حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (9 - 15)

هو وأنور السادات... «مد وجزر»

نشر في 14-06-2016 | 00:05
آخر تحديث 14-06-2016 | 00:05
بعد أيام قليلة من تشييع جثمان جمال عبدالناصر إلى مثواه الأخير، اجتمعت اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي وقررت تكليف أنور السادات، نائب الرئيس الراحل، بالعمل رئيساً للجمهورية مؤقتاً ويُرشح اسمه للاستفتاء. صدم القرار كثيرين، من بينهم نجيب محفوظ الذي لم يتمالك نفسه وهو يضرب كفاً بكف غير مصدق للخبر، وهو يقول لزوجته: هذا «الأضحوكة» سيصبح رئيساً لمصر؟
بدأ موقف نجيب محفوظ مع عبدالناصر متدفقاً في التأييد، حالماً بعالم جديد، وانتهى ناقداً حزيناً على فوات الفرصة التي رأها تاريخية، وقد أفلتت من بين أيدينا بسبب عدم تحصين عبدالناصر إنجازاته بالديمقراطية.
مع خليفة عبدالناصر، أنور السادات، بدأ محفوظ متحفظاً، متشككاً في قدرته على قيادة السفينة بعد وفاة ربانها الكبير، ثم انقلب موقفه إلى تأييد كامل، وربما إعجاب وانبهار، ثم انتهى إلى ما يشبه النبوءة باغتياله في روايته «ألف ليلة وليلة» التي نشرت في جريدة السادات الأثيرة «مايو» قبل مقتله بأسابيع عدة.
كان انطباع نجيب محفوظ الأول عن الثورة وقائدها إيجابياً، وكان انطباعه الأول عن خليفته سلبياً، واعتبره ضعيف الشخصية، تحركه مراكز القوى، ولن يقدر على تحمل مسؤولية خلافة رجل بحجم وقيمة وزعامة جمال عبدالناصر، يقول: «رغم أن السادات كان الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كنا نعرفه نتيجة مشاركته في النشاط السياسي قبل الثورة، ولدوره في قضية مقتل عثمان أمين، فإن منزلته في نفوسنا كانت متدهورة، وكنا نعتبر السادات في آخر الصف من قيادات الثورة، خصوصاً أن دوره ظل لسنوات طويلة شرفياً ليس مقارنة بعبدالناصر فقط، بل وحتى بالنظر إلى أدوار أداها رجال أمثال عبدالحكيم عامر، أو زكريا محيي الدين، أو عبد اللطيف البغدادي، أو كمال الدين حسين، وغيرهم من أعضاء مجلس قيادة الثورة. بدا السادات لنا كأنه العضو «المركون» أو «الاحتياطي»، خصوصاً أنه لم يتول منصباً مؤثراً طوال عصر عبدالناصر، لذلك لم أتصور أبداً أن يكون هو الخليفة، ولما حدث ذلك بالفعل اعتبرت المسألة في غاية السخرية والسخف».

من اللحظة الأولى لاختياره ليكون المرشح لرئاسة الجمهورية خلفاً لعبدالناصر لم يكن ثمة وجه للمقارنة بين عبدالناصر والسادات. يتذكر محفوظ تلك اللحظة ويقول: «بدت الفروق بينهما هائلة، ذلك على عكس الوضع بالنسبة إلى سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس».

ولكن استهتار نجيب محفوظ بأنور السادات لم يطل أمره أكثر من سبعة أشهر، وبعدها صار مقتنعاً بأن الرجل «داهية»، يقول: «ظلت فكرتي عن السادات سيئة، واقتناعي بأنه غير كفء لتولي المسؤولية بعد عبدالناصر ثابتاً، حتى اكتشفت مدى دهائه وحنكته في أحداث 15 مايو سنة 1971، حيث استطاع أن يتخلص من «عمالقة» أشداء، كان يراهم حجر عثرة في طريقه، ولأول مرة أشعر في حديثه وبيانه الذي ألقاه آنذاك بأنه أثر في نفسي، بعدما كان يثير فينا السخرية والاستهانة به، وبدا أشبه بالشخص المستضعف في أفلامنا السينمائية القديمة، والذي يفاجئ الناس بأفعال لم يتوقعوها منه».

أيد محفوظ السادات فيما أقدم عليه من أفعال آنذاك، مثل: هدم السجن الحربي وحرق الملفات الأمنية وتصفية مراكز القوى التي كان يرتبط مع بعض أفرادها بصداقة، واقتنع بكل ما قاله السادات عنهم من أنهم السبب المباشر في الأزمة التي مرت بها مصر، وأنهم أساس الخوف والرعب الذي عاش فيه الناس سنوات طويلة، يقول: «رغم أنني لم أتعرض لأذى من مراكز القوى هذه بصورة مباشرة، فإنني كنت مع أي خطوة في سبيل الحرية والديمقراطية».

يفسر البعض هذا التغيير في نظرة محفوظ إلى الرئيس الجديد بعلاقة محمد حسنين هيكل، الذي كان مؤيداً للسادات في هذه الأثناء، بأدباء جريدة «الأهرام» أمثال توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس وغيرهم.

«مسيو حكيم»

سرعان ما وجد هؤلاء الكتاب والأدباء أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع أنور السادات، جرت وقائعها بعد إصدارهم بياناً يرفض استمرار حالة «اللاسلم واللاحرب» وتأثيراتها السلبية على كل من الجبهتين، جبهة القتال بطول قناة السويس مع العدو الذي يحتل سيناء، والجبهة الداخلية التي بدأت تفقد الأمل في تحرير الأرض المحتلة.

في شهري يناير وفبراير عام ‏1973‏، شهدت البلاد تظاهرات طلابية حاشدة أدت إلى مصادمات مع الشرطة واعتقال بعض الطلبة، واهتمت الصحافة العالمية بأحداث مصر، خصوصاً الصحف الفرنسية، وجاءت إلى مصر وفود المثقفين الفرنسيين من الأدباء والمستشرقين والمحامين لاستطلاع الأمر، بمن فيهم المؤيدون لثورة يوليو أمثال جان لاكونير وإريك رولو وغيرهم‏. وكان يمرّ معظم هؤلاء بمكتب توفيق الحكيم بالأهرام ويسألون‏: ما رأيك مسيو حكيم؟ كم عدد الطلبة المحتجزين مسيو حكيم؟ وهو كان يشعر بحرج بالغ، وبدا وكأنه ضاق ذرعاً بالصمت عما لا يعجبه‏، وأحس بوطأة سياسة تهميش المثقفين وقادة الفكر، فبادر إلى كتابة «بيان» موجه إلى السادات يناشده فيه الإفراج عن الطلاب المعتقلين، ويدعوه إلى مكاشفة الشعب بحقائق الأمور.

كان هذا أول بيان سياسي يكتبه الحكيم في حياته‏، وطلب توقيع الكتاب والأدباء عليه، يقول محفوظ: «دخلت صباحاً إلى مكتب توفيق الحكيم لأصافحه كعادتي وأجلس معه بعض الوقت، وبمجرد أن جلست قدم لي بياناً مكتوباً بخطه كي أقرأه، وعندما انتهيت من قراءته سألني: هل توافق على توقيعه؟ رددت فوراً: نعم أوافق».

وصدر البيان وعليه توقيع عشرات من الكتاب والأدباء والصحافيين، وسرعان ما طيرته وكالات الأنباء، ونشرته الصحف الغربية والعربية، وجاء رد السادات على البيان عنيفاً، ففصل أكثر من مئة من كبار الكتاب والصحافيين على رأسهم الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وأحمد بهاء الدين وعلي الراعي ورجاء النقاش وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم كثيرون، ولم ينشر اسمي الحكيم ونجيب محفوظ بناء على نصيحة كمال أبو المجد، وزير الإعلام في ذلك الوقت، وكان رجلا ذكياً.

كانت تلك اللحظات هي الأصعب في علاقة نجيب محفوظ مع السلطة، وحصلت وراءها متاعب كثيرة، ونال نصيباً مضاعفاً من المنع، فمنع من الكتابة ومنعت أفلامه من العرض في التلفزيون سواء المأخوذة عن رواياته، أو تلك التي شارك في كتابة سيناريو لها، كذلك شنت ضدهم حملة موسعة في الصحف، وظل السادات يكرر الحملة في خطبه على الذين وقعوا البيان، وقال مرة بالنص: «حتى اللي اسمه نجيب محفوظ بتاع الحشيش وقع معاهم». ولعلها كانت المرة الأولى التي يضحك فيها نجيب محفوظ خلال تلك الأزمة، وهو يقول أمام أصدقائه وخلصائه: «طيب كان حد تاني غير السادات يتكلم عن الحشيش»، في تلميح إلى إشاعة إنه يدخنه في الغليوم الشهير الذي لم يكن يغادر يده حتى في اللقاءات الرسمية.

كان هيكل مسافراً خارج مصر، ويقول نجيب محفوظ: «بعد عودته قابلته أمام «المصعد» فسألني وهو يضحك:

- إيه اللي أنتم عملتوه ده.

لم يكن رافضاً بل بدا أقرب إلى الرضا بما فعلناه.

واستمرت الأزمة إلى أن قرر السادات العفو عن الأدباء والكتاب المعزولين، في خطابه الذي ألقاه في ذكرى رحيل جمال عبدالناصر قبيل اندلاع حرب أكتوبر سنة 1973. ولكن الواقعة كانت قد تركت درسها لدى الجميع، ومن يومها لم يوقع محفوظ بياناً، خصوصاً تلك التي تصطدم بالسلطة... وكلما طلب منه أحد التوقيع على بيان من هذا النوع كان يرفض بشدة وهو يضحك ضحكته المميزة: «أنت مش فاكر إيه حصللي بعد بيان توفيق الحكيم... لا يا عم مش موقع».

«فلاش باك»

بدأت تجربة نجيب محفوظ المباشرة مع أنور السادات بأول لقاء لهما في مكتب إحسان عبد القدوس في مبنى «روزاليوسف»، يقول: «كانت قد صدرت رواية «خان الخليلي» في سلسلة «الكتاب الذهبي»، وذهبت لأحصل على أجري من الرواية، وفجأة دخل شخص وجلس إلى المكتب وعرفني به إحسان بأنه عضو مجلس قيادة الثورة، واكتشفت من حديثه أنه قرأ الرواية حين قال لي ضاحكاً ضحكته الشهيرة:

• أنت تعبتني قوي بأحمد عاكف بتاعك ده، شكلك كنت عاوزنا نعيط.

في المرة الثانية، كان محفوظ مدعواً إلى اجتماع برئاسة طه حسين وبحضور خالد محيي الدين ويوسف السباعي وآخرين، وبعد نهاية الاجتماع كان اللقاء المباشر الثاني بينهما يقول: «وإحنا نازلين على السلم أقبل عليّ السادات وراح ماسكني من أيدي وهو يقول لي:

• «أنا زعلان منك». سألته: ليه لا سمح الله؟ فقال معاتباً: كيف تجعل الضابط في رواية «بداية ونهاية» ينتحر؟ أنت لا تعرف أن الضابط ده هو نحن؟ وأنه كان يجب أن يعمل ثورة، مش ينتحر؟».

«كنت متعجباً من السادات وهو يلومني بشدة على تفكير شخصية في الرواية». وفي المرة التالية، كان محفوظ معجباً بما فعله أنور السادات، حدث هذا قبل عرض فيلم «ميرامار»، وكان لدى الرقابة بعض المخاوف من رسالة الفيلم، وتدخل «الاتحاد الاشتراكي» وقرر مصادرة الفيلم بدعوى أنه ضد جمال عبدالناصر، وانتدب الأخير أنور السادات ليرى الفيلم ويقول رأيه فيه، وحين شاهد السادات الفيلم الذي كان يحمل على «الاتحاد الاشتراكي» ورئيسه في ذلك الوقت علي صبري، مدح في الفيلم جداً، وقال إنه عمل عظيم. يقول محفوظ: «السادات عمل لفيلم «ميرامار» دعاية بمليون جنيه، وفعلاً عرض الفيلم ولقي نجاحاً غير عادي».

يتابع: «بعدها عرفت أن ثمة خلافات بين أنور السادات وبين علي صبري، لذلك جاء مدحه للفيلم نكاية فيه وفي الاتحاد الاشتراكي».

أما اللقاء الذي ترك أثراً إيجابياً في نفس نجيب محفوظ تجاه أنور السادات، فقد جرى حين «كنت عضواً في اللجنة التحضيرية التي شكلت قبل المؤتمر الوطني الذي أقر «الميثاق». يومها كتبت اقتراحاً في ورقة وأرسلتها إلى السادات الذي كان يرأس تلك الجلسة، وطالبت في اقتراحاتي بضرورة الإفراج عن المعتقلين، خصوصاً الشيوعيين منهم، وكتبت بعض الاقتراحات الخاصة بالموقف من الأقباط.

رفعت الجلسة ولم تقرأ ورقتي، وبينما كنت أتمشى بجوار القاعة جاء إليَّ من يطلبني لمقابلة السادات، ذهبت إليه في مكتبه فوجدت إحسان عبد القدوس عنده، فأخرج السادات ورقتي من جيبه وهو يقول لإحسان:

• «شوف صاحبك العبيط كاتب إيه؟ أنا لو كنت قرأتها كان خرج من الاجتماع على المعتقل، ولم يكن لأحد أن يعرف له طريق جُره».

يقول محفوظ: «تأثرت بقوة من موقف السادات، واعتبرت ما فعله ديْناً في عنقي بقي طول الوقت».

***

شخصية متناقضة

الرجل الذي اعتاد تحليل شخصيات رواياته وقصصه ورسم حدودها وضوابطها ومحركاتها ودوافعها كان له تحليل خاص لسلوكيات السادات وأفعاله، يقول: «توصلت إلى أنه شخصية غريبة الأطوار تدعو إلى الحيرة والدهشة، وله معي أكثر من موقف يشير إلى طبيعة شخصيته، ولكن أكثر ما لفتني أنه كان يغضب من تصرف أو رأي ويعاقب صاحبه، ثم لا يلبث أن يقوم هو بالتصرف نفسه، وحدث ذلك في أكثر من موقف، أذكر منها ما جرى معي مباشرة عندما بادر بنفسه إلى طرح فكرة تطوير «الاتحاد الاشتراكي» وإعادة الروح والفاعلية إليه، ودعيت مع آخرين إلى مؤتمر يناقش هذا التطوير المزمع إجراؤه، وكان المهندس سيد مرعي يرأس اللقاء، وطرحت القضية للنقاش وطلب مني الحديث، فقلت: الحل الوحيد أن تسمح الدولة لكل مجموعة متوافقة في الفكر والرأي بأن يكون لها منبر مستقل داخل «الاتحاد الاشتراكي»، وفوجئت في الجلسة التالية للمؤتمر بحضور السادات ليشارك ويستمع إلى المناقشات، وإذا به يقول علناً إن البعض ألمح في الجلسة السابقة إلى ضرورة إنشاء أحزاب ومنابر سياسية، وصحيح أنني أحب الحرية وتعدد الآراء لكن هذا لا يمنع من أنه بإمكاني أن «أفرم»!

انزعج محفوظ من حديث السادات وحار في تفسير الدعوة إلى تطوير الاتحاد الاشتراكي بينما الرئيس يهدد بفرم المعارضين، فقرر ألا يحضر أية جلسة بعد ذلك، يقول: «السادات الذي رفض علانية فكرة المنابر والتجمعات والأحزاب السياسية هو نفسه الذي عاد بعد فترة وطبقها بل وأصبح أحد المتحمسين لها، وكان يعتبرها واحدة من أكبر إنجازاته»!

موقف آخر جرى حين كتب نجيب محفوظ مرة في المفكرة بجريدة «الأهرام» يسخر من منح درجة الدكتوراه الفخرية للفنانين وقال إن لا معنى لها، وإنها لا تضيف إلى فنان كبير مثل محمد عبد الوهاب ليس بحاجة إلى درجة «دكتوراه» لا قيمة لها، وموسيقاه لن تزيد قيمتها برتبة «اللواء» التي مُنحت له.

غضب السادات وقال للسباعي:

- «طيب هو مش ها يأخذها».

وكان بعض الجامعات قد رشح اسم نجيب محفوظ لنيل درجة دكتوراه فخرية واعتذر عنها، يقول: «كنت أعتبر أن التلاعب بهذه الدرجة العلمية الرفيعة دليل على اهتزاز القيم في المجتمع».

وكتب محفوظ يهاجم سياسة الانفتاح الاقتصادي ويرفض الفساد الذي استشرى بسببها، وكان السادات يبدي ملاحظاته على ما يكتبه ليوسف السباعي الذي لم يجد مناصاً من أن يقول لمحفوظ: «بلاش سياسة»، وكان هو من أصرّ على أن يكتب كتاب وأدباء «الأهرام» في السياسة، وحدد لكل منهم يوماً يكتب فيه تحت عنوان «المفكرة»، يقول محفوظ:

• «من يومها انقطعت عن الكتابة في مفكرة الأهرام».

عبدالناصر والسادات

انحاز نجيب محفوظ أكثر إلى السادات، كان أقرب إليه في أفكاره وسياساته. صحيح أنه كان يعظم عبدالناصر، ويحفظ له حقه في أنه غيَّر وجه الحياة على أرض مصر، ويعترف له بأنه ناصر الفقراء، ولكن خطيئته الكبيرة عند محفوظ تتمثل في أنه أقام «حكم الفرد»، وأسس أعمدته في الواقع. ورغم أن السادات لم يقم، حتى في نظر محفوظ، حكماً ديمقراطياً، فإن سماحه ببعض الهوامش في حرية الرأي في بعض الأوقات جعل محفوظ يغفر له الكثير من فرديته وديكتاتوريته المقنعة في أثواب ديمقراطية بالية.

الناقدون لتوجهات نجيب محفوظ الساداتية رأوا في روايته «الكرنك» محاولة للنيل من تجربة جمال عبدالناصر، خصوصاً أنها كتبت بعد رحيله، وأنها أسست لمرحلة تسمى «الكرنكة»، وكانت هي الضربة الأولى في الحملة الشرسة التي اندلعت لتهيل التراب على عصر جمال عبدالناصر.

أمور جيدة

وكان محمد حسنين هيكل أول من اعترض على الرواية حين ذهب إليه نجيب محفوظ عام 1972 لينشرها مسلسلة في الأهرام، ويوافق محفوظ على أن تلك الفترة شهدت مخططاً للهجوم على عبدالناصر. وبعد خروج «الكرنك»، توالت الأعمال والكتب التي تهاجم عبدالناصر وعهده، يقول: «ظن كثيرون أن الكرنك كانت بداية لحملة، في حين أن ظهورها جاء مصادفة ولا دخل لها إطلاقا بتلك الحملة».

وشعر نجيب محفوظ بالضيق من الربط بين روايته وبين الحملة على عبدالناصر، وأحس أنه تسرع في إصدارها، يقول: «كانت الرواية سبباً مباشراً لانقلاب كل اليساريين ضدي، لأنهم اعتبروها هجوماً على عبدالناصر، خصوصاً أنهم في تلك الفترة كانوا مشتبكين في معركة حامية ضد أنور السادات وأنصاره، واعتبروا الرواية مؤيدة لهم»، بينما يعتبر هو أن هدفه الوحيد منها إثارة قضية التعذيب في المعتقلات، وهي الرواية الوحيدة التي حرص محفوظ على أن يكتب في نهايتها تاريخ كتابتها في عام 1971.

وقف نجيب محفوظ مع الرئيس السادات في حلوله التي طرحها لقضية الحرب والسلام مع «إسرائيل» وأعلن تأييده معاهدة «كامب ديفيد»، بل يقول إنه أول من طرح فكرة التفاوض مع «إسرائيل» في لقاء مبكر مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي جرى في مؤسسة الأهرام أعرب فيه نجيب محفوظ، حسب قوله، عن اقتناعه بجدوى التفاوض مع «تل أبيب» بديلاً عن حربٍ بدت في ذلك الوقت غير ممكنة، وبدت خسائرها فادحة، وكان ذلك قبل حرب عام 1973.

في الإجمال، يبدو تقويم محفوظ لشخصيّ عبدالناصر والسادات وأضرار سياساتهما راجحاً في جانب الأخير، وهذا لم يمنعه من أن ينقده في {يوم قُتل الزعيم} ( 1980)، وفيها نقد شديد للانفتاح الاستهلاكي الذي شكّل إمبراطورية لصوص ومملكة منحرفين، وتسبب في انحدار أحوال الطبقة الوسطى التي نمت وترعرعت في عهد عبدالناصر. وفي الرواية يترحَّم الشباب على أيام الزعيم الراحل رمز الآمال الضائعة، آمال الفقراء والمهمشين، كما يصبون لعناتهم على بطل الحرب والسلام الزائف، ويكررون باستهزاء أقواله: {صديقي بيجن، صديقي كيسنجر}، ثم يرددون حكمهم القاسي عليه: {الزي زي هتلر، والفعل فعل تشارلي تشابلن}·

كان نجيب محفوظ {ابن نكتة}، وكان يلجأ إلى قفشاته اللاذعة وبخفة دم ساخرة حين تغلبه الحجة، وكان، في نظر البعض، يحبّ السادات لأسباب غير مفهومة. يروى المفكر الدكتور جلال أمين أن الأديب الكبير استمع بإنصات واهتمام إلى نقده الشديد لما جرَّه السادات بسياسته من ويلات على مصر، وبعد أن انتهى أمين من تقديم أسبابه، وعرض رأيه كاملاً، قال له محفوظ مبتسماً: {ولكن لا تنسى أنه فعل أموراً جيدة}. سأله أمين: ما هي؟ قال محفوظ: {إنه مات}.

السادات يعاتب محفوظ: بطل {بداية ونهاية} ضابط كان لازم في النهاية يعمل ثورة... مش ينتحر!

أديب نوبل أيّد السادات في هدم السجن الحربي وحرق الملفات الأمنية

محفوظ يعاني المنع المشدد عقب موافقته على بيان ينتقد حالة «اللا سلم واللا حرب»

محفوظ يعتذر عن قبول دكتوراه فخرية رافضاً التلاعب بهذه الدرجة العلمية الرفيعة

أديب نوبل نشر نبوءة مقتل السادات في رواية {ألف ليلة وليلة} قبل مصرعه بأسابيع على صفحات جريدته
back to top