزمّت ومنغلق على معتقدات ليس فيها مساحة لإشباع الروح بما هو جميل إلا بالقدر الذي تسمح به التقاليد والعادات الاجتماعية.

فعرف الجمهور العربي خلال تلك البداية مخرجين ومصورين ومنتجين وممثلين وهبوا حياتهم وأموالهم وعقولهم للفن الجميل، لا شيء غير الفن الجميل! ومازلنا أجيالا نتابع، ونبحث بشوق كبير عن أفلام قديمة "أبيض وأسود" عرضت مع بداية مسيرة صناعة السينما المصرية، ونحن في زمن هذا الكم الهائل من الأفلام الملونة التي استفادت من التقنيات الحديثة في عالم الإخراج والتصوير وتنوع القصص.

تاريخ الفن يذكر عميد المسرح العربي "يوسف وهبي" ابن الذوات الذي ترك العز والرفاهية ليتعلم فن التمثيل في إيطاليا، وعاد إلى مصر ليبث روحا جديدة في عالم الفن السابع، ويذكر تاريخ الفن عمالقة أرسوا مدارس فنية وشخصيات ابتدعوها لتصبح أسماء تتردد على الألسن عبر الزمن مثل "نجيب الريحاني" و"عبدالمنعم مدبولي" و"فؤاد المهندس"، وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم، تخرج في مدارسهم جيل آخر كانت الجدية والرقي سمتي إبداعاتهم.

أجيال تربت عيونها على أفلام "غزل البنات" و"الوردة البيضا" و"بين الأطلال" و"السكرية"، ومسرحيات "إلا خمسة" و"البغل في الأبريق" و"جيفارا" و"بهية وياسين" و"الثعلب فات" والكثير الكثير الذي نتذكره بفرح وسرور بأننا عشنا تلك الفترة الذهبية للفن وفنانيه.

ولأن للحياة سنناً، ولأن الفنانين من البشر الذين يسري عليهم ما يسرى على الآخرين، فقد تخطفهم الموت من بيننا وغابوا بأجسادهم، وبقيت أعمالهم حية تذكرنا بهم، وبلحظات سعادة عشناها مع فنهم في مراحل حياتنا صغاراً وشباباً وشيوخاً، وكلما شاهدناعملاً فنياً "فيلماً أو مسرحية أو مسلسلاً"، دبت فينا حياة من نوع لا يتكرر، وترحّمنا على الفنانين الذين أمتعونا وأضافوا إلى أحاسيسنا الجديد من المشاعر الإنسانية الراقية.

في السابع عشر من شهر يناير الماضي رحلت سيدة الشاشة "فاتن حمامة"، وفي العاشر من شهر يوليو الماضي لحق بها زوجها "عمر الشريف" الذي حقق شهرة ومكانة فنية عالمية، ومنذ أيام قليلة (11 أغسطس الحالي) رحل عنا الفنان المتميز "نور الشريف"، وهو في قمة العطاء، والذي حمل صفة لقب فيلمه "آخر الرجال المحترمين" حقيقة وفناً، ذلك أنه فنان من نوع مختلف في كل ما قدم من فن والتزام أخلاقي، فأفلامه منتقاة بحرفية عالية، ولم تأخذه موجة "الأعمال التجارية الهابطة" الأمر الذي جعله ينتج بعض أفلامه ليحافظ على القيم الفنية والوطنية ورسالته التي آمن بها.

ولم تكن المسلسلات التلفزيونية التي شارك فيها أقل مستوى من أفلامه الكثيرة، والتي قدم فيها العديد من المخرجين والوجوه، ومن أشهرها "الحاج متولي" وغيرها، فنور الشريف فنان ورث صفات فناني زمن الفن الجميل، وهو نتاج مدرسة فنية راقية برفقة العديد من الأسماء، أطال الله في أعمارهم، مثل عادل إمام، ومحمود ياسين، وحسين فهمي، ومحمود عبدالعزيز، وصلاح السعدني، وغيرهم ممن حافظ على مكانته واسمه وسط هذه الموجة العاتية من "الهبوط" التي تجتاح صناعة الفن في عالم السينما والتلفزيون والمسرح.

من غير المنصف أن نقارن فنانا مثل نور الشريف بفنان آخر، ولن ننصفه هنا بكلمة رثاء أو شعور بأننا فقدنا فنانا دخل قلوبنا وأحبه كل من عاش الفترة الذهبية للفن السابع، ننصفه حين نجد من يتبع خطاه ومنهجه الفني والفكري في التمثيل، ويتبنى قضايا المجتمع العربي وتراثه التاريخي برؤية متجددة تليق بالمشاهد العربي الناضج، ولا يشغل تفكيره الظهور بشكل جميل، وبأجر عال ودعاية رخيصة تقدمه للمشاهد رغم أنفه!

رحم الله أولئك الفنانين الذين وهبوا أعمارهم لتقديم فن رفيع، وتركوه إرثاً للأجيال التي تريد أن تتعلم أصول الفن وتجدد فيه، وأطال الله في أعمار من هم بيننا يروون شجرة الفن بإبداعهم.

* كاتب فلسطيني - كندا

back to top