رمضان في سيناء

نشر في 22-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 22-06-2015 | 00:02
في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا إلى مساحات واسعة من الخيال، وفضاءات رحبة من التقرب إلى الله بنوايا صادقة.
فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحاً، وعانقته وجداناً، كلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة، واختلفت طباعاً وعادات وسلوكاً، وللجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.
ونحن في بحثنا هذا نحاول أن نعود بالزمن إلى الوراء... نعيد الرحلة باتجاه المنابع، لأن ما تعيشه شعوب اليوم يأتي من بعيد... فهناك ولدت الأسرار... نسافر من منطقة إلى أخرى، نبحث عن أخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل أخباراً بسيطة مثل أهلها، لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول إلى الحقيقة التي تشير جميعها إلى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.
سيناء الأرض حيث مشت فوقها أقدام الأنبياء، وسيناء الإنسان حيث سكنتها القبائل الأصيلة التي قدم معظمها من جزيرة الإسلام والرسالة المحمدية التي كان ركنها القويم شهر رمضان، سافرنا في ذاكرة أهل سيناء في سالف السنين، فعدنا بالصيد الوفير نضعه على طبق من ذهب للباحثين عن الجمال.

 

من هم بدو سيناء

 

كان سكان سيناء في الماضي مجاميع متجانسة وقبائل من البدو الرحل الذين يتنقلون في أرجاء سيناء دون أن يكونوا خاضعين لقانون أو تابعين لأحد، وقد كانت العلاقات في سيناء تنظم عن طريق الأحلاف والاتفاقات العرفية، وعن طريق هذه الأعراف يتم حل المشاكل والنزاعات وقضايا القتل والاعتداء على الأشخاص والممتلكات، وترتبط معظم قبائل سيناء بعلاقات نسب ومصاهرات في ما بينها تمت عبر سنين من التواصل والتجاور، مما خفف من حدة النزاعات والخلافات القبلية، وأما إذا استفحلت بعض المشاكل بين شخصين أو قبيلتين فإنه يتم اللجوء عادة إلى خيارين، إما أن يشن أحد الطرفين حرباً على الآخر لرفع الحيف الذي وقع عليه، أو أن يتم الاحتكام إلى أحد القضاة أو الشيوخ المشهورين والمعروفين بحل مثل هذه الخلافات، ولكن على الرغم من بدائية المجتمع السيناوي وبساطته، فلم تكن المشاكل الكبرى التي تقوم بين قبائله كثيرة، وقد عرف عن شيوخهم ووجهائهم الفطنة والحصافة وحسن التدبير، مما جعل تلك المنطقة تنعم بهدوء وأمان نسبيين.

العادات والتقاليد في الماضي

اشتهر أهل سيناء بالكرم والسخاء والترحيب بالضيف واستضافته عدة أيام، فإذا كان عابر سبيل قدموا له ما يحتاج إليه وسمحوا له بالمغادرة، أما إذا كان قاصداً ضيافة القبيلة أو جاءها من بعيد وتربطه بها أواصر رحم أو قرابة فإن ضيافته تمتد طويلاً، حيث يتبادل أبناء القبيلة استضافته في ما بينهم دون أن يسمحوا له بالمغادرة حتى تتم ضيافته في بيوتهم جميعاً، كما يشتهر أبناء سيناء بقص الأثر، إذ إن لديهم قدرات عجيبة في تتبع الآثار ومعرفة ما إذا كان الأثر لرجل أو امرأة أو جمل، كما أن لديهم قدرة على تحديد ما إذا كان الرجل يحمل على ظهره أثقالا، أو إذا ما كانت المرأة حاملا، أو إذا ما كان الجمل محملا بمتاع أو أثقال، وهي حالات وقواعد يمكن من خلالها تحديد اللصوص والسراق وديارهم، وأوزان السرقات ومقارنتها بالمفقودات أو المسروقات التي يبحث صاحبها عنها، ويستطيعون أيضاً تتبع أثر الماشية الضالة والوصول إليها أينما كانت، وإذا ما كانت ضالة فعلا أم مسروقة، وأي قبيلة أو جماعة قامت بسرقتها، مما بسط الأمن نسبياً في معظم أرجاء سيناء في الماضي ومنع السرقات والاعتداءات على الأرواح والأموال، خصوصاً أن المتضرر يلجأ إلى قبيلته دائماً، وهو الأمر الذي كان يجعل الضعف والخوف منعدمين في أرجاء سيناء، كما عرف أهل سيناء بهواية الصيد، حيث كانت تتوفر المصائد الكثيرة هناك، ويتمتع السيناويون بمهارات كبيرة في الصيد، حيث يعتبرونه أحد مصادر معيشتهم وقوت أولادهم، وتوجد العديد من مكامن الغزلان والأرانب في سيناء، خصوصاً في المناطق الداخلية، كما تعتبر سيناء طريقاً لهجرة الحباري والسمان والعديد من الطيور العابرة للقارات في فصلي الخريف والربيع ذهاباً وإياباً، وتتعدد الاحتفالات في منازل البدو السيناويين وأحيائهم كالزواج والختان والأعياد والمواليد، ومجالس الصلح والاتفاقات والأحلاف، وقد اشتهرت بعض قبائل سيناء في الماضي بعمل مباريات بين الحضور عن طريق وضع رؤوس الخرفان المذبوحة بمسافة عشرات الخطوات، فيتبارى المتسابقون على رميها بالبنادق، ومن يوفق في إصابة الرأس يأخذه، كما يأخذ بعض لحم الذبيحة نيئاً إلى أهله كجائزة، وتتعدد أسباب الاحتفالات الخاصة عند البدو كالمواليد، وعودة الحاج من مكة، وختان الأولاد، فيقوم أصحاب الدعوة بذبح الذبائح وإقامة الولائم، ويؤدي الحضور العديد من الرقصات مثل الدحة، وهي أشهر رقصات البدو هناك، كما يتبارى بعض الشعراء بإلقاء بعض القصائد المرتجلة تحدياً بينهم بطريقة قريبة من القلطة في الجزيرة العربية، ويردد الحضور بعض المكررات الشعرية المشتركة واللزمات، وتسمى هذه الطريقة الشعرية عند بدو سيناء البداع، بينما يمارس البعض منهم رقصات مختلطة بالسيف تسمى الحاشية، وتقتصر الرقصات المختلطة على بعض قبائل سيناء دون غيرها، كما تعوّد بدو سيناء على وضع بعض العلامات على إبلهم لتمييزها عن مواشي القبائل الأخرى يسمونها “الوشم”، وهي مشابهة لما يقوم به بدو الجزيرة العربية والشام والعراق. 

 

استقبال الشهر

 

كان أهل سيناء منقطعين عما يجاورهم من أقطار، يعتمدون على أنفسهم في تحديد أول الشهر المبارك، وأول أيام العيد بالرؤية المجردة، وقد عرفت قبائل سيناء بعض أبنائها الذين اشتهروا بقوة النظر والقدرة على الرؤية ويسمون (الشوافون)، وتخرج مجاميع القبيلة أو عدة قبائل سوياً للاستهلال، وحين تثبت رؤيته لدى الشوافين يحاولون لمرات عدة مساعدة الذين لم يروه على رؤيته، فتثبت الرؤية لدى الكثير من الحضور، خصوصاً أنه عرف عن أهل سيناء قوة النظر والشوافة، وحين يعود الجمع إلى منازلهم تبدأ احتفالات الأهالي كبارا وصغارا، الصغار بترديد الأغاني التراثية التي يتم تداولها كل عام ترحيباً برمضان، والكبار يلعبون بالسيوف في الماضي البعيد، أما بعد انتشار البنادق في أواخر القرن التاسع عشر فقد بدأت الاحتفالات بقدوم الشهر تأخذ شكلاً جديداً، حيث ما ان تثبت الرؤية حتى يبدأ الأهالي بإطلاق النار فتجيبهم القبائل الأخرى البعيدة بطلقات مشابهة تحاكي فرحهم، بعد ذلك يبدأ أفراد كل أسرة بالاغتسال الذي يعرف عندهم باسم طهارة الصوم، ويبدأ الرجال بالاستحمام وارتداء الملابس النظيفة أولاً ثم يخرجون إلى الدواوين، وهي معروفة وثابتة في كل قبيلة، وفي فترة غياب الرجال تقوم النساء بتنظيف الصغار ثم الاستحمام بعدهم والاستعداد لأول أيام الصوم.

ولا يشتري الأهالي إلا القليل من حاجاتهم من الأسواق، حيث تتوافر معظم هذه الحاجات منزلياً، وما يتبقى يتم شراؤه من بعض الأسواق القليلة والبدائية المنتشرة في بعض مناطق سيناء القريبة من البحر أو بعض المدن الشامية، وقد تعوّد الرجال على الذهاب إلى الأسواق البعيدة أو بعض الواحات الزراعية لشراء التمور والبهارات وبعض الأواني المنزلية مستخدمين الخيول والجمال في تنقلهم، بينما يقوم بعض الباعة الغرباء بالمرور على بعض الواحات والقرى وبيوت الشعر المنتشرة في سيناء يحملون معهم بعض الحاجات الضرورية كالملابس النسائية، وملابس الأطفال، واحتياجات النساء، وبعض حاجات المطبخ، وغالباً ما يستخدم البائع الحمار أو الحصان غير الأصيل في التنقل بين البيوت، كما أن زبائنه في الغالب من النساء.

 

المائدة السيناوية

 

تتميز مائدة الإفطار عند أهل سيناء بخصوصيتها من ناحية الأصناف أو من ناحية طريقة تحضيرها، فعادة ما يكون عدد الجالسين عليها كبيراً بحسب عدد أفراد الأسرة والضيوف الذين يطرقون البيت ومن قد تتم دعوته، ومن المتعارف عليه أن للرجال مائدتهم الخاصة التي لا تجلس عليها النساء أبداً، كما أنها توضع في الديوان أو المكان المخصص لجلوس الرجال بعيداً عن النساء اللاتي لا يجب أن يصل صوتهن إلى مسامع الرجال، وقد تعود أهل سيناء في الماضي على تناول طعامهم بيدهم اليمنى، ولم يكونوا يستخدمون الشوك والملاعق، كما أن الصحون التي يوضع بها الطعام كانت دائماً كبيرة ومشتركة يجلس عليها مجموعة من الرجال ويأكلون منها سوياً، ولابد لكل بيت أن يوجه الدعوة لأبناء عمومته وجيرانه من أجل تناول الفطور في بيته في شهر رمضان ولو ليوم واحد، وينتقل الجيران وأبناء العمومة من بيت إلى آخر لتناول الفطور كل ليلة في منزل، بحسب من يسبق في توجيه الدعوة، وبتنسيق في ما بينهم، لكي لا تتضارب الدعوات حتى ينتهي الشهر الكريم.

وقد عرفت المائدة السيناوية ببساطتها وغناها، فغالباً ما يوضع التمر في صحن كبير ويوضع حليب الإبل بإناء كبير آخر، ويبدأ الأكبر سناً بأكل حبات من التمر وشرب قليل من الحليب، فيتبعه بقية الحاضرين، ثم يقوم الجميع لأداء صلاة المغرب، وبعد الانتهاء من الصلاة يجلس الجميع على المائدة ويبدأون في تناول الطعام الموجود، الذي غالباً ما يكون الزر واللحم والخبز، وبعض الأنواع الأخرى التي لا تتوافر إلا في بعض موائد أهل سيناء خصوصاً القريبين من البحر أو من الشمال والشرق، وهم في العادة أكثر استقراراً من الآخرين وليسوا رحلا كبدو الأعماق، وهؤلاء كانت تدخل في موائدهم بعض الأنواع القادمة من الأقاليم الأخرى كالفتة والقطايف وحمص الشام والثريد، ولا يأكل السيناوي السمك إلا نادراً، كما لا يقدمه لضيوفه، لأنه يعتبر ذلك إهانة واحتقاراً للضيف، كما يتم التركيز على الغرباء أو الضيوف وحثهم على الأكل وعدم التوقف بكلمات رقيقة إمعاناً في الكرم، ويقوم صاحب الدعوة بتقطيع اللحم ووضعه أمام الضيوف، لتشجيعهم على التخلص من الحياء والأكل بشهية، كما جرت العادة الا يضع الضيوف كميات كبيرة من الطعام في الفم، وعدم نفض اليد من بقايا الطعام على المائدة عند الانتهاء من الأكل، حيث يتوجب عليهم لعق أيديهم قبل القيام من عليها.

وتبقى المائدة على حالها إلى ما بعد صلاة العشاء لعل ضيفاً أو طارق ليل يجتاز بالديوان وهو جائع فيأكل من الطعام الموجود، لكن الضيوف القادمين من قريب كالجيران وأبناء العشيرة الأقربين الذين لم يحضروا الوليمة أو لم يدعوهم أحد يأنفون من تناول بقايا الأطعمة، ولا يتناولها إلا قاطع الطريق القادم من بعيد أو المار مجتازا ومتجها إلى منطقة أخرى.

 

   

*كاتب وباحث كويتي

الأسرة السيناوية

كانت الأسرة السيناوية حتى وقت قريب كبيرة العدد، حيث تعايش الاخوة وزوجاتهم وصغارهم في منزل واحد أو بيوت الشعر المتجاورة، كما تعودوا أن يتناولوا الطعام سوياً كفريقين من الرجال والنساء، وأما الصغار فمن كان منهم يعين نفسه على الأكل من الأولاد يلتحق بسفرة الرجال، وأما من كان دون ذلك فيجاور أمه لتساعده وتعلمه، ولأن المجتمع السيناوي كان قبلياً بامتياز، فقد احتفظ بالكثير من القيم التي لم يكن لأي فرد الحق في تجاوزها أو إهمالها، ولعل احترام الكبير سواء كان رب الأسرة أو كبيرها أو شيخ القبيلة أو رئيس الحي كما يسمى في بعض مناطق سيناء من المسلمات الثابتة التي يحترمها الجميع، لذا فإن الكثير من القوانين القبلية والأعراف التي كانت سائدة تسير في هذا الاتجاه، فحين يأمر شيخ القبيلة بهدنة مع أعدائه، فإن أبناء القبيلة يلتزمون بها دون اعتراض حتى إن كانوا أولياء الدم المراق غير راضين بالهدنة لكنهم مع ذلك لا يشقون صف القبيلة ويوافقون وهم واثقون أن الشيخ وأهل الحل والعقد لن يفرطوا بحقوق أهل الظلامة، وأيضاً في الطلوع، وهي لجوء المطلوب بدم إلى قبيلة، فالكل يلتزم بحمايته بناء على قبول أحد أبناء القبيلة طلوعه أو دخالته، وقد تعودوا أن يحتفظوا بالود حتى في غياب الاخوة أو أبناء العمومة الأقربين واحتمالية الأبعدين أيضاً، فقد يشعلون النار في مكان سكن ابن القبيلة الذي ارتحل عنهم، وكأنه مازال موجوداً يشعل ناره كل ليلة على عادة بدو سيناء الذين يأنفون من الظلمة وعدم إشعال النار أمام المنزل في الليل، وهذا يعني البخل وعدم الترحيب بالضيف أو طارق الليل، لأن الضيف وطارق الليل يتجهان عادة إلى النار المضيئة.

ليالي السمر الرمضانية 

 

كان الإنسان السيناوي اجتماعياً جداً يتواصل مع أهله وأرحامه ومحيطه وعشيرته الأقربين والأبعدين أيضاً، وغالباً ما يتم التواصل بشكل يومي، لذا فإن الكثير من الدواوين وأماكن الاستقبال، عادة ما تكون مفتوحة معظم ساعات اليوم وفي كل أيام الأسبوع، ولأن أهل سيناء الذين أنهوا يوماً من الصيام بحاجة إلى بعض الترفيه فإنهم يجتمعون عادة في ديوان أحد الكبار أو الوجهاء وشيوخ القبيلة فيتبادلون أنواع الحديث، وللجلسة السيناوية أصولها وقواعدها، فغالبا ما يتحدث الوجهاء وكبار السن وينصت البقية الى الحديث الدائر ولا يشاركون إلا في حدود السؤال أو المتاح، وتتنوع موضوعات الحديث من مجلس إلى آخر، ومن ليلة إلى أخرى، لكنه يبقى في عمومه يدور حول الدين والمجتمع، فيتحدث من له بعض المعرفة عن بعض المسائل الفقهية المرتبطة بالصيام، خصوصاً إذا زارهم أحد مشايخ الدين في المنطقة، كما لا تغيب السيرة النبوية العطرة من الذكر في مجالس رمضان، لكن الحديث الغالب في دواوين أهالي سيناء في شهر رمضان وغيره يدور في العادة حول أخبار القبائل والأسر السيناوية، فيتبادل الموجودون الحديث حول آخر الأخبار والأحداث التي لا تخلو منها مناطقهم، كما يذهب الحديث في الغالب باتجاه الأصول والأحداث التاريخية والقوانين والأعراف المتداولة عبر السنين في مختلف أرجاء سيناء، وما تتفق عليه القبائل وما تختلف حوله كأنواع الثارات والهدن والأحلاف والعقوبات، كما يتم ذكر قصص الأحكام والمعارك، وقصص الوفاء والصدق والكثير من القيم المتداولة هناك، ويهتم السيناويون كثيراً بتعليم أبنائهم مثل هذه القضايا والحكايات، لما لها من أهمية في حياة أهالي سيناء في الفترات الماضية.

 

back to top