حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (6 - 15)

التفرّغ للكتابة

نشر في 11-06-2016
آخر تحديث 11-06-2016 | 00:04
منذ مطلع الستينيات، ارتبط اسم نجيب محفوظ لدى القراء بجريدة «الأهرام» التي ظلت تنشر رواياته مسلسلة على حلقات وبعدها مقالاته وخواطره، إثر تعيينه بها كاتباً بعد إحالته إلى التقاعد من وظيفته الحكومية. ويعود الفضل في هذا الارتباط إلى الكاتب والصحافي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، الذي جمعته بالأديب والروائي العالمي الحاصل على جائزة نوبل، سمات مشتركة.
عملاقان في الفكر والثقافة والأدب والصحافة والإبداع، جمعت بينهما قواسم كثيرة ولم تفرق بينهما خلافات متعددة. صنع كل منهما نفسه، وبنى أسطورته الذاتية. الأول أديب في عالم السياسة، والثاني سياسي في عالم الأدب، وكلاهما صاحب رؤية عميقة ودراية كاملة بموقع مصر وتاريخها ومكانتها. كان هيكل يكتب المقال أقرب إلى السيناريو، ومحفوظ يكتب الرواية أقرب إلى الصحافة، وكانت لكل منهما انحيازاته الفكرية والسياسية، يجمع بينهما انتماء إلى الوطن فوق كل انتماء، وصعد كل منهما على سن قلمه إلى قمم المجد، أحدهما احتل قمة الصحافة، والآخر احتل قمة الأدب.
منذ البدايات الأولى، أعطى هيكل نفسه ووقته وجهده لأجل الصحافة، وكان قرار محفوظ المبكر أن يهب نفسه وأدبه وفلسفته وتجربته لفن الرواية وحدها، فبرزا وتفوقا وأصبح كل منهما الماركة المسجلة للصحافة والرواية العربية، وإحدى أهم ماركاتها العالمية.

كانت روح الأدب تسكن قلم الصحافي الشاب في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، وظلت ملازمة له حتى آخر ما خطه على الأوراق، وهو أمر تظهره بوضوح كتبه ومقالاته على مدار سبعين سنة ظل يعمل خلالها بالصحافة. منذ البداية كان يعرف ماذا يريد بالضبط، وتعرف إليه الكاتب الروائي فتحي غانم في أواسط الأربعينيات الذي كان وقتها قد عُين في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، ومعه عبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد بهاء الدين. كان هيكل آنذاك محرراً شاباً في مجلة {آخر ساعة} يذهب إليهم للحصول على أخبار تحقيقات الإدارة لينشرها، وكان هيكل يردد دائماً ومبكراً جداً، وربما في الأيام الأولى من الثورة، أن {الحاكم يحتاج إلى صحافي يعبر عنه}، وكان يقول بقناعة مطلقة: {وسأكون أنا هذا الصحافي}، وكان فتحي غانم يرد عليه بأن {الأدب أبقى من السياسة وأفضل}، ويضحك هيكل وهو يقول له: {خلاص، لك الصفحة الأخيرة، ولي الصفحة الأولى}، وكانت الصحف وقتها تنشر الأعمال الأدبية في صفحاتها الأخيرة، بينما تقتصر الصفحات الأولى على الأخبار والقصص السياسية.

هكذا ومبكراً جداً، كان هيكل يعي ما يريد، كذلك فعل نجيب محفوظ الذي حسم انحيازه إلى الأدب بعد فترة قصيرة من التردد بين الأدب والفلسفة التي درسها وسجّل لدراسة الماجستير فيها، ولكنه قرر في النهاية أن يسلك {طريق الرواية} الذي لم يكن قد تم تعبيده بعد.

المشروع الإبداعي

منذ عام 1937، كرس نجيب محفوظ نفسه للأدب، وعاش للرواية، التي رأى أنها: {أبرع فنون الأدب التي خلقها الإنسان المبدع في جميع العصور}، فانقطع للكتابة بإخلاص، وانكب على بناء مشروعه الإبداعي، فيما لم تكن الوظيفة الحكومية سوى سبيل للعيش يعينه أكثر على التفرغ للأدب، ومصدر إلهام ينهل منه أفكاراً عبر احتكاكه اليومي بالناس، فاختلط انحيازه إليهم بحبه للرواية.

حتى الزواج الذي هو إحدى سنن الحياة البشرية ظلّ نجيب محفوظ يخشى من أن يؤثر بالسلب في مشروع حياته الأصلي. كان يعتقد بأنه سيكون عائقاً أمام العمل الأدبي، ولم يتعجل الزواج حتى تجاوز الأربعين كي لا يربك حياته في مسؤوليات صعبة، وحين اختار شريكة حياته الزوجية اختارها على مقياس واحد، أن تدرك أن قانون حياته الذي يحكمه ويتحكم فيه هو {الأدب} ولا شيء غيره.

ساعة سويسرية

تجمع بين هيكل ومحفوظ أمور كثيرة وتفرقهما أمور آخرى متعددة...

أول ما يجمع بينهما أسلوب الحياة المنضبط، تلك العبقرية في أسلوب العمل والانضباط على نظام حياة كل شيء فيه يخضع للتنظيم الدقيق، وتلك القدرة الفريدة التي امتلكها كل منهما على تنظيم الوقت، التي تصل إلى حدود الصرامة، انطلاقاً من إدراك عميق بأن الزمن ثروة الإنسان الكبرى، لكل دقيقة أهميتها، ولكل ورقة أرشيفها.

كان كل منهما منظماً ودقيقاً، كساعة سويسرية، يعمل بدأب النحل، من حظ الصحافة والرواية أنهما وجدتا صحافيا وروائيا موهوبين. كرّس كل منهما حياته كلها للفن الذي يحبه ويتقنه. لم يشرك أي منهما مع فنه أي نوع آخر من العمل، حتى أصبح من الصعب أن تذكر الصحافة العربية من دون اسم محمد حسنين هيكل، أو أن تذكر الرواية العربية من دون اسم نجيب محفوظ.

صنع «نظام الحياة اليومي» المنضبط المناخ الملائم لإبداع كل منهما أن ينطلق، وكان سبباً مباشراً ومهما وراء أن يبقى كل منهما على أعلى قمة جبل العطاء والتألق، في الفكر السياسي والتاريخي والأدبي، الانضباط لم يكن فقط أهم خصائص شخصية كل من هيكل ومحفوظ، ولكنه كان هو السر وراء نجاحهما، ووراء الإنتاج الكبير الذي تركه كل منهما وراءه للأجيال المقبلة.

النوم المبكر

ظلّ هيكل طول عمره ينام عند الساعة العاشرة مساء، لم يخرج عن ذلك إلا في بعض الحالات النادرة عندما كان يمتد به السهر إلى الحادية عشرة. في أحد اجتماعات مجلس نقابة الصحافيين برئاسة النقيب السابق إبراهيم نافع، وكان وقتها رئيس مجلس إدارة وتحرير جريدة «الأهرام»، ظلّ نافع يطلب من المجتمعين اختصار الجلسة ليتمكنوا من حضور مجلس العزاء لأحد أقارب هيكل، وظل يذكرهم بأن الأستاذ هيكل لا يسهر، ولا بد من أن يكون في سريره عند العاشرة، حتى قال له أحد الأعضاء: هذا مأتم وظرف استثنائي، وأكيد الأستاذ هيكل سيراعي ذلك. فرد نافع عليه بتلقائية: «لو هو نفسه مات ها يكون في سريره كما تعود دائماً عند العاشرة».

ويحكي محمود السعدني أن محمد حسنين هيكل طلب إليه العمل في مجلة ساخرة كانت «الأهرام» تنوي إصدارها، وحدد له موعداً في الساعة الثامنة صباحاً، غير أن السعدني وصل متأخراً عن موعده بنحو ساعتين، فلم يحادثه هيكل في أي شيء يتعلق بعرض العمل في الأهرام، ودار الحديث في موضوعات عامة. وبذكاء السعدني وخفة ظله أراد أن يخفف وقع عدم الالتزام بالموعد المحدد له، فقال لهيكل: «لأنك بتصحى بدري، وأنا أصحى زي ما أنت شايف، فأنا محمود السعدني اللي على باب الله، وأنت هيكل اللي مع الرئيس».

أما محفوظ، فكان يمكنك أن تضبط ساعتك عليه، يقول الأديب الساخر محمد عفيفي: «يستطيع جيران محفوظ أن يضبطوا ساعاتهم على مواعيد نشاطاته المختلفة، مرة في الصباح لحظة خروجه من البيت لعمله الوظيفي، ومرة في المساء لحظة إطفاء النور في حجرة مكتبه. وهو لم يكن أحد أولئك الذين يجلسون للكتابة في أية لحظة، وإنما للكتابة، مثل صلاة الجمعة، لحظة معينة محددة، لا يجوز إلا بها، كذلك يستطيع الجيران، وهذا غريب بعض الشيء، أن يضبطوا ساعاتهم على اللحظة التي ينطفئ فيها النور في حجرة مكتبه، معلناً عن انتهائه من الكتابة. فنجيب يجب أن يكف عن الكتابة في اللحظة المحددة لذلك، مهما كانت لديه من أفكار جاهزة تلح عليه أن يدونها، وفي لحظة الكف هذه، يكف مهما كان من أمر تلك اللحظة، التي ربما حلت وقد انتهى من السياق، إلى حرف جر فيلقي القلم وينهض من دون أن يكتب المجرور».

كلام عفيفي عن محفوظ ليس من قبيل المبالغة، ولكنها حقيقة أكدها كثيرون ممن اقتربوا منه. فتنظيم الوقت والتخطيط لأكبر استفادة منه كانت موهبة كل من هيكل ومحفوظ، عوًّد كل منهما نفسه على السلوك شديد الانضباط. ويذكر «حرافيش» نجيب محفوظ وأصدقاؤه كيف أنه كان يبدأ جلسته معهم في موعد ثابت لا يتأخر ولا يتقدم، كذلك ينهيها في موعد محدد، ينظر إلى ساعته ويقول واقفاً: «يلا بينا»، فتنتهي الجلسة.

الطابق السادس

جمعت «الأهرام» بينهما أيضاً، منذ نشر هيكل له رواية «أولاد حارتنا» في نهايات سنة 1959، ثم بالتحاق محفوظ بالعمل في المؤسسة التي كان يرأسها هيكل في عام 1971 بعد خروج محفوظ إلى المعاش من وظيفته الحكومية، وظلت بينهما علاقة من طبيعة خاصة جداً، يسودها التقدير المتبادل، ولا تتحكم فيها اختلافات الانحيازات السياسية ولا الخلافات الفكرية. كان هيكل قومياً منتمياً إلى مشروع عبدالناصر، فيما ظلّ محفوظ وفدياً ليبرالياً، أقرب إلى الفرعونية. وسط هذه الخلافات ثمة نقطة تشابه بينهما، توشك أن تصل حدود التطابق، فمحفوظ الذي أحب سعد زغلول و»الوفد» واعتبره مدرسة للوطنية المصرية، لم ينتم إلى هذا الحزب أبداً، بل كان وفدي الهوى فقط. وهيكل رغم دوره الكبير في مصر بعد ثورة يوليو، لم تكن له أية علاقة بتنظيمات يوليو السياسية من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي. حتى تنظيم عبد الناصر الأخير «التنظيم الطليعي» أو «طليعة الاشتراكيين» لم تكن له به أية علاقة، بل ربما كان أكثر من انتقدوا كل هذه التنظيمات السياسية.

انضمام محفوظ إلى «الأهرام» له رواية رائجة تقول إنه لم يقبل الانضمام إلى من سبقوه إليها أمثال توفيق الحكيم وحسين فوزي وبنت الشاطئ ولويس عوض وغيرهم، الذين خصص لهم هيكل الطابق السادس من المبنى ليكون مقرا لأهم كتاب وأدباء العصر. يقول هيكل: «كان الحكيم أول أديب كبير أستعين به في «الأهرام»، وذهبت بعد ذلك إلى طه حسين في بيته «رامتان» بشارع الهرم، وعرضت عليه الانضمام إلينا، ولكن خلافاته مع الحكيم جعلته يعتذر قائلاً: «أنت يا سيدي لا تعرف غير صديقنا توفيق الحكيم، وأدعو الله ألا تُخدع فيه كما خُدعنا فيه». وكان طه حسين يملك «اعتزاز المفكر» فاعتذر وقبلت اعتذاره». أما محفوظ فقد آثر وظيفته الحكومية عندما عرض هيكل عليه الأمر، خلال الاحتفال بمناسبة بلوغه الخمسين من عمره، وكان وقتها كاتباً متعاوناً مع «الأهرام»، قال له: «سيبني لما أطلع على المعاش، أنا ها أخد معاش كامل لأن مدة خدمتي كبيرة ، ومعاش الحكومة مضمون».

الكتابة في الأهرام

بدا نجيب محفوظ نفسه متشككاً بهذه الرواية، حين التقى العملاقان بمبادرة من مريديهما بعد فترة طويلة من خروج هيكل من «الأهرام»، سأله أحد الحضور مشاغباً: أستاذ نجيب، كنت تقدر تدخل مكتب هيكل في الأهرام بسهولة؟ ضحك هيكل قائلاً‏:‏ حرام عليكم، بلاش كده، وتدخل محفوظ:‏ على فكرة، لما كان فيه مسألة أدبية لم يكن هيكل يستدعي توفيق الحكيم أو يستدعيني وإنما كان يأتي بنفسه لنا ويقعد معنا، هذه حقيقة، هو كان مدلع «الدور السادس»‏.‏

في هذه الجلسة سُئل هيكل‏:‏ متى عرضت على الأستاذ نجيب الكتابة في الأهرام؟ أجاب‏:‏ عرضت عليه من بدري، ووسطت الأستاذ توفيق الحكيم، مش كده يا نجيب واللا إيه؟ فقال نجيب‏:‏ هو أنا كنت محتاج واسطة، دا أنا ما صدقت. فاستطرد هيكل‏:‏ توفيق الحكيم رجع لي ليقول إن نجيب محفوظ لن يتفرغ للأهرام إلا بعد أن يسوي معاشه في الحكومة. تدخل محفوظ في الحوار مستغرباً‏:‏ توفيق قال كده؟ فقال هيكل‏:‏ أيوه، ده اللي حصل، فقلت له حاضر يا سيدي وجلسنا ننتظر معاشك.

ولا شك في أن استغراب نجيب له أكثر من معنى، أقلها أنه لم يعد يذكر تفاصيل الرواية الأولى التي راجت.

الأم

جمعت أجواء القاهرة الفاطمية وحي الجمالية والحسين بين طفولة كل منهما، تربيا في شوارعها، فجمعت بينهما سمات المكان المسكون بعبق التاريخ، والزمان الذي تتصارع فيه قيم الأصالة مع محاولات التحديث. كلاهما ابن لأسرة متوسطة الحال، كان والد نجيب موظفاً، وكان والد محمد تاجر حبوب. نشأ نجيب الذي يكبر محمد بأكثر من عشر سنوات في الجمالية، يقول: «أمضيت في الجمالية أجمل أيام حياتي. لم يكن حبي لها مثلما هو الآن لأنها كانت شيئاً طبيعياً بالنسبة إلي. كان من الطبيعي أن أفتح عيني في الصباح فأجد أمامي بيت القاضي ودرب أرمز ثم أصعد إلى سطح المنزل فأرى مئذنة جامع الحسين وأنزل إلى الشارع فأجد نفسي محاطاً من كل جانب بهذا المعمار القديم الذي يميز الحي وحين كبرت قليلاً وبدأ لديَّ الإحساس بالتاريخ كنت أشاهد أهالي الجمالية يمشون في الطريق ويتحدثون إلى بعضهم البعض ويمارسون حياتهم اليومية فكانوا يبدون وكأنهم هم أنفسهم الفاطميون أو الأيوبيون أو المماليك أو من يأتي بعدهم».

ولأسرة متوسطة الحال ولد محمد حسنين هيكل في 23 سبتمبر عام 1923، ونشأ في شارع الجيش بحي باب الشعرية الشعبي حيث تشكلت ملامح الفتى الصغير الذي درس في مدرسة التجارة المتوسطة بعدما اضطرته الظروف إلى التنازل عن حلمه الأول بأن يُصبح طبيباً، وكاد مسار حياة الكاتب الصحافي يتغير بعدما طلب منه والده ألا يُكمل دراسته بعد وفاة أولاده من زوجته الأولى لذا أراد الاستعانة بأكبر أبنائه من زوجته الثانية في عمله بتجارة الحبوب إلا أن عم هيكل أصر على استكمال تعليمه.

كان للأم دور كبير في حياة العملاقين، فقد كان نجيب آخر العنقود بعد تسع سنوات لم تنجب فيها أمه، ونشأ في ظل محبتها الفياضة، ولم يكن معه في البيت غير أبيه بعد زواج أخوته، وكانت أمه تجول به على المتاحف والآثار والكنائس والأديرة والمساجد والأضرحة وتأخذه معها في زيارات متكررة إلى الأهل في أحياء العاصمة، فرأى كثيراً من مناطق القاهرة، وتعلم منها حب الموسيقى، وعلمته أهم قيمة في حياته قيمة التسامح تلك التي ظلت لصيقة بشخصيته حتى اللحظة الأخيرة.

كانت أم هيكل هي الموجه الأساسي لمسار حياته، وساعدها في ذلك شقيقها سلام، وقد أصرت على تعليمه تعليماً نظامياً في مدرسة رسمية، ولم تكتف بحفظه للقرآن ومحو أميته الأبجدية، وغرست فيه بذور الطموح والالتزام والنظام، وعندما تخرج في مدرسة التجارة المتوسطة، بدأ حياته العملية والتحق بعمل بسيط، تعرف من خلاله إلى زميل قوي البنية، كان يهوى الصحافة، وهكذا انضمت المصادفة إلى الاجتهاد والطموح لتفتح طريق الشهرة والمجد للاسم الثلاثي الذي سيصير بعد سنوات أسطورة الصحافة العربية: محمد حسنين هيكل.

الاستقرار العائلي أحد الأمور التي جمعت بينهما، وأدى دوراً مهماً في حياة كل منهما، ما كان يوفر فرصة التفرغ التام للإبداع. كان البيت بالنسبة إليهما هو السكينة، لم يدخله أحد من الغرباء، هذا ما فعله هيكل. أما بيت محفوظ فظلّ سراً من الأسرار، حتى يوم الخميس 13 أكتوبر سنة ‏‏1988 يوم حصوله على {نوبل}.

احتفال استثنائي

لم تكن فكرة الاحتفال بعيد الميلاد ضمن عادات نجيب محفوظ، وربما لم تكن ضمن ثقافة بيئته الشعبية، كما ملايين العائلات المصرية المتوسطة، خصوصاً في تلك الفترة من القرن الماضي، ولم يسبق أن احتفلت عائلة محفوظ بعيد ميلاده، ولم يعرف ظاهرة الاحتفال بمولده إلا بعدما حصل على جائزة «نوبل»، حيث كانت فئات كثيرة تتجمع للاحتفال معه بيوم مولده، قبلها كان الاحتفال مقصوراً على أصدقائه ومريديه الذين كانوا يتجمعون في المقهى في يوم ميلاده أو في أقرب يوم له، ثم يقفون جميعاً ويغنون بشكل جماعي نشيد «بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، كأنهم في مناسبة وطنية.

أما هيكل فاحتفل بعيد ميلاد محفوظ مرتين:

كانت الأولى في «الأهرام» في عام 1961، حين بلغ نجيب محفوظ الخمسين من عمره. أقام له هيكل حفلاً بعيد ميلاده في الأهرام. ذهب صلاح جاهين إلى هيكل ليستأذن في تخصيص قاعة الأهرام الكبرى للاحتفال بعيد ميلاد نجيب، في ذلك الوقت لم يكن نجيب كاتباً في الأهرام، ولم يكن قد نشر شيئاً من أعماله فيها، إلا رواية «أولاد حارتنا» التي أثار نشرها آنذاك جدالاً واسعاً وصارت أزمة كبيرة.

التقط هيكل الفكرة من صلاح جاهين وقال له: {نحن الذين سنقيم هذا الاحتفال لنجيب محفوظ}، وكانت المرة الأولى، في الواقع الثقافي المصري، التي يقام فيها احتفال على مستوى رفيع حضرته {أم كلثوم}، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة التي يتقابل فيها الأديب الكبير مع كوكب الشرق، وأعجب بشخصيتها جداً، حتى أنه أطلق اسمها على ابنته الكبرى، وضم الاحتفال الكبير كل شخص له قيمة في الواقع الثقافي والفني والصحافي، دعاهم جميعاً هيكل للاحتفال بنجيب محفوظ.

المرة الثانية كانت في سنة 2004 وفي عيد ميلاده الثالث والتسعين فاجأ هيكل الأديب الكبير بزيارته في منزله ليقول له:

• {كل سنة وأنت طيب يا نجيب}.

لم يكن محفوظ يعرف مسبقاً بالزيارة، ولا كان يتوقعها، فلم يحدث ولا مرة أن زاره هيكل في بيته، ولا هو كان معتاداً على استقبال أحد في بيته في مثل هذه المناسبات، جاءته المفاجأة تسعى حتى باب بيته، وجد محمد حسنين هيكل أمامه بكامل أناقته وألق حضوره، بينما كان محفوظ يرتدي ملابس منزلية فوقها {الروب} فبادره بالقول ممتناً وشاكراً:

- أنت أكرمتني مرتين، هذه المرة جمال المفاجأة جعل الفرح بها مضاعفاً {لا تتصور مدى سعادتي وفرحتي بهذه الزيارة الكريمة، والمفاجأة نفسها جعلت الفرحة فرحتين، بل آلاف الفرحات}.

***

ظل وجود «مسجد الحسين» القوي في وجدانهما حتى اللحظة الأخيرة، وكانت وصيتهما أن يشيعا من «الحسين»، فكانت لمحفوظ جنازتان، واحدة رسمية حضرها الرئيس حسني مبارك وخرجت من مسجد «آل رشدان» بضاحية مدينة نصر، والثانية شعبية انطلقت من حي الحسين بعدما انتهت الجنازة الأولى، كذلك فعل هيكل فأوصى أن يشيع من «الحسين» ومن دون وجود رسمي.

العملاقان محفوظ وهيكل جمعهما حي «الحسين» الشعبي في الصبا وشُيّعا من مسجده حينما رحلا

محفوظ كرّس نفسه للأدب وعاش للرواية لأنها أبرع الفنون التي خلقها الإنسان

لم يعرف نجيب الاحتفال بمولده إلا بعد ما حصل على جائزة «نوبل»
back to top