أستاذ الفلسفة الإسلامية وحوار الأديان

كيف ترى واقع الخطاب الديني راهنا؟

 واقع الخطاب الديني الآن مأزوم، فثمة جانب تكفيري في الخطاب الديني مسيطر على تيارات وجماعات العنف، التي تحتكر ساحة الدعوة الآن، من خلال الممارسات العنيفة والإرهابية، التي تروع الآمنين وتنشر الفزع، وتحاول أن تكمم الأفواه المخالفة لها، إلى جانب شق آخر يتمثل في حال الدعاة، الذين أصبحوا يفتقدون الآليات القادرة على الإقناع والإفهام والتفهيم، وتطبيق الوسائل والآليات الثلاث، التي حددها القرآن الكريم في سورة النحل «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: 125).

هل يستدعي الأمر  التجديد الحتمي للخطاب الديني؟

فعلاً، التجديد الآن أصبح ضرورة فكرية وقومية وشرعية تحتاج إليها الأمة، نظراً إلى ما يصيب الأمة من وهن، أو حالات من التحريف والتشويه المتعمد لأصولها وثوابتها، ما يقتضي إعادة النظر في شروح وتفسيرات ومفهومات هذه الثوابت، التي تحتاج إليها الأمة، خصوصاً في ما يتعلق بمسائل الحضارة، والتعامل مع التطبيقات والمكتشفات الحديثة التي يقف عليها الإنسان، التي أشار إليها القرآن في قوله تعالى: «وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل: 8)، أي من مستجدات وأمور جديدة تحتاج إلى نوع من التوفيق والتوافق مع الأصول والثوابت التي نحتاج إليها، وفي الحديث «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد للأمة دينها}.

قصور الخطاب

هل يعني ذلك أن الخطاب الديني ما زال يراوح مكانه لا يتجاوزه؟

فعلاً، يعاني قصوراً شديداً، لأن الخطاب الديني يتطوَّر إذا تطورت المعرفة لدى صاحبه، فإن كان الأخير ما زال واقفاً عند الأطر القديمة، لم يُجدِّد، ولم يَستفِد من الوسائل والآليات، التي تجعل خطابه مقنعاً للآخر، قادراً على تغيير الحالة الفكرية والعقدية للآخر. سيظل هذا الخطاب يسير في محله لا يتقدم ولا يتغير.

ما خصائص الخطاب الديني الرشيد؟

 يعكس المنهج والمعرفية، التي قام على أساسها هذا الدين، والمنهج واضح في قوله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ» (الأنعام: 153). واتباع هذا السبيل هو اتباع ما كان عليه النبي (ص) وصحابته. وعندما حدث خلل وخروج عن هذا الأصل نشأت التيارات والجماعات، التي كل واحدة منها تعد خروجاً وانحرافاً عن الأصل والمنهج الصحيح الذي أشار إليه القرآن. والجانب الآخر هو {المعرفية} التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله (ص) في ما يتعلق بالإجابة عن الأسئلة الثلاثة، التي تهم البشر وهي: ما الله وما العالم وما الإنسان؟ والإسلام جاء بإجابات شافية مقنعة وافية لهذه التساؤلات، هذه الإجابات، إما بعضها قد خفي على الناس، وإما قد فهم البعض أموراً منها على وجه غير صحيح. بالتالي، بدأت تنشأ المشكلات التي يعانها المسلمون. فإذا أردنا العودة إلى النهج والخطاب الصحيحين، يجب العودة إلى هذه الأصول الصحيحة في مفاهيمها الأصيلة والصحيحة.

ما أبرز الغايات المقصودة من وراء هذا التجديد في زماننا الراهن؟

تحقيق التعايش والسلام المجتمعي. لكننا الآن أصبحنا في مجتمع تخرج فيه فئة مارقة، تمارس أبشع أنواع المعاملة، التي لا تكاد تجد لها نظيراً إلا في عالم الحيوان، مثل الجماعات التي ترفع راية العنف والإرهاب والتباهي بسفك الدماء، وهذه الممارسات تتعارض مع المبدأ الإسلامي الذي لا يتحقق الإسلام إلا به المتمثل في قوله (ص): «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، أي أن يكون المسلم سلماً سلاماً لكل الناس وليس لجماعته أو لطائفته هو.

قراءة النص

كيف يمكن قراءة النص بأسلوب يواكب روح العصر ومستجداته بما يزيل شبهة جموده التي تتلبس بعض دعاة التشدد؟

ثمة  أصول وضوابط لقراءة النص الحكيم، من خلال التفسيرات  التي اعتمدتها الأمة، والعجيب أن الناس يغضبون عندمهاجمة {صحيح البخاري}، ولا يغضبون عند تجاهل تفسيرات الطبري والقرطبي وابن كثير، حيث يتبنى الفكر المتطرف تفسيرات ومفاهيم مناقضة لها. أولئك الذين يجترئون على النصوص، هم جهلة ليسوا متخصصين لا في اللغة العربية، ولا في العلوم الإسلامية.إذاً، نحن بحاجة إلى التمسك بأصول فهم النصوص والابتعاد عن الهوى في القراءة والتفسير.

ما الدور المنوط بالمؤسسات الدينية في العالم العربي والإسلامي للعمل على إزالة الفهم الخاطئ للإسلام وتجديد الخطاب الديني؟

تحتاج هذه المؤسسات إلى النقد الذاتي أولاً، وإلى مراجعة مناهجها الدراسية والإصدارات المعرفية، كي تفرز هذا التراث وهذا الإنتاج وتأخذ منه الصالح وتترك ما دونه، وتغربل القيمين على العمل الدعوي، خصوصاً أن كثيراً من أتباع جماعات العنف قد انضووا تحت راية الأزهر. بالتالي، يجب أن يقف معهم الأزهر وقفة تفرز هذا من ذاك. وليس عيباً أن تعترف المؤسسات الدينية بقصور في التكوين العلمي للمنتسبين إليها، وترسلهم إلى أماكن تعطي المناهج والمعارف الأخرى، كي يجمعوا بين الأصالة والمعاصرة في معرفتهم.

آليات التجديد

ما آليات تجديد الخطاب بشكل عملي ليكون ذا تأثير؟

أول هذه الآليات الجمع بين الأصالة والمعاصرة لدى القائم على نشر الخطاب. الأمر الثاني معرفة الأمور والأسس والمناهج المتعلقة بتكوين التصورات والاعتقادات، فثمة مناهج عقلية رفيعة يجب أن يعرفها كي يستطيع أن يتحاور عقلياً مع الآخر، وأن يكون قادراً على استعمال وسائل الإقناع المختلفة، إلى جانب ضرورة المعرفة والخبرة بالمخاطب لتسهيل عملية التواصل. فعندما أخاطب شخصاً وأريد إقناعه بحجتي يجب أولاً أن أنزع من رأسه وعقله الفكر الخاطئ كي أستطيع أن أضع بدلاً منه فكراً صحيحاً.

 إلى أي مدى يعتبر تنامي الجماعات الإرهابية والمتشددة دينياً دليل غياب التجديد في الخطاب وجمود الفكر؟

لا، هو يعد علامة على نقص الدين عند هؤلاء وجهلهم لأن أي إنسان يدعي التدين وتغيب عنه الرحمة. هو ادعاء كاذب، لأن الدين كله قائم على الرحمة والتراحم. كذلك تدخل التآمر الخارجي لأنه من المعروف أن بعض الحركات التي قامت في تاريخنا الإسلامي يعود في أساس نشأته إلى العناصر الأجنبية، سواء كانت يهودية أو فارسية، أو غيرها من النزعات والأصول. والسبب الثالث هو الاحتكام إلى الهوى في الاختيار، وفي بناء الأفكار، وفي السلوك.

برأيك لماذا لم تنجح مشروعات تجديد الخطاب؟

لأنها وجدت الحرب عليها من نوعين من التيارات، أولها التيارات التقليدية الجامدة التي لم تستوعب هذه الرؤى الإصلاحية فقامت على حربها، كذلك التيارات الأخرى التي تريد أن تركن إلى السكينة وعدم إجهاد النفس في التفكر ومشقة التدبر والتعلم.

   هل يجب مراعاة رجال الدين القيمين على فعل التجديد توجهه في إحدى صوره إلى غير المسلمين؟

غير المسلم يحتل في الإسلام أولوية كبرى، فديننا دين التراحم والسلام، فكما قيل {ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر بغير منكر}، فيجب التزام اللين والتسامح في الخطاب والتعامل معهم والابتعاد تماماً عن التشدد والإرهاب.

 هل خطابنا الديني الآني يثير فتنة بيننا وبين غير المسلمين؟

نحن لا نتخاطب مع غير المسلمين خطاباً دينياً، بل نخوفه ونرهبه ونسيء إلى ديننا، وما قمنا به من الإساءة إلى الدين في الفترة الأخيرة بواسطة تيارات وجماعات العنف والإرهاب لا تعادله قرون طويلة من محاربة غير المسلمين للإسلام. نجحنا وبكل امتياز في تشويه صورة الإسلام في عيون غير المسلمين في الداخل وفي الخارج.

عقدة المؤامرة

يخشى البعض محاولات تجديد الخطاب الديني بزعم أن ذلك من شأنه أن يمس أصول الدين وثوابته القطعية، ما تعليقك؟

يقول الحديث النبوي: «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد للأمة دينها»، وهذا المجدد لا يشترط فيه أن يكون شخصاً وإنما قد يكون فكرة أو مجموعة أو مؤسسة أو نظاماً. فكون هذه الدعوة الآن تلقى تجاوباً من فئات عدة فإنها تعكس حاجة أصيلة في المجتمع إلى هذا التجديد. أما مسألة الخوف من التجديد فسببها تأثرنا بعقدة المؤامرة، ونحن نخاف من الجديد لأننا لا نفهمه ولا نحاول أن نجهد أنفسنا في فهمه.

لكن هل يعني التجديد مجاراة لما تم في الغرب من فصل الدين عن الدنيا؟

 هذه هي الشبهات التي يثيرها ويروجها من لا يريد التجديد، بينما أنت في مجتمعات الدين ركن ركين فيها، فالدين مكون أصيلاً من مكونات هذا المجتمع.

هل ينحصر تجديد الخطاب الديني في الخطب والمواعظ والدروس أم هو مفهوم أشمل؟

التجديد أسلوب حياة فيه فعل وفيه قول فعل بأن نستطيع أن نوجد من المؤسسات، ومن المشروعات ومن الأعمال ومن الهيئات التي تنشر الفكر الصحيح وتنشر الخلق الرفيع، بحيث تعبر هذه الأفكار عن هذا التجديد، فيأتي إليك الناس ليست المسألة مقصورة على الخطب العصماء والعبارات الجوفاء.

نهوض الأمة

• إلى أي مدى يرتبط نهوض الأمة بتجديد الخطاب الديني؟

 لا يوجد نهوض إلا مع التجديد. كيف ينهض الجامد المتحجر صاحب الفكر التكفيري الذي يترتب عليه العدوان على المحرمات الثلاث: النفس المال العرض؟ هذا يتسبب في شق الصف المجتمعي ونشر العداوة والكراهية وتعطيل مسيرة التنمية ومسيرة الحضارة، فلا تنهض أمة بهذا ولا توجد نهضة مع الإجبار أو مع الإرهاب والتخويف.

• دفع كتاب ومفكرون كُثر حياتهم ثمناً لدعوتهم إلى تجديد الخطاب الديني والفكري... برأيك لماذا يلجأ المتشددون إلى لغة الدم؟

المتشدد لا يملك حجة ولا يملك معرفة، لأنه لو كان يملك حجة لعلم أن الكون كله قائم على مبدأ النقيض، بمعنى لكل شيء في الكون نقيضاً ومعاكساً. ثمة سماء عالية وأرض سافلة... ثمة خير وشر، ويجب أن يسير الكون في وجود الاثنين. بالتالي، يوجد المؤمن وغير المؤمن، والقرآن أثبت هذا الوجود في أكثر من آية.

• هل يفيد معهم التحاور أم يؤخذون بالشدة؟

  لا يقبل المتشدد المحاورة، فلا يؤمن إلا بسياسة العنف والقتل، إذن نتعامل معه بمثل ما يتعامل معنا. فالخوارج لم ينتهوا إلا بنهاية حربية سياسية، لأنهم لم يقبلوا التحاور.

• كيف تتم مراجعة وتنقية الأسانيد الفقهية، خصوصاً الآراء التي استقى منها المتطرفون أفكارهم؟

المعروف أن المتطرفين استندوا إلى فكر ابن تيمية، وهي جناية كبرى على الأخير، حيث كان يبحث عن تصحيح الاعتقاد وليس في مسألة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو تكفير المجتمع. بل كان يدعو إلى السلام الاجتماعي، ولم يقل بالخروج على الحاكم المسلم الذي ارتضته عامة المسلمين، أو الذي استطاع أن يتغلب وأصبح في يده السلطة، حفاظاً على استقرار المجتمع وأمنه، فهذا الدين لا يقوم إلا في ظل وجود مجتمع آمن ومستقر.

• هل أنت مع توحيد الخطابي الديني؟

إطلاقاً، فلا يمكن أن يكون ثمة توحيد للخطاب الديني، نظراً إلى تنوع  الناس واختلافهم.

في سطور:

- هو الأستاذ الدكتور عبدالراضي عبدالمحسن رضوان، من مواليد عام 1961، في محافظة المنيا بصعيد مصر.

- نال الليسانس ثم درجة الماجستير في عام 1990 من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، في موضوع «منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في دراسة النصرانية».

- حصل على الدكتوراة من جامعتي القاهرة وبامبرغ الألمانية عام 1996، في موضوع «النبوة بين اليهودية والنصرانية والإسلام»، وهي أول دكتوراة في مجال علم مقارنة الأديان في جامعة القاهرة.

- يشغل منصب وكيل كلية دار العلوم ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة.

- هو أول متخصص في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية بين دارسي الفلسفة والعلوم الإسلامية، ويعد خبيراً في حوار الأديان وتصحيح صورة الإسلام في الغرب.

- له أكثر من ستة عشر كتاباً منشوراً في حوار الأديان من بينها: «مشكلة الأسباب والمسببات في العالم الإسلامي»، و{منهج أهل السنة والجماعة في الرد على النصارى»، و{التطرف اليهودي»، و{نبي الإسلام بين الحقيقة والإدعاء»، و{الغارة على القرآن الكريم»، و{المعتقدات الدينية لدى الغرب»، و{ماذا يريد الغرب من القرآن»، و{الرسول الأعظم في مرآة الغرب».

شروط التجديد

• ما الشروط التي يجب توافرها لأجل تجديد الفكر الديني؟

 ثمة شروط يجب أن تتوافر في المفكر نفسه، وشروط يجب أن تتوافر في الفكر. فالمفكر يجب أن يكون مُلماً بمعارف عصره العلمية منها والثقافية والاجتماعية كي يكون متوافقاً مع حاجات متلقي الخطاب عارفاً بما يريده وبالمفاتيح الشخصية التي يستطيع من خلالها أن يلقي إليها بفكرته وأفكاره. كذلك يجب أن يكون متمكناً من الأصول الشرعية في هذا الدين. فمن غير المعقول أن يخرج أنصاف العلماء أو أشباه العلماء وأشباه المتكلمين الذين يتصدون للدعوة والفتوى، كما قيل لم يفسد العالم إلا أربعة: نصف متطبب ونصف متكلم ونصف لغوي ونصف متفقه، فالأول يفسد الأبدان والثاني يفسد الأوطان والثالث يفسد اللسان والرابع يفسد الأديان.