أوراق وردة الغناء العربي (15 - 20)

حرب فنية حتى النهاية

نشر في 20-06-2016
آخر تحديث 20-06-2016 | 00:04
في الحلقة السابقة تابعنا حالة الاستنفار التي مارسها المطربون للتعبير عن فرحة الانتصار والعبور العظيم في أكتوبر 73، فها هو عبدالحليم حافظ يسجل أغنية لفي البلاد يا صبية للموسيقار محمد الموجي وعاش اللي قال لبليغ حمدي وصباح الخير يا سينا لكمال الطويل وخلّي السلاح صاحي وابنك يقول لك للطويل.

والفنانة شريفة فاضل تغني «أم البطل» التي كتبتها صديقتها الشاعرة نبيلة قنديل ولحنها علي إسماعيل بعد أن استشهد ابنها في الحرب وسعاد حسني تغني دولا مين للموسيقار كمال الطويل وشادية تغني عبرنا الهزيمة لبليغ حمدي وتتوالى الأعمال الغنائية بحماس وحب لتتواكب مع فرحة الشعب المصري باقتحام خط بارليف وتحقيق حلم الانتصار على العدو الإسرائيلي كما تحدثنا عن تاريخ علاقة وردة بعبد الحليم وكيف بدأت مصادفة عام 58 في مهرجان أضواء المدينة بدمشق ثم بدأت أواصر الصداقة تجمع بينهما فكانت تطمئن على صحته من حين لآخر خاصة بعد أن بدأ المرض يشتد عليه ويتطلب ذهابه من حين لآخر إلى باريس لإجراء الفحوصات الطبية إلا أن هذه الصداقة كانت كثيرا ما تطاردها الشائعات التي تحاول الإيقاع بين الاثنين فقيل إن وردة تشعر بالغيرة من الألحان التي ينفذها زوجها بليغ لعبد الحليم وقيل إن وردة هاجمت عبد الحليم بأغنيتها التي تقول في أحد مقاطعها ناس .. كل يوم قاعدين في بيتنا ويطلعوا يجيبوا في سيرتنا إلا أن وردة أكدت كثيرا لحليم أنها تعتز بصداقته وأنه يجب ألا يلتفت لأي كلمة يقال إنها على لسانها إلا بعد أن يتأكد منها.

وفي يوم هاجم حليم بليغ حمدي واتهمه بالإرهاب الفني بعد أن ترك بليغ شركة صوت الفن التي يشارك في ملكيتها عبدالحليم.

العلاقة بين عبدالحليم حافظ وبليغ حمدي كانت من نوع خاص جدا ولا يوجد لها تصنيف سوى في دنيا الإبداع فكل واحد منهما متفرد وله شخصية مميزة ومختلفة تماما عن الآخر بالإضافة إلى أن الصداقة بينهما كانت في أجمل وأعلى مراحلها.

وعبد الحليم هو من أعلن عن موهبة بليغ حين قدمه في إحدى الحفلات وقال عنه (أمل مصر في الموسيقى) ليبدأ بينهما مشوار من الفن والحب والغناء.

وكانت أكثر الأعوام ثراء في حياتهما عام 56 عندما قدما أغنيات شعبية مثل (أنا كل ما أقول التوبة) و(على حسب وداد قلبي) و(سواح) وهي الأغاني المأخوذة من جمل وعبارات وأمثال وأفكار من الفولكلور الشعبي المصري.

كما نجح الاثنان في تقديم وجبة وطنية من الغناء للوطن بعد نكسة 5 يونيو 67 بأغان مثل (عدى النهار) و(أحلف بسماها وبترابها) وغيرها من الأغاني التي لمست الجرح وعبرت عن الحزن وأججت المشاعر وألهبت الحماس ومنحت الأمل وأعطت مساحة من الإصرار داخل القلوب والعقول.

وبالتالى كان من المنطقي والطبيعي والضروري أن تنتشر الشائعات التي تقول إن عبدالحليم لم يكن سعيدا بزواج بليغ من وردة الجزائرية لأن ذلك سيكون على حساب إنتاجه الغنائي له.

ويقال إن حليم قال لبليغ بعد انفصاله عن وردة: «مش قلت لك إن جوازك منها مش نافع»، ويقال أيضا أن وردة وصل لها هذا الكلام فبدأت في تجهيز خطة العداوة تجاه حليم.

ومن أبرز تجارب بليغ مع عبد الحليم حافظ أغنية (أي دمعة حزن لا) والتي كان حريصا أن يبرز فيها الجانب الدرامي والأداء التعبيري الذي ساهمت في تجسيده الآلات الموسيقية لأنها أغنية تعتمد على موقف وفيها مشاهد وصور وانفعلات تسهل عملية تحويلها إلى عمل درامي غنائي.

وفي يوم قال الموسيقار عبدالحليم نويرة لبليغ: أيه اللي أنت عامله في الأغنية دي .. أنت كنت عاوز تعبر عن أيه.

فرد علية بليغ : كنت بأحلم بتقديم شكل درامي مسرحي فيه مشاعر وانفعالات مختلفة.

الطريف في الأمر أن الفنانة وردة كانت معجبة جدا بالأغنية وكانت تتمنى أن تقدمها إلا أن بليغ رفض بشدة فحزنت جدا وتأثرت لأن الأغنية كانت بالنسبة لها ستكون شكلا جديدا تقدمه لجمهورها بالإضافة إلى كم المشاعر والأحاسيس التي تحتويها كلماتها وقررت أن تخاصم بليغ إلا أنها في النهاية استسلمت للأمر الواقع وتنازلت عن رغبتها في غناء هذه الأغنية.

الرحلة الأخيرة

غادر الفنان عبد الحليم حافظ مصر لبدء رحلة علاجه يوم 9 يناير عام 1977 وكان السفر لمجرد إجراء فحوصات طبية للاطمئنان على صحته ورأى البروفيسور روجر ويليامز ضرورة إعطائه حقنة في المريء والحصول على عينة من الكبد لتحليلها ولكن لسوء الحظ في هذه المرحلة أصيب عبد الحليم بمرض الصفرا فاضطر الأطباء لإعطائه دواء الكورتيزون بكميات كبيرة لأنها تشكل خطرا كبيرا على حياته مع مضاعفات المرض الذي يعاني منه.

المهم أن حليم بدأ يستعد للعودة إلى القاهرة وحجز لنفسه مقعدا في الطائرة التي كانت ستغادر لندن يوم الثلاثاء 22 فبراير ليبدأ في إجراء بروفات أغنية «من غير ليه» التي لحنها له الموسيقار محمد عبد الوهاب عن كلمات للشاعر مرسي جميل عزيز والتي كان ينوي أن يغنيها لأول مرة في حفل شم النسيم الذي سيقام يوم الأحد 10 أبريل، وكانت الأغنية يقول مطلعها :

جايين الدنيا ما نعرف ليه

ولا رايحين فين ولا عايزين أيه

مشاوير مرسومة لخطاوينا

نمشيها في غربة ليالينا

يوم تفرحنا ويوم تجرحنا

وإحنا ولا إحنا عارفين ليه

وزي ما جينا جينا

ومش بإيدينا جينا

وقبل السفر لمصر بليلة واحدة مر حليم على المستشفى للاطمئنان على صحته وكشف عليه بروفيسور روجر فرأى حليم تعبيرا غريبا لم يسترح له قفز فجأة على وجه روجر فقال له: أيه الحكاية يا دكتور؟

فسألة : أنت حجزت للعودة إلى مصر ؟

رد حليم : أيوه بعد أقل من 24 ساعة

فقال له روجر : متهيألي لازم تؤجل الحجز شوية

قال حليم : كام يوم .. اتنين والا تلاتة ؟

رد : 20 يوم على الأقل يا حليم

فسألة بصوت متحشرج : ليه .. حصل أيه ؟

قال له : الكورتيزون اللي أخدته سببلك انتفاخ شديد ولازم نعالجه ..

ورضخ حليم للأمر الواقع وظل بالمستشفى وهو في حالة سيئة جدا من الناحية النفسية والجسدية.

في مساء يوم الجمعة 11 مارس أجرى 5 أطباء من مصر وفرنسا وإنكلترا كونسلتو لعبد الحليم لمعرفة آخر تطورات حالته الصحية.

وكان حليم في نفس الوقت يجهز نفسه للعودة إلى مصر، فاتصل بشقيقه محمد وأوصاه بدهان شقته في الزمالك لأنها لم تدهن منذ 12 عاما.

كان الأطباء يعطون تعليماتهم لحليم بألا يرد على أي مكالمة تليفون إلا أنه رفض هذه التعليمات وكان يتحدث إلى جميع من يستطيع الاتصال بهم عبر الخط الدولي.

لم يكن لهذا التصرف سوى معنى واحد فقط هو أن حليم يريد أن يشغل نفسه بأي شيء حتى لايفكر في النهاية التي اقتربت

إن حليم يشعر بالنهاية

يترقبها ويخاف منها ولايدري كيف يواجهها

إنه الآن يحاول أن يطرد شبح النهاية

يتذكر مشروعاته التي تنتظره ومنها مشروع فيلم (لا) الذي سيجمعه بالمخرج الجزائري أحمد راشدي والذي كان معه أمس هنا بالمشفى قادما من باريس لمناقشة بعض التفاصيل في الفيلم الذي كتب قصته الكاتب الكبير مصطفى آمين وكتب له السيناريو والحوار حسن فؤاد وهو الفيلم الذي قرر فيه حليم أن يمثل فقط بدون غناء وتم كتابة السيناريو على هذا الأساس وخلال لقاء حليم براشدي اتفق معه أن يسافر إلى باريس ويقضي معه أسبوعا ليلقي نظرة على السيناريو الذي كان في أشد الحماس لتنفيذه وأثناء لقائه براشدي طلب منه أن يشتري له سيارة ستروين صغيرة مقابل 3 آلاف دولار وتركه راشدي وهو سعيد بهذا التعاون المقبل الذي سيصنع منه عملا فنيا جديدا ومختلفا ومميزا للعندليب الأسمر.

كان حليم يستعد أيضاً بعد العودة لعمل بروفات على أغنية بعنوان (أحلى طريق في دنيتي) للشاعر محمد حمزة الذي أعطى كلماتها للموسيقار محمد سلطان وطلب منه تلحينها وعدم المساس بكلماتها وهي الأغنية التي يقول مطلعها :

ياللي الزمان بعتك ليا

تملا الحياة حب عليا

لاقبل منك قابلني قلب

أرق من قلبك ما الاقي لولأبعد منك شغلني شيء

في الدنيا عنك ولو ثواني

إن حليم على موعد مع أغنيتين في عيد الربيع هذه الأغنية وأغنية الموسيقار عبدالوهاب، وكان واثقا أنها ستكون حفلة جميلة ورائعة ومدهشة، ربما تزيل أثار الحفل الأخير له الذي أقامه في نادي الترسانة في أبريل 76، تلك الحفلة التي عاش فيها حليم أسوأ لحظات في حياته وربما كانت علامة من علامات النهاية، ففي هذه الحفلة كان يشدو برائعة الشاعر الكبير نزار قباني أغنية (قارئة الفنجان) التي صاغ ألحانها محمد الموجي، وهي أغنية اجتمعت لها كل عناصر النجاح، لكن الجمهور كان له رأي آخر، أزعج عبد الحليم وأصابة بالتوتر، وجعله يخرج عن شعوره وإحساسه واتزانه وهدوئه.

فقد فوجئ عبد الحليم بمجرد البدء في الغناء بصفافير الجمهور ووصلات رقص في منتصف الصالة وعندما فاض به الكيل صرخ في هذا الجمهور وقال جملته الشهيرة: أنا كمان بأعرف أصفر وأزعق ووضع يده في فمه وصفر بالفعل.

وصعد أثناء ذلك على المسرح شخص من الصالة حاملا بدلة بألوان فاقعة وتصميم غريب ومرسوم عليها 4 فناجين قهوة وأراد هذا الشخص أن يرتدي حليم البدلة مما زاد من حدة توتره ولم يصدق العندليب أن هذا هو جمهوره، وفجأة تصور أن وردة الجزائرية هي التي أرسلت بهؤلاء البلطجية لإفساد حفلته.

«وردة هي التي تتآمر على نجاحي وتسعى لفشلي وتنتظر نهايتي حتى تستطيع أن تحتل الساحة من بعدي»، كانت هذه العبارات ترن في عقل حليم طوال وقوفة على المسرح وهو ينظر لهذه الحالة العبثية التي سيطرت على حفلته في سابقة هي الأولى من نوعها، وقيل وقتها أن حليم تصور ذلك بعد أن سبق واتهمته وردة بأنه أرسل لها من يهتف باسمه أمام منزلها ليلة حفل الربيع التي قامت بإحيائها.

على أية حال لم يمهل القدر عبدالحليم حافظ لاستكمال مشروعاته الفنية التي كان يستعد لها، فقد ودع العندليب الأسمر الدنيا على أثر مرضه الشديد في يوم 30 مارس عام 1977.

أغنية: أوقاتي بتحلو
كلمات: عبد الوهاب محمد

ألحان: سيد مكاوي

غناء: وردة الجزائرية

أوقاتي بتحلو .. بتحلو معاك

وحياتي بتكمل برضاك

وبحس بروحي بوجودي

من أول مابكون وياك

وياروحي ساعة مالقاك

مش بس أوقاتي بتحلو

دي العيشة والناس والجو

والدنيا بتضحك لي معاك

من كتر حلاوة الأيام

ونعيمي وسعدي بلياليك

مش بحسب فات منهم كام

ولابقدر أفكر غير فيك

والليل وياك يساوي زمان

وأكتر زمان من ميت بكرة

الليل بلقاك أنوار وآمان

وحتى لو كان من قمره

أنا بيك على طول بحلم وبقول

بحلم وبقول وأغني وأقول

أوقاتي بتحلو .. بتحلو معاك

وحياتي تكمل برضاك

ويا روحي ساعة مالقاك

مش بس أوقاتي بتحلو

دي العيشة والناس والجو

والدنيا بتضحك لي معاك

الله عالحب لما يوفق بين قلب وقلب

ويخلي الغرب شعور تاني أحلى من القرب

وأنا جنبك بانسى أن الدنيا فيها ناس قاسيين

أو فيها عذاب وهجر وشكوى بين العاشقين

وبأشوف إن العالم كله محبين

جاني حسود في هواك وعزول

يقول ويعيد حسيبه يقول

وأنا أخاف من أيه وأنت معايا

والعالم أيه مأنت كفاية

يا سلام لما الأيام بتضحك وتروق

والحب أما بيحيي الأرواح مع كل شروق

وأنا بلمح بكرة معاك فتان مليان

أفراح وجمالك أشكال وألوان

وأنت اللي بتهدي القلب نور

وتخلي نجوم ليالي تدور

وتملا حياتي ورود وزهور

وأنا أخاف من أيه مأنتوا معايا

والعالم أيه مأنتوا كفاية

ويا روحي ساعة مالقاك

مش بس أوقاتي بتحلو

دي العيشة والناس والجو

والدنيا بتضحك لي معاك

يوم رحيل العندليب
الأربعاء 30 مارس عام 1977، كان يوما عادياً جدا.. غرفة العندليب المريض عبدالحليم حافظ تمتلئ بالزهور، ومحبوه وأصحابه يتوافدون على الغرفة للاطمئنان عليه، بينما يرقد حليم في سريره ويشعر بقليل من الألم وكثير من التفاؤل، فقد أخبره الطبيب أنه يستطيع أن يعود إلى مصر في خلال يوم أو يومين بعد أن استقرت حالته الصحية.

يرتدي ثيابة ويغسل شعره ويقص أظافره، يسترد أجزاء كثيرة من عافية ابتعدت عنه في الفترة الأخيرة، يضحك ويفكر في أعماله المقبلة.. يتحدث إلى عبد الوهاب ويذكره بموعد بروفة (من غير ليه) ويقول له: «الأغنية صعبة ومحتاجة شغل كتير»، كما يطمئن من محمد سلطان على تجهيزات لحن أغنية (أحلى طريق في دنيتي)، ويتصل بالمخرج أحمد راشدي ليأخذ معه موعد قريب من أجل ترتيبات تصوير فيلمه «لا» بعد أن أوحشته السينما منذ أن قدم فيلم «أبي فوق الشجرة» مع المخرج حسين كمال.

ولكن فجأة حدث أمر لم يكن يتصوره.. نزيف فظيع انفجر بداخله ويرفض أن يتوقف.. نزيف فشلت كل محاولات الأطباء في الحد من غزارته.. نزيف نزف معه حليم كل أحلامه ومشروعاته وخططه ومواعيده وأيامه وأغانيه وذكرياته ونجوميته وشهرته وعذابه وسهره وإصراره وعناده.. نزيف أعلن إنها النهاية.. ومات عبدالحليم حافظ!!

عبدالحليم رحل وهو واثق أن فشل آخر حفلاته سببه مؤامرة دبرتها وردة

حافظ أعلن موهبة بليغ حمدي في إحدى الحفلات بأنه أمل مصر في الموسيقى

وردة حزنت جداً لأن بليغ رفض أن يعطيها أغنية «أي دمعة حزن لا»

جمهور عبدالحليم هتف باسمه أسفل منزل وردة ليلة حفلتها
back to top