حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (15 - 15)

محاولة الاغتيال ليست نهاية المطاف

نشر في 20-06-2016
آخر تحديث 20-06-2016 | 00:05
يختصر المتسترون بالدين أدب نجيب محفوظ في ثنائية بغيضة، يقولون: «متذبذب في كل فكره، والضائع في كل واد، والمستبيح لعقيدة الأمة، والباحث في آثاره يجد ظاهرتين: الجنس والإلحاد»، هذا التصنيف ليس من قبيل «الاختصار المخل» لمسيرة الرجل الأدبية الزاخرة، بل هو من قبيل «الاختصار القاتل»، وقد أدى مثل هذا الاختصار فعلاً إلى محاولة اغتياله يوم 14 أكتوبر 1994.

يخاصمون تاريخ الأمة، ويعادون جوهر التقدم، وكل قادة الوطن ومصلحيه العظام، يضعونهم كلهم في ميزانهم الظالم، عندهم محمد علي مؤسس مصر الحديثة متجرئ على الشريعة، ورفاعة الطهطاوي لم يروا فيه غير الثناء على رقص الأوربيين وتعظيم المجتمع الفرنسي للمرأة. حتى عبدالرحمن الكواكبي اعتبروه أول من نادى بالعلمانية حسب مفهومها الغربي.

أحمد عرابي في نظرهم {ماسوني تنصيري}، حتى الشيخ محمد عبده عندهم: {أكمل المخطط اليهودي الصليبي}(!)، وسعد زغلول لم يجدوا في تاريخه غير أنه لعب القمار مرات، وطبعاً رأوا أن طه حسين شكك في القرآن، وعباس محمود العقاد الذي كتب الكثير عن الإسلام نسوا له كل ما كتب وتذكروا فقط أنه دافع مرة عن البهاء والبهائيين، واعتبروا كتاب {عبقرية محمد} قصوراً وتقصيراً في حق النبوة، وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ لم يسلم واحد منهم من قذائفهم... ومحمد حسنين هيكل في نظرهم مضلل، ونزار قباني زنديق فاجر وإباحي.

لم يكن نجيب محفوظ وحده هو من وزنوه بالميزان الخطأ، وزايدوا على إيمانه، وشككوا في عقيدته، لكنه وحده من بين هذه القامات السابقة الذي اندفعت بالجهل أدواتهم باتجاه اغتياله.

في أواخر الخمسينيات، كتب نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، التي هي السبب المباشر والذريعة الأقوى وراء الفتوى بقتله، ونشرها في عام 1959، مسلسلة في جريدة «الأهرام» ثم أوقف طبعها في كتاب داخل مصر، حتى وقت محاولة اغتياله... أربعون عاماً إلا قليل بين نشر الرواية وبين قرار الاغتيال، ولم يكن هناك جديد.

حصل نجيب محفوظ على جائزة «نوبل» للآداب عام 1988، وفي أسباب منحه الجائزة احتفاء واحتفال من أصحاب الجائزة بالرواية الأشهر «أولاد حارتنا»، ومع ذلك لم تأت عملية الاغتيال الفاشلة إلا بعد مرور ست سنوات على حصوله على «نوبل».

فلماذا، صدر قرار الاغتيال في هذا التوقيت بالذات؟

كانوا خمسة انعقدت عزيمتهم على اغتيال نجيب محفوظ، كانت تتراوح أعمارهم بين 18 و22 سنة وأكبرهم سناً كان عمره 27 سنة، استفزتهم عمليات التصفية التي طاولت بعض قياداتهم، إلى جانب المطاردات اليومية لكل من ينتمي إلى «الجماعة الإسلامية»، وحسب اعترافاتهم وجدوا أنفسهم بين أمرين: إما الاعتقال والسجن، وإما التصفية الجسدية. وكان المخرج أمامهم من هذا المأزق أن يتحركوا باتجاه إحداث فعل له دوي، يقول أحدهم: «قررنا أن نفعل شيئاً نؤكد به أننا أقوياء، ونثبت للحكومة أننا موجودون وقادرون على فعل شيء يُوقف زحفهم نحونا، وأن يغلوا أيضاً أيديهم عن الإخوة في السجون».

ولماذا نجيب محفوظ؟

يقولون: كان ثمة احتفاء رسمي من الدولة بنجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة «نوبل»، وتحدث كثيرون عن أن الجائزة جاءت مكافأة له على رواية «أولاد حارتنا» التي فيها تجاوز في حق الذات الإلهية، ولم يحاسبه أحد عليها، بل تم تكريمه في مصر أيضاً، وسألنا أنفسنا: كيف يُقتل ويعتقل قادتنا لمجرد أنهم يتحدثون عن الفساد في الدولة، بينما يُترك كاتب رواية تنتهك القدسية الإلهية وتسب الأنبياء والرسل؟

ورغم سذاجة الربط بين أمرين لا يجمع بينهما رابط، إلا أن السؤال الذي يبقى هو: على ماذا استندتم في إصدار حكم الموت على نجيب محفوظ والشروع في تنفيذه بأيديكم؟

يقولون: «في هذه الفترة نُشر نص فتوى للدكتور محمد مزروعة الذي كان قد أفتى رسمياً في شهادته أمام المحكمة في قضية اغتيال فرج فودة حينما سألته المحكمة: «هل من حق الرعية إقامة الحدود؟ فأجاب: «يجوز لأحد الرعية إقامة الحد حتى في وجود الحاكم المسلم إن لم يقم الحد». وما حدث مع فودة ينطبق على محفوظ، وهو ما جعلنا نفكر في تطبيق الحد عليه، وفي الوقت نفسه نوجه رسالتنا إلى الحكومة».

انطلقوا أولاً من موقع الذي يريد أن يبعث إلى الحكومة رسالة بالتوقف عن محاصرة الجماعة وتصفية قادتها، ثم وجدوا فرصتهم لتحقيق هدفهم سانحة في اغتيال نجيب محفوظ، فأصدروا حكم الموت ضده، وراحوا يخططون لتنفيذه بأيديهم.

إذا راجعتهم في خطأ موقفهم يقولون: «عندما يخرج عالم من الأزهر صاحب كلمة مسموعة، ويعلن تلك الفتوى أمام جهة رسمية وتُنقل عنه للناس ولا يحاسبه أحد فهذا يعني أن كلامه صحيح»، والأهم من ذلك كله اعترافهم بأنهم لم يكن لديهم وقت للتفكير في مثل هذه الأمور، يقولون: «كنا معرضين للتصفية أو الاعتقال ما بين لحظة وأخرى وكان لا بد من اتخاذ خطوة سريعة وقوية».

هل أفتيتم لأنفسكم بشرعية اغتيال نجيب محفوظ، لماذا لم ترجعوا إلى أحد مشايخ أو قادة الجماعة؟ يقولون: «لم يكن منهم أحد خارج السجون، جميعهم كانوا معتقلين. كنا فاقدي الاتصال بهم نهائياً». إذاً، حين تصديتم للفتوى لأنفسكم بقتل نجيب محفوظ كنتم قد قرأتم الرواية التي حاولتم اغتياله بسببها؟ إجابتهم الصادمة: «لم نجدها، فقد كانت مصادرة، قرأنا فقط تقريراً عنها من أحد الكتاب الذي قرأها، وقال إن محفوظ يحكي فيها عن حارة من حارات مصر، وأنه سمى الأب باسم الجبلاوي كناية عن الله عز وجل، وسمى أبناءه أدهم على اسم سيدنا آدم، وحمدي على اسم سيدنا محمد، كذلك أنبياء الله يوسف وعيسى وموسى، جميعهم بأسماء مستعارة، حتى إبليس سماه إدريس». ولماذا لم تتوجهوا إلى الأزهر لسؤاله؟ إجابتهم الجاهزة كانت «أن الأزهر كان تابعاً للنظام وينفذ ما تريده الدولة».

الأولاد... والآيات

في الخلفية، كان ثمة إصرار على الربط بين نجيب محفوظ، صاحب «أولاد حارتنا»، وبين سلمان رشدي، صاحب «آيات شيطانية»، وكان الإمام الخميني، قائد الثورة الإيرانية، أصدر فتوى بإهدار دم الأخير باعتباره مرتداً عن الإسلام يوم 14 فبراير 1989، وبعد أربعة أيام من صدور الفتوى أجرت جريدة «أخبار اليوم» حواراً مهماً مع محفوظ دان فيه الفتوى، وقال إن محاربة الفكر لا تكون إلا بالفكر.

وهنا تحولت عيون المتطرفين إلى نجيب محفوظ، ففي يوم 23 فبراير 1989 أصدرت جريدة «النور» مقالاً طويلاً استغرق الصفحة الأخيرة بأكملها، ربطت فيه بين نجيب محفوظ وسلمان رشدي، اللذين وصفتهما بأنهما باعا نفسيهما للشيطان على حد تعبير كاتب المقال. وتلقى زعماء التطرف هذه الإشارة وبدأوا بمهاجمة الكاتب الكبير على منابر المساجد، وكان أحد أكثر المهاجمين الشيخ عبد الحميد كشك، وهو جمع سلسلة خطبه في كتاب له بعنوان «كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا» وفيه اتهام صريح لنجيب محفوظ بالإساءة إلى الله والأنبياء، «والكافر المرتد لا يستحق إلا الحد».

كذلك شن الشيخ عمر عبد الرحمن هجوماً متواصلاً ضد نجيب محفوظ من خلال خطب الجمعة التي كان يلقيها في أحد مساجد الفيوم، وأدلى بحديث لجريدة {الأنباء} الكويتية في أبريل 1989، دان فيه صراحة سلمان رشدي ونجيب محفوظ، واتهمهما بالكفر.

كان يعلم أن «أولاد حارتنا» هي سبب الهجوم عليه من «الإسلاميين»، وكان يخشى أن تتسبب جائزة «نوبل» في تصعيد  الهجوم عليه، لأنها في رأيهم الرمز لحضارة الغرب الكافر، عدوهم اللدود، الذي منح جائزة لفتت الأنظار أكثر فأكثر إلى أدبه قبل أن تلفتها إلى شخصه، ومن ثم إلى حضارة الغرب يتطلع إليها الشباب الذي انجذب إلى أدبه، وكان يقول: «لهذا بالضبط كان لا بد لهم من أن يضربوا الجائزة وصاحبها».

كان يستشعر الخطر الكامن وراء الأسوار، ولكنه لم يتوقع أن يصل الأمر إلى محاولة اغتياله، ربما كان يقصد أو يتوقع أن تجري عملية اغتياله معنوياً، لكن أن يقدم بعضهم على تنفيذ عملية اغتياله مادياً بسكين، فذلك ما لم يكن له على بال، ولا دار في خياله.

كان بعض مريديه وحوارييه يطالبونه بالحذر، خصوصاً أنه يكاد يكون متاحاً للعامة في الشارع من دون حراسة، ومن دون حول له ولا قوة، وكان وقتها حين ثارت الزوابع مجدداً ضد «أولاد حارتنا» قد جاوز الثمانين من عمره، كان رده على محبيه في كل مرة: «الأعمار بيد الله».

خطة الاغتيال

بعد مقتل طلعت ياسين، قائد الجناح العسكري في الجماعة الإسلامية، أصبح التنظيم مجموعات متناثرة، وفكر بعض أعضائه البارزين في كيفية الرد على مقتل زعيمهم ليثبتوا لقوى الأمن أن ذراع الجماعة المسلحة لا تزال قادرة على أن تصل إلى أهدافها في قلب العاصمة. وانعقد عزمهم على القيام بعملية تتوافر لها مقومات عدة كي تصل رسالتهم واضحة إلى القوى الأمنية: أن يكون الهدف سهلاً، وأن يكون في القاهرة، وأن يسبب الاعتداء عليه ضجة كبيرة في الداخل والخارج، فوجدوا ضالتهم في اسم نجيب محفوظ.

الرجل اسم مشهور وقامة كبيرة وله سمعة دولية، والأهم أنه غير مسلح، ولا تقوم عليه حراسه وهو بالتالي هدف سهل، وهو قبل ذلك وبعده ذائع الصيت في الداخل والخارج، وهو محل احتفاء الشعب المصري والأوساط الأدبية، وهو موجود في القاهرة بجوار مستشفى الشـرطة بالعجوزة، إذاً هو الصيد الثمين الذي يحقق لهم مقومات العملية كافة التي أرادوها لتكون صفعة قوية للنظام من ناحية، ومن ناحية أخرى ترفع من معنويات الجماعة التي كادت تنهار عقب مقتل زعيم التنظيم المسلح.

العملية إذاً كانت سياسية الأهداف، فرضتها ظروف خاصة بالجماعة الإسلامية التي كانت تعاني تضييقاً أمنياً في تلك الآونة، والهدف اختير لأسباب واقعية أكثر من كونها أسباباً تتعلق بالعقيدة أو بالدين، وطبعاً لا تتعلق بالأدب ولا بالرواية.

وضعت المجموعة التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ العملية الأديب الكبير مقاماً وسناً، فقد كان وقتها قارب على إتمام السنة الرابعة والثمانين من عمره، وضعته ومنزله تحت المراقبة والرصد، واكتشفت أن زواره قليلون، وأن الوحيدة التي تزوره هي ابنته. كذلك رصدت مواعيد زيارتها، وذهب اثنان من العناصر، ارتدى أحدهما ملابس رجل خليجي، ومعه آخر مثَّل أنه سائقه، وصعدا إلى الشقة، ومعهما باقة ورد وعلبة شوكولاتة فاخرة، وكان الترتيب أن يدعي الشاب ذو الزي الخليجي بأنه يرغب في أن يوقع له الأستاذ نجيب على «أوتوغرافاً»، وأنه اضطر إلى الحضور إلى منزل الأستاذ من دون سابق ميعاد لأن طائرته ستقلع بعد قليل، وأن تتم عملية «ذبحه» داخل المنزل. ولكن فوجئ فريق الاغتيال بعدم وجود محفوظ في منزله وقتها، فسلما الشخصان الهدية لزوجته، وانصـرفا، وتم تأجيل التنفيذ لليوم التالي في 14 أكتوبر عام 1995.

جعلتهم سهولة الهدف يرتجلون طريقة التعامل معه، إذ ذهبت مجموعة الاغتيال إلى منزله في الموعد المحدد بينهم، ويقول أحد منفذي العملية: «اتفقنا نحن الخمسة على أن نلتقي في اليوم التالي عند منزل محفوظ، وتقابلت أولا مع ناجي، وفى الطريق سألته: ماذا لو لم نجد حارساً عند العقار، ولا حراسة أمام مستشفى الشـرطة المجاور لبيته فرد عليّ: ده مستحيل، وعموماً لو حصل يبقى ننفذ العملية في الشارع، وحدث فعلاً ما تصوروه مستحيلاً، ولم نجد أية حراسة لا أمام بيته، ولا أمام المستشفى، فاتخذنا القرار باغتياله في الشارع».

الشريان السباتي

كانت العناية الإلهية تحوط نجيب محفوظ في تلك الساعة، فقد كان المسؤول عن صحبته في ذلك اليوم الدكتور فتحي هاشم، وهو فضلاً عن كونه أديباً وكاتباً فهو طبيب. صحيح أنه طبيب بيطري لكنه على الأقل يعرف المبادئ الأساسية في التعامل مع الحالة التي وقعت أمامه بشكل أفضل مما لو كان أحد غيره ممن تعودوا على اصطحاب محفوظ بالسيارة إلى لقاء يوم الجمعة مع الأصدقاء. يحكي الجانب الآخر من الصورة فيقول: «كنت يوم الاعتداء عليه أنتظره بسيارتي أمام منزله في العجوزة. كعادته خرج الأديب الكبير من شقته بالطابق الأرضي بالعجوزة، وركب السيارة في المقعد الأمامي، وكان معتاداً على أن يبادر بفتح زجاج السيارة. تقدم شاب منه، صافحه، وتوجهت إلى ركوب السيارة فسمعت صرخة عالية من نجيب محفوظ فنظرت إليه سريعاً، صرخت في الشاب: بتعمل إيه يا مجنون؟ فسارع في الهرب. نظرت إلى الأستاذ فوجدت سكيناً مغروساً في رقبته، فأسرعت إليه لأخرج سن السكين من رقبته، وهو يصرخ. بدا لي أن المجرم حاول ذبحه بالسكين، كان يستهدف قطع الشريان السباتي الرئيس الموصل للدم إلى الدماغ والمخ» .

وصف نجيب محفوظ ما جرى في تلك اللحظة قائلاً: «بعدما صافحني، شعرت بوحش من نار يطبق على رقبتي». شيخوخته أنقذته، وانحناؤه إلى الأمام بسبب السن، مرت السكين بسبب ذلك قرب الشريان الرئيس. تراجع فتحي هاشم عن تعقب القاتل. كان الدم يتدفق كنافورة، بسرعة جلس مكانه بالسيارة. ضغط الجرح بيد، وبيد واحدة قاد العربة الصغيرة إلى الخلف قاصداً مستشفى الشرطة، على بعد أمتار قليلة من منزل محفوظ، وعندما وصل إلى البوابة الرئيسة هرع إلى الباب صارخاً: «افتحوا، الأستاذ نجيب محفوظ حاولوا اغتياله». بسرعة فتح الباب، حتى هذه اللحظة كان محفوظ واعياً، أنزلوه إلى نقالة متحركة، قبل أن يغيب عن الوعي، قال: «خذوا بالكم أنا عندي سكر».

اتصلت إدارة المستشفى فوراً بالجراح الدكتور أحمد سامح همام، ومجدداً تشاء إرادة الله أن يكون الجراح الشهير واقفاً أمام المصعد في الطابق الذي يسكنه متأهباً للمغادرة إلى دعوة عشاء، لحقوا به قبل ركوب المصعد، أبلغوه طلب المستشفى، لم يستغرق وصوله إلا مسافة الطريق، ودخل مباشرة إلى غرفة الجراحات.

تداعى كبار المسؤولين إلى المستشفى فور علمهم بما جرى، وزير الداخلية، ووزير الصحة، وعدد من كبار ضباط مباحث أمن الدولة. وأمام المستشفى جرى تجمع من مثقفين وناس عاديين توافدوا إليه بعد سريان الخبر، وتطوع كثيرون بدمهم. بعد أربع ساعات خرج النبأ من غرفة الجراحات، نجحت الجراحة، ونقل محفوظ إلى غرفة الرعاية المركزة.

ويصف تلك اللحظة جمال الغيطاني فيقول: «وصلنا إلى غرفة الرعاية المركزة التي يرقد فيها أكثر من مريض. كان محفوظ نائماً على ظهره، لأول مرة في حياتي أراه من دون نظارة طبية. بدا منفعلاً، في صوته رعشة وحشرجة. كان يصافح باليسرى، استعدت ما قاله الدكتور سامح همام عن تأثر العصب الواصل إلى اليد اليمني. قال إنه اطمأن عندما رأى الأستاذ يحرك أطرافه، لكن الأمر سيحتاج إلى وقت».

المسامح كريم
المصائب لا تأتي فرادى، وبسبب دعابة بريئة كادت تتأجج مجدداً موجات العداء ضد نجيب محفوظ حين نشرت جريدة «الأخبار» أن الممرضة سألت محفوظ عن حالته الصحية فداعبها قائلاً: «يظهر أن الجبلاوي راضٍ علي»، فالتقط محام أرياف هذه الدعابة بعد نشرها في الأخبار في 7 ديسمبر عام 1994 ورفع في 12 من الشهر نفسه دعوى قضائية ضد محفوظ متهما إياه «بالافتئات على حقوق الله عز وجل وتسميته بالجبلاوي»، وطلب المحامي تعويضاً مؤقتاً قدره 501 جنيه لما أصابه من ضرر نتيجة الحوار المنسوب إلى محفوظ. إلا أن محكمة جنايات المنصورة أصدرت حكمها النهائي في 26 ديسمبر عام 1995 برفض الدعوى.

وعلى عهدة الكاتب والأديب محمد سلماوي فإن نجيب محفوظ سامح الذين حاولوا اغتياله. يقول: سألته آنذاك: «أنت مسامح المتهم ولا إيه»، فقال: «أسامحه طبعاً، لكن العفو لا أملكه ولازم القانون يأخذ مجراه».

وقال سلماوي: «طلبت وقتها إجراء مقابلة مع المتهم بمحاولة الاغتيال، قلت له: هل تعلم أن الأستاذ نجيب سامحك فيما فعلت؟ فلم يتأثر وقال «مش مهم»، فسألته: ألم يضايقك ذلك، فقال: ضايقني أني لم أستطع تنفيذ العملية».

وجاءت مبادرة الشيخ محمد الغزالي بزيارة نجيب محفوظ في مستشفى الشرطة، وكانت تلك هي المرة الأولى للقاء يجمع الرجلين. كانت الزيارة لافتة، خصوصاً أن الشيخ الغزالي صاحب المذكرة التي صودرت بموجبها «أولاد حارتنا». وروى الأديب يوسف القعيد الذي حضر اللقاء أن الغزالي شدّد على أنه ضد الرواية، ولكنه يدين محاولة الاغتيال التي «لا يقرها شرع ولا دين»، وعلق على نشر الرواية في مصر قائلاً: «السموم أيضاً تنشر خلسة والناس تقبل عليها». ورداً على بعض الكتب التحريضية التي اعتبرت تمهيداً وتحريضاً صريحاً لاغتيال محفوظ، ومن بينها كتاب الشيخ كشك قال الشيخ الغزالي: إنه «رجل جاهل».

بعد الحادث، حُرم نجيب محفوظ من نعمتين: الأولى هي المشي الحر في شوارع القاهرة، والثانية التنقل الحر بالتاكسي. وصار لا يتحرك إلا في سيارة أحد الأصدقاء تسبقه حراسة مشددة، وتتبعه حراسة، وكان لا بد من أن يبلّغ عن مشاويره قبل يوم كامل من القيام بها حتى تتخذ الإجراءات الأمنية التي لا بد من اتخاذها. فقد باختصار حياته التي تعود عليها طوال 88 سنة قبل محاولة اغتياله.

وحين أتى أجل نجيب محفوظ، وكان بلغ سن الخامسة والتسعين من عمره، مرض لمدة عشرين يوماً بعد إصابته بجرح غائر في الرأس بسبب سقوطه في الشارع، وأوصى بضرورة الصلاة عليه في مسجد الإمام الحسين، ولكن محاولات اغتياله معنوياً لم تتوقف من يومها ومن النوعية نفسها التي حاولت اغتياله حياً.

عمر عبد الرحمن اتهم محفوظ بالكفر والإلحاد في حديث صحافي عام 1989

عملية اغتياله الفاشلة أتت بعد مرور ست سنوات على حصوله على «نوبل»

بعد حادثة الاغتيال حُرم محفوظ من المشي الحر في شوارع القاهرة والتنقل بالتاكسي
back to top