حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (8 - 15)

{انتقدتُ عبدالناصر من موقع الانتماء إلى ثورته}

نشر في 13-06-2016
آخر تحديث 13-06-2016 | 00:05
في 23 يوليو عام 1952، كانت مصر على موعد مع عصر جديد برموزه وقضاياه ومعاركه وإنجازاته وإحباطاته، كانت تتوق إلى التغيير الذي جاءها يسعى فوق دبابات تقودها نخبة من الضباط الأحرار، وخرج الشعب مؤيداً ومناصراً «الحركة المباركة»، وجرت مياه كثيرة في نهر النيل جرفت معها عصراً كان قد انتهت صلاحيته التاريخية. وكان نجيب محفوظ أنهى السنة الأولى بعد الأربعين من عمره، وكتب 11 رواية، نشرت له منها ثماني روايات، وبقيت «الثلاثية» حبيسة الأدراج حتى نشرت في 1957.
توقف نجيب محفوظ عن الكتابة مأخوذاً بالمشهد الذي تغيرت فيه التفاصيل كافة، واستقبل ما يجري مؤيداً وحالماً ومتمنياً ومتأملاً، حتى اكتملت ملامح المشهد الجديد أمامه فاستعاد رغبته في الكتابة وأعاد إلى قلمه روح الناقد الباحث عن الحقيقة والحق. توالت أعماله، وكانت ذروة ازدهاره الأدبي في زمن الثورة، نشر خلالها «الثلاثية» وجميع الروايات التي انتقدت الواقع الجديد، وتحولت أعماله الأدبية إلى نصوص سينمائية وتلفزيونية وإذاعية ومسرحية على نطاق واسع وكان عصرها الذهبي في زمن عبدالناصر، ونال من التقدير والتكريم ما لم ينله أحد في زمن قبله ولا بعده، وجاءته جائزة «نوبل»، فانهمرت عليه صنوف التقدير.

علاقته بعبدالناصر ورؤيته لعصره أحد الموضوعات الملتبسة الذي ثار حوله لغط كبير، ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن ثلاثة أرباع «اللغط» حول موقف نجيب محفوظ من ثورة يوليو 1952 ورأيه في زعيمها جمال عبدالناصر من صناعة حواري الأديب الكبير ومريديه.

راح كل منهم يصبغ «موقف محفوظ» بآرائه هو الشخصية، فمن كان منهم مناهضاً للثورة ومعادياً لزعيمها استطاع أن يجد في روايات محفوظ وتصريحاته ما يؤكد وجهة نظره وما يثبت عداءه الكامل للثورة.

ومن كان منهم موالياً للثورة مؤيداً لزعيمها أمكنه أن يجد في الروايات نفسها، وفي تصريحات أخرى للرجل ما يؤيد وجهة نظره بشواهد أخرى تثبت عكس ما ذهب إليه المناهضون للثورة، بل جاء بعضهم بأقوال منسوبة إلى الأديب تثبت أنه: «ناصري ولكن مُقنَّع».

والخطأ الكبير الذي يقف وراء هذا اللغط يقوم على خطأ آخر صغير يبدأ بحساب الأديب على ميزان السياسة وليس بموازين الأدب، فبدت آراء محفوظ السياسية متضاربة، متناقضة، يراها البعض سطحية، ووصفها البعض الآخر بأنها تحمل براءة تقترب من السذاجة، بينما تبقى أعماله الأدبية منضبطة على مقياس الأدب يجدها الجميع، مؤيدين ورافضين، أعلى سلم الإبداع، ويرونه الأب المؤسس لفن الرواية العربية.

الروائي الكبير بهاء طاهر، المحسوب على الاتجاه المؤيد للثورة ولعبدالناصر، يرفض أن يقارنه أحدهم بنجيب محفوظ، ويقول: «المقارنة لا تجوز، ابحثوا عن فرع آخر في الأدب إذا أردتم مقارنة أي أحد بنجيب محفوظ»، فهو المؤسس والرائد والمبدع، الذي فتح شارع الرواية ووسَّعه فأصبح أحد أهم شوارع الأدب بفضل جهوده، ودخلت على إثره أجيال جديدة حتى أن توفيق الحكيم دعا إلى أن يكون للرواية عيد سنوي يكون يومه هو يوم ميلاد نجيب محفوظ.

الصلح خير

نجيب محفوظ السياسي قل فيه ما تشاء، واختلف معه كما تشاء، واختلف على هذه الآراء وخذ منه وأرفض، لأن السياسة عنده ليست إلا «هوامش» ربما لا قيمة لها على «المتن» الأصلي عنده وهو «الرواية».

واحدة من زوابع اللغط حول آرائه السياسية جرت وقائعها إثر نشر صفحات من كتاب «نجيب محفوظ - صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، والذي كتبه الناقد رجاء النقاش على أنه سيرة أدبية وسياسية وشخصية لأديب نوبل. احتوى الكتاب على ما اعتبره البعض هجوماً ضارياً من نجيب محفوظ ضد جمال عبدالناصر وثورة يوليو 1952، وكان من بين ما قاله محفوظ في الكتاب: «كانت أخطاء عبدالناصر كثيرة، ولكن خطأه الأكبر الذي أثار غضبي عليه هو أنه أضاع فرصة تاريخية نادرة لينقل مصر نقلة حضارية هائلة، أشبه بما حدث في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، كانت كل الظروف مهيأة له، وكنا نأمل منه الكثير الذي نتمنى تحقيقه على يديه، ولكنه أضاع الفرصة، بمعاركه الكثيرة التي خاضها».

كانت نظرة محفوظ إلى مجريات ثورة يوليو تتلخص في أن: «في التاريخ الإنساني تجد أن لكل بطل تراجيدي «مأساوي» نقطة ضعف تكون سبباً في القضاء عليه، وكانت نقطة ضعف عبدالناصر هي عدم إيمانه بالديمقراطية والحوار واستئثاره بالسلطة وضيق صدره بالرأي الآخر. ولو أقام عبدالناصر أي نظام ديمقراطي، حتى ولو كان مجلس شورى مقننا، بمعنى أن يؤخذ فيه برأي غالبية الأعضاء، ولا يكون مجرد مجلس استشاري يستطيع حله عندما يريد، لو أقام عبدالناصر هذا النظام شبه الديمقراطي لتغير تاريخ مصر إلى الأفضل، ولتجنبنا الدخول في ذلك الصدام مع قوى الاستعمار، ولصفينا ما بيننا وبين إسرائيل، ولما دخلنا حربي 1956 و1967، ولا كانت هناك حاجة إلى حرب أكتوبر 1973، وكنا سرنا في مشروع القومية العربية بخطوات عاقلة وحكيمة، كان من المؤكد أنها ستأتي بنتائج أفضل».

ورغم خفة بعض هذه الآراء المحفوظية إلا أن المواقف انقسمت حولها بين مؤيد وغاضب، وبدا عند الرافضين أن الأديب الكبير متورط في حملة جديدة على الثورة وعلى عبدالناصر، وقبل أن تسكت مدافع الهجوم، والدفاع، كان لنجل عبدالناصر الكبير المهندس خالد موقف مميز تجاه نجيب محفوظ.

يقول المهندس خالد عبدالناصر: «كانت أمي تتابع بحب أحاديث فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في التلفزيون وتحرص بدأب على أن تستمع إليه بعد صلاة كل جمعة، وذكرتها مرة بهجوم الشيخ على عبدالناصر، ولكنها لم تتوقف عن عادتها، وتركتني في حيرة، حتى توصلت إلى تفسير لذلك أثبتت لي الأيام صحته فيما بعد، فقد كانت يرحمها الله تفصل بين الشعراوي الشيخ الجليل، المتمكن في مسائل الدين والمبدع في تفسير القرآن، وبين رأيه السياسي. في الأولى يحبه الناس، ويسمعون له، وفي الثانية يختلفون معه، ويتفقون. وعلى هذا الأساس بنيت موقفي من نجيب محفوظ، حين يكتب محفوظ في الأدب فله كل التعظيم، أما حين يتحدث في السياسة بالشكل الذي تحدث به في مذكراته، فنقول له نحن نختلف معك يا أستاذ نجيب».

ونشرت الجرائد تصريحات منسوبة إلى المهندس خالد جاء فيها: «أنا كابن لجمال عبدالناصر أغفر لنجيب محفوظ كل ما قاله في حق الوالد»، وحين وصلت إلى أسماع الأديب الكبير كلمات نجل الرئيس الراحل سُرَّ منها جداً، وطلب من بعض أصدقائه أن يقرأها عليه، وقال: «هذا موقف نبيل جداً»، ووجدها بعضهم فرصة لترتيب لقاء بينهما، ورحب كلاهما على الفور، وتحدد الموعد في المركب الراسية على شاطئ النيل بالقرب من السفارة الفرنسية، وعلى مقربة من منزل الرئيس الراحل أنور السادات.

- «أهلا، أهلا، شرفتني قوي يا غالي يا ابن الغالي».

كانت الضحكة تخرج من قلب الأديب الكبير نجيب محفوظ وهو يردد هذه الكلمات، ترحيباً بالدكتور خالد نجل عبدالناصر، الذي عانقه بحرارة، وطبع أكثر من قبلة على رأسه، وهو يردد: «ازيك يا أستاذنا، وازي صحتك، أنت اللي غالي عندنا. شرف لي يا أستاذ هذا اللقاء، كلي سعادة أن أطمئن عليك وأشوفك، وتأكد أن كلنا بنحبك».

يرد محفوظ بصوت يقاوم شيخوخة العمر ووهن الجسد: أنت اللي شرفتني قوي... أي والله. قال خالد: أنت أستاذنا، وأنت روائي عظيم، وأعمالك كلها في قلبي وقلوب كل الشعب المصري. ورد نجيب: أنا اللي شجعني يا خالد أنك قلت أنا غفرت له. وضحك الحضور على قفشة نجيب محفوظ. ليضيف خالد: أنت تقول يا أستاذنا ويا عمنا الكبير زي ما أنت عايز تقول. فرد نجيب: والله القلوب عند بعضها يا خالد يا غالي يا ابن الغالي.

كان هذا اللقاء في شهر يونيو عام 1999، وبعدها بأقل من سنة وفي مجلة «نصف الدنيا» وفي يناير عام 2000 وبمناسبة ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر، قال نجيب محفوظ: {التقيت جمال عبدالناصر عندما تم اختيار القاهرة مقراً لاتحاد الأدباء العرب، وأذكر أننا ذهبنا إليه بصحبة يوسف السباعي، وقبلها التقيت معه في الحفل السنوي لتوزيع جوائز وشهادات التفوق، واستلمت منه إحدى هذه الجوائز. وبعد النكسة زارنا في الأهرام، وزار توفيق الحكيم في غرفته، وانتظرته أنا وصلاح جاهين، وصلاح طاهر، وحسين فوزي في غرفة أخرى وتحدثنا إليه وتحدث إلينا بكل ود وكل صدق}.

وتابع: {كل إيجابيات ثورة يوليو 1952 ومكانتها في كثير من أعمالي مثل {حديث الصباح والمساء، ميرامار، ثرثرة على النيل، قلب الليل} وغيرها، ومعظم هذه الأعمال قرأها عبدالناصر وعكست موقفي من الثورة تماما، ومع ذلك لم يعتقلني عبدالناصر، ولم يصادر لي رواية، لأنني لم أقل أمراً يسيء إلى الثورة. لكني فوجئت بالناصريين يهاجمونني بعد صدور كتاب رجاء النقاش، وكأنهم فوجئوا بآرائي الآن. أنا لا أعتبر نفسي عدواً للثورة، ولا لعبدالناصر، لكن الغضب وعدم احتمال أي مخالفة جعل بعضهم يتصور أني عدو لعبدالناصر}.

فترة الصمت الأدبي

بدأت علاقة نجيب محفوظ بثورة يوليو بحالة انبهار كبير، أيدها، وراح يأمل في أن يتحقق الكثير على يدها، وتوقف عن الكتابة لمدة تقترب من خمس سنوات متصلة، وهو يرى أن تلك الفترة التي امتنع نهائياً فيها عن «الكتابة» أو امتنعت هي عنه، والتي أعقبت قيام ثورة يوليو كانت فترة تحققت فيها الأحلام، يقول: «من الطبيعي إذا شعرت بالراحة والانسجام مع الأشياء كففت عن الإنتاج». كنت مع الثورة من دون قيد ولا شرط، كانت تحت يدي سلسلة من الموضوعات الروائية الواقعية تكفي العمر كله، بعد قيام الثورة حدثت حالة موت أدبي كدت أنصرف عن الكتابة الروائية وتحولت إلى كتابة السيناريو، فقدت رغبتي بشكل مفزع في الكتابة الأدبية بل فقدت الرغبة في مجرد التفكير فيها».

ليس عنده تفسير لهذا السكوت الأدبي الطويل نسبياً، ربما كانت حالة ترقب، ربما كانت حالة ارتياح مؤقت لخلاص مصر بعد الثورة من مظالم الحكم. كان لا بد من أن يتوقف ويتأمل ويرصد هذا الجديد الذي يولد وينمو وتتشكل ملامحه الكاملة، حسب قوله هو فإن «جمال عبدالناصر غيَّر الحياة من جذورها، حرر الشعب من الإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال المستغلين، الذين كانوا يحكمون من وراء الحكام ومن الاحتلال الإنكليزي ومن الملك. وكان يرى أن هذه النقلة التي حدثت لمصلحة شعب مصر، لم تحدث في تاريخه، يقول: «أعترف أن أكبر نصير للفقراء في تاريخنا كله كان جمال عبدالناصر، وهذا المعيار كان في ذهني، كنت أفرح وأؤيد كل أمر تقوم به الثورة وكنت متحمساً... «يعني ناصري غير معلن».

حاول البعض التهويل من انتقاداته لبعض ممارسات النظام الناصري، وحاول البعض الآخر أن يصور حجم المعاناة المرة التي عاناها نجيب محفوظ في ظل عبدالناصر، وهو أمر ينفيه محفوظ نفسه في أكثر من حوار وبأكثر من صيغة للنفي، من بينها الاستنكار لمثل هذا التصور ويقول: «أزعم أن الفن ازدهر إلى حد كبير في العهد الناصري، وجزء كبير من هذا الازدهار يرجع إلى نظام الحكم نفسه، لأنه سمح بهامش من الحرية»، قال هذا في محاوراته مع رجاء النقاش في مطلع التسعينيات بعد أكثر من عقدين على وفاة عبدالناصر.

إذا أردت أن تضبط زاوية نظرك تجاه رأي نجيب محفوظ في عبدالناصر والثورة، لا بد من أن تدرك أنه ينطلق في ذلك من أمرين: الأول: تقدير كبير لما جرى ولما أنجز، والثاني: نقد قاس للأخطاء، والخطيئة الكبرى في نظره هي غياب «الحرية السياسية» أو تغييبها على مدار إجراءات الثورة وقراراتها الكبرى.

أنظر إليه وهو يقول بكل صراحة: «الثورة أسقطت المجتمع الذي كنت أرفضه، وأنشأت مجتمعا حديثاً حققت فيه للشعب مكاسب إيجابية ضخمة ورافقتها للأسف سلبيات كثيرة مقلقة»، ثم وهو يقول: «التغيير الذي حدث خلال 18 سنة يحتاج إلى 180 سنة»، ثم أنظر إلى فجيعته الشخصية وقد جاء عليه وقت حسب نص كلامه: أقسم بالله العظيم اعتقدت أننا أصبحنا دولة عظمى». ثم تأتي النكسة في سنة 1967 لتجعله يقول إن إحساسه هذا كان خادعاً، وإنه نتيجة لكثرة الدعاية والترويج الإعلامي والتأثير الخطابي، «كنا في حالة غياب الوعي التي تحدث عنها توفيق الحكيم».

«وفدية» محفوظ المعروفة جعلت البعض ينظر إلى موقفه من ثورة يوليو وزعيمها من هذا الشباك الضيق، وحتى ينفي أن تكون مؤاخذاته على الثورة وعبدالناصر نتيجة لموقف شخصي منه يقول: «نلت في عهد عبدالناصر أكبر تقدير، وكرمتني الدولة على جميع المستويات بالأوسمة والجوائز، ولا أعتقد أن الثورة تمنح كاتباً كل هذا القدر من التقدير ثم تشعر أنه خائن لمبادئها».

ويضيف: «رغم نقدي سلبياتها، كنت أتمتع ككاتب بحريتي في الأوقات كافة، وفي حياة عبدالناصر كتبت ما أريد بكل ما أملك من أدوات التعبير»، وكتبت أموراً اعتبرها البعض جنوناً. في {ثرثرة فوق النيل} تحدثت عن عزلة الشعب عن النظام الحاكم الذي يقوم بكل شيء وكأن الشعب لا وجود له. صحيح الكلام كان على لسان {حشاشين} ولكن لم تنطل الحيلة على الرقباء والمتطوعين فحاولوا إثارة عبدالناصر، فقال المشير عبد الحكيم عامر {لقد تجاوز الحد ويجب تأديبه}، وأخبرني أحدهم أن قرار الاعتقال صدر ضدي فتدخل عبدالناصر ليوقف الإجراء}.

عفو ناصري

عرف القصة من وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة، والذي سأله عبدالناصر: هل قرأت «ثرثرة فوق النيل»، فأجابه الوزير: ليس بعد. فقال عبدالناصر: اقرأها وقل لي رأيك؟ ولما عاد إليه عكاشة قال له: يا ريس إذا لم يحصل الأدب على قدر من الحرية فلن يكون هناك أدب. فقال عبدالناصر بهدوء: وهو كذلك، اعتبر الأمر منتهياً.

يروي طرفاً من القصة سامي شرف، مدير مكتب الرئيس عبدالناصر للمعلومات، يقول: «اتصل بي الفنان أحمد مظهر ليبلغني أن محفوظ يشعر بقلق شديد مما يسمعه من هجوم عليه بسبب رواية «ثرثرة فوق النيل»، وأنه لا يجد مبرراً لهذا الغضب الرسمي عليه‏، فهو ليس بأي حال من الأحوال من أعداء الثورة‏،‏ وأن ما جاء في الرواية من نقد لبعض السلبيات هو نقد من داخل الثورة وليس من خارجها‏، وطلب الفنان أحمد مظهر من السيد سامي شرف أن يتفضل بعرض الموضوع على الرئيس عبدالناصر»‏.

عرض سامي شرف الموضوع بتفاصيله كافة على الرئيس،‏ وطلب عبدالناصر نسخة من الرواية وقرأها‏،‏ وكان موقفه أن فيها نقد،‏ وأن النقد الذي تنطوي عليه صحيح‏، وأن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل على الخلاص منها بدلاً من أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تنبهنا إليه الرواية‏، وكأنه غير موجود‏، وقال:

- إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟

قصة «الخوف» أحدثت له مشاكل، وجرَّت عليه المتاعب، مثلما جرى مع قصة «سائق القطار»، يقول: «حاول بعض الشائنين ومن في قلوبهم مرض أن يوقعوا بيني وبين النظام الحاكم، فأشاعوا أن المقصود هو جمال عبدالناصر، وهبّ فريد أبو حديد للدفاع عني وإنقاذي من وشايات التقارير السرية وخصص افتتاحية مجلة «الثقافة الحديثة» عن المغزى الإنساني في القصة ورفض تفسيرها الضيق».

البطل في قصة «الخوف» ضابط استطاع أن يقضي على جميع « الفتوات»، ولكنه لم يستطع أن يحقق الاستقرار والطمأنينة للناس‏، وقد رأى البعض أن نجيب محفوظ يقصد عبدالناصر،  يقول: «أتذكر أنني بعد نشر قصة «الخوف» أوقفني أحدهم في الشارع وسألني عما قصدته في القصة، ربما كان سؤاله بريئاً، لكني كنت أتوجس خيفة».

بصريح العبارة، يؤكد الأديب الكبير على أن نقده الثورة يأتي من موقع الانتماء إليها: «لم أرفض الثورة مطلقاً، ولم أكتب أي عمل ضدها. كنت أوجه النظر إلى أوجه القصور والسلبيات التي تسيء إلى الثورة، ليس معقولاً أن أكون معادياً للثورة ثم أكتب في «الأهرام»، وأمنح كل هذه الفرص التي حصلت عليها».

لقاء في الحلم

العمل الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ على نجيب محفوظ هو رواية «الكرنك» التي كتبها بعد رحيل عبد الناصر، ونشرت طبعتها الأولى سنة 1974، وكانت هي باكورة حملات صاخبة راحت تهدر على صفحات الجرائد والكتب تحاول هدم كل شيء تم في عهد عبد الناصر، واستهدفت سمعته، ووصلت إلى التشكيك في ذمته المالية. وكتب جلال الدين الحمامصي كتاب «حوار وراء الأسوار» اتهم فيه عبد الناصر بسرقة أموال تبرع بها الملك سعود بن عبد العزيز للدولة المصرية، وحينها انتفض العرب في كل مكان وكان للكويت موقف بارز ضد الإسفاف الذي وصلت إليه هذه الحملات، وقرر السادات تشكيل لجنة نظرت في الأمر، وأصدرت بيانها القاطع بكذب هذه الإدعاءات وتلفيقها وفبركتها، فكتب نجيب محفوظ يبدي فرحته الشديدة ببراءة ذمة الزعيم الراحل مما نسب إليه وقال:

«أحزنني اتهامه، وغشيتني منه كآبة لا يعلم مداها إلا الله، حتى جاءت البشرى فغابت الغمة وتلاشى الكرب، ولقد تصديت لنقد الزعيم الراحل، ولكني نقدته وأنقده من موقع الانتماء إلى ثورته، مقراً في الوقت ذاته بتراثه الثوري العظيم الذي حرر الفلاح كما حرر الاقتصاد القومي، الذي نهض بالزراعة والصناعة، والذي فتح باب العدالة الاجتماعية على مصراعيه».

كان آخر ما كتبه محفوظ عن عبد الناصر في «أحلام فترة النقاهة»: «وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة، وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلت مقابلاتنا؟ فأجبته بالإيجاب، فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كلياً أو جزئياً، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف، فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا}.

علاقة محفوظ بثورة يوليو بدأت بحالة انبهار كبير

ناصر لم يعتقلني ولم تصادَر لي رواية في عهده وعدم إيمانه بالديمقراطية نقطة ضعفه

السياسة عنده ليست إلا هوامش ربما لا قيمة لها على المتن الأصلي للرواية

قصة «الخوف» أحدثت له مشكلات كثيرة وأدخلته في دوامة من المتاعب
back to top