سورية... أهوال لا يتصوّرها عقل

نشر في 15-06-2016
آخر تحديث 15-06-2016 | 00:03
No Image Caption
ديفيد كراين محامٍ متخصص بجرائم الحرب يطارد المجرمين المتورطين في الحرب السورية! في عام 2012، شارك في إلقاء القبض على الدكتاتور الليبيري تشارلز تايلور المعروف بسمعته السيئة. لكنه حوّل تركيزه الآن نحو سورية وبدأ يشرف على مشروع يُعنى بجمع قاعدة بيانات ضخمة عن جرائم الحرب التي ارتكبها الرئيس بشار الأسد.
«شبيغل» سلّطت الضوء على عمله في هذا المضمار.
هل يكون قتل بشار الأسد مشروعاً؟ يجيب الأستاذ الجامعي ديفيد كراين أنّ {قتله مسموح في ظروف معينة}. طرح كراين هذا السؤال على أحد طلابه في إحدى المحاضرات ثم أجاب بنفسه فوراً من دون إظهار أي عاطفة.

كان كراين في السابق مدعياً عاماً بارزاً لدى الأمم المتحدة، لكنه أصبح اليوم أستاذاً في كلية الحقوق في جامعة {سيراكيوز} في ولاية نيويورك. بما أنه محامٍ، لا يشاهد وحشاً في شخص الأسد بل قضية ويريد أن يطرح هذه القضية أمام المحكمة.

تشمل مدينة {سيراكيوز} 145 ألف نسمة وتقع ضمن المنطقة الصناعية التي تحمل اسم {حزام الصدأ} وتبعد نحو أربع ساعات بالسيارة عن مدينة نيويورك. تحمل جامعة {سيراكيوز} سمعة حسنة، لا سيما في مجال القانون.

في هذا المكان أنشأ كراين، بعد فترة قصيرة على بدء الحرب الأهلية السورية، ما يشبه مكتب النائب العام الطلابي. يستعد الطلاب بالتعاون مع أساتذتهم لليوم الذي سيشهد محاكمة الأسد على جرائم الحرب التي ارتكبها أمام محكمة دولية. يحمل هذا العمل اسم {مشروع محاسبة سورية}.

لا يسهل أن نلحظ وجود كراين، بقميصه الفاتح وسرواله الصوفي الرمادي ونظاراته الداكنة. لكن سرعان ما تعود الأنظار إليه حين يتحدث عن دوافعه: يريد استعمال الصلاحيات القانونية لمواجهة أهوال لا يتصورها عقل!

في أوقات مماثلة، يتحوّل الأستاذ الودود إلى محامٍ شرس لا يخشى السفر إلى أكثر الأماكن اضطراباً في العالم. في 2003، كان كراين المسؤول عن توجيه الاتهامات ضد أحد أقوى الطغاة في إفريقيا، تشارلز تايلور، في {فريتاون}، سيراليون. في 2012، حُكم على تايلور بالسجن لخمسين سنة. ويتحمّل رئيس ليبيريا السابق مسؤولية مقتل أكثر من 100 ألف شخص ويُحتجَز اليوم في سجن إنكليزي ولن يغادره مطلقاً على الأرجح.

سجل مفصّل

عنوان فرعي

يأمل كراين وطلابه أن تقرر الأمم المتحدة أو سورية بعد حقبة الحرب إنشاء محكمة خاصة لمقاضاة مجرمي الحرب المتورطين في الصراع. هم يجمعون الأدلة وكأن تلك المحكمة نشأت أصلاً ويقارنون مصادر المعلومات من أنحاء العالم، يتحققون من تقارير شهود العيان، يتواصلون مع منظمات حقوق الإنسان، يتصفحون التقارير الحكومية والمواد الإعلامية بأكبر قدر من الدقة. كذلك يحتفظون بسجلات دقيقة عن هذه الحرب ويوثقون المعلومات كل يوم، فيحضّرون بذلك أكبر مرجع كامل في العالم عن جرائم الحرب في سورية. إنه فهرس عن الأهوال المرتكبة وفيه نسخ مستحدثة يرسلها كراين دوماً إلى الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية.

يسعى الشبان الذين يسهرون طوال الليل لإتمام هذا العمل إلى نيل شهادات دكتوراه، من بينهم مولي وايت (24 عاماً) من ميشيغان. منذ طفولتها، كانت تنبهر بالقتلة المتسلسلين وهشاشة الحضارة. بفضل {مشروع محاسبة سورية}، تحمّست للعمل على قضيةٍ {ستغيّر العالم} بدل أن تصل في النهاية إلى طريق مسدود.

تشمل قاعدة البيانات الراهنة 17 ألف صفحة من البيانات الموثقة وتهدف إلى إخافة المعتدين، لا سيما أعضاء النظام المسؤول عن أفظع الأهوال. حتى ديسمبر 2015، سجّل المحامون 12252 حادثاً، وقد نُفّذ ثلثا الجرائم تقريباً على يد قوات الأسد. تشمل لائحة المتورطين أيضاً قائد {الدولة الإسلامية} وعناصر من {الجيش السوري الحر} ومعتدين آخرين. لكن لا يمكن تحديد المسؤولين عن جريمة من كل خمس جرائم ارتكبتها الجهات التي تقاتل الأسد، لأن الثوار وعناصر «الدولة الإسلامية» لا يرتدون زياً موحداً ولا يضعون شارات معينة، لكن من المعروف أن جماعات المعارضة ارتكبتها.

يقول رئيس المشروع بيتر ليفرانت (29 عاماً): {يمكن التأكيد حصراً على عدم وجود أي طرف بريء في الحرب}. في ما يخص القانون الدولي، لا أهمية كبرى لحجم الخسائر أو الأضرار أو حصيلة القتلى، بل يصبّ التركيز على وقوع جرائم حرب.

وصلت أولى النسخ من لوائح الاتهام الآن إلى يد ليفرانت. تتألف النسخة الخاصة ببشار الأسد من 20 صفحة وتشمل {جرائم ضد الإنسانية} و{جرائم حرب}.

في تلك الوثائق، يفصّل الطلاب بدقة كيف أمر قائد الحرس الجمهوري التابع للأسد في دمشق، سهيل سلمان حسن، في 15 مارس 2011، بإطلاق النار على المتظاهرين العزل وكيف كان الرئيس الأسد يقود الاعتداءات المنهجية ضد المدنيين، وتذكر هذه المعلومات التاريخ والبلدة والمدينة والمنطقة الإدارية.

خصص المحققون فصلاً كاملاً لتعداد 130 ألف شخص مفقود على الأقل، ووصف وسائل التعذيب التي استعملها الجهاز السري التابع للأسد. تتراوح تلك الوسائل بين كسر العظام وحرق الناس أحياء. يستعمل الطلاب لائحة الاتهام الموجّهة ضد الرئيس الليبيري السابق، تايلور، كمسودة لاتهام الأسد.

تهريب الصور

عنوان فرعي

يقع مكتب كراين الصغير في الطابق الثالث من الجامعة، وفيه رفوف مصنوعة من خشب السنديان وطاولة بسيطة لكنه يخلو من النباتات. لا شيء في مكتبه يرمز إلى شهرته أو إنجازاته المهنية. لكن يعرفه الجميع في {سيراكيوز}، لا سيما العاملون في المقهى وسائق الفندق. وفي الأوساط الدولية الضيقة التي تُعنى بمطاردة مجرمي الحرب، يتمتع كراين بسمعة ممتازة.

يُعتبر منصب كبير المدعين العامين في المحكمة الخاصة بسيراليون لدى الأمم المتحدة من أعلى المناصب الفخرية بالنسبة إلى المحامين. حين أُدين تايلور بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محاكمات {الماس الدموي}، كان الإنجاز عظيماً بالنسبة إلى كراين.

عمل كراين في وزارة الدفاع الأميركية طوال 30 سنة كمستشار قانوني قبل تعيينه في غرب إفريقيا. كان منصبه الأخير في البنتاغون حساساً لأنه تولى إدارة {مكتب السياسات الاستخبارية والمراجعة} الذي يقدم التوصيات إلى الأجهزة الاستخبارية الأميركية حول الشؤون القانونية. تُعتبر اقتراحاته في عام 2014 أمام مجلس الأمن والمفوضية الأوروبية بشأن قضية {القيصر} أسطورية.

كان {القيصر} اسماً مستعاراً لمصور عسكري من سورية. طوال أشهر، راح يهرّب أدلة (صور يظهر فيها سجناء يموتون من الجوع بعد تعرّضهم للتعذيب) من مكان عمله على جهاز {يو إس بي} كان» يخبّئه في حذائه. شمل الجهاز 55 ألف صورة تظهر فيها 11 ألف جثة، ما يثبت {كيفية قتل الناس بطريقة صناعية} في معاقل التعذيب التابعة للأسد. لو قبض النظام على {القيصر}، كان ليصبح واحداً من القتلى الذين يظهرون في تلك الصور.

في البداية نقل الثوار السوريون المواد التي جمعها {القيصر} إلى الحكومة في قطر. ثم وظفت شركة المحاماة البريطانية {كارتر - راك} كراين بطلبٍ من القطريين. طُلب منه ومن خبيرَين آخرين في القانون التأكد من أن الصور غير مفبركة.

يقول كراين إن {الصور حقيقية بنسبة 100%} و}القيصر} شخص حقيقي أيضاً. يعترف المحامي بأنه أمضى أربعة أيام وهو يتحدث مع مصدر المعلومات. لم يشأ {القيصر} أن يقبض المال. ما كان يتحمّل تصوير أكثر من 50 ضحية تعذيب في اليوم كما يقول، وحين قُتل أحد أصدقائه يوماً قرر الهرب. اليوم، يعيش {القيصر} في مكان ما من أوروبا تحت هوية مفترضة.

يظن كراين أن بيانات {القيصر} لا تكشف إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة. التُقطت الصور في ثلاثة مراكز تعذيب في دمشق، لكن ثمة 50 موقعاً مماثلاً في أنحاء البلد.

الجرائم الأميركية
في ظل التحالفات السياسية الراهنة، لا أمل بنجاح خطة كراين. في مناسبات متكررة صوّتت روسيا والصين، حليفتا سورية، في مجلس الأمن ضد إنشاء محكمة خاصة بجرائم الحرب المرتكبة في سورية. لكن في شهر مارس، قرر مجلس النواب الأميركي الضغط على الأمم المتحدة لإنشاء محكمة خاصة. حتى أنّ عضو الكونغرس الجمهوري كريس سميث اقترح استعمال بيانات كراين كأساس لإنشائها.

حتى اليوم، أنهى الطالبان ليفرانت ووايت كتابة خمس لوائح اتهام مع أستاذهما، وينويان الآن كتابة لوائح اتهام ضد قادة {الدولة الإسلامية} و{جبهة النصرة} و{الجيش السوري الحر}.

يقول رئيس المشروع ليفرانت: {لا نملك أي أجندة سياسية محددة. الجريمة تبقى جريمة والقانون يبقى قانوناً}. حتى لو صدرت لوائح الاتهام، لا يمكن معاقبة جميع المجرمين. لكن يمكن استهداف المتورطين الأساسيين وكبار قادة الوحدات القتالية التي شاركت في جرائم الحرب.

يعيش كراين حياة هادئة بعد تقاعده في كارولاينا الشمالية. اعتاد التجول في الكروم والاعتناء بأحفاده. لكنه يسافر مرة في الأسبوع إلى {سيراكيوز} حيث يمضي يومين. درّس كراين هناك لأكثر من 40 سنة ويُسعِده أن يعلّم المدعين العامين المستقبليين طريقة مطاردة مجرمي الحرب.

بما أنه ابن ضابط أميركي، عاش لفترة في جنوب ألمانيا. وحين كان في الثانية عشرة من عمره، في عام 1962، زار معسكر الاعتقال {داخاو} مع عائلته: {ما زلتُ قادراً على شمّ رائحة الجرائم المرتكبة هناك}. لم تفارقه تلك التجربة ودفعته في النهاية إلى دراسة القانون.

في تلك الفترة، كان كراين فخوراً بطريقة دفاع الأميركيين عن الحرية في أوروبا لكنه يجد صعوبة اليوم في الافتخار ببلده. أوشك على مغادرة وزارة الدفاع أثناء التخطيط لحرب العراق في 2002. يقول إن تلك الحرب {حصلت لسبب واحد: النفط}.

ثم بدأت قضية تشارلز تايلور. في تلك الفترة تساءل كراين، بصفته كبير المدعين العامين، عن أسباب عدم تلقيه أي دعم وإعاقة تحقيقاته رغم علاقته الممتازة مع الأجهزة الاستخبارية الأميركية. تبيّن أن تايلور كان يعمل لصالح وكالة الاستخبارات الدفاعية ووكالة الاستخبارات المركزية وقد أرادوا متابعة التعاون.

يشعر كراين بالخجل لأن بلده لم يوقّع على قانون المحكمة الجنائية الدولية، ويقتبس كلام الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن الذي قال في إحدى المناسبات إنه سيسير نحو هولندا إذا مَثُل جندي أميركي واحد أمام المحكمة.

يعبّر كراين عن اندهاشه لأن أكبر مجرمي الحرب في العالم (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) لم يُحاسَبوا يوماً كونهم يستفيدون من حق الفيتو في مجلس الأمن.

حتى الآن، لم يعرف كثر بسجل جرائم الحرب الذي يتم تحضيره في {سيراكيوز}. لكن يتمتع كراين بخبرة واسعة في هذا المجال.

يعرف كراين أن الطريق نحو العدالة طويل ومليء بالانتكاسات لكن يمكن تحقيقها في نهاية المطاف، فقد نجحت مساعيه مرة في السابق!

كراين وطلابه يأملون أن تقرر الأمم المتحدة أو سورية بعد حقبة الحرب إنشاء محكمة خاصة لمقاضاة مجرمي الحرب

تتألف النسخة الخاصة ببشار الأسد من 20 صفحة وتشمل {جرائم ضد الإنسانية}
back to top