حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (4 - 15)

{لو لم أكن روائياً لوددت أن أكون موسيقياً}

نشر في 09-06-2016
آخر تحديث 09-06-2016 | 00:05
أبت المقادير أن تمضي على رغبة أبيه، الذي سماه على اسم أشهر أطباء زمان ولادته الدكتور العبقري نجيب ميخائيل محفوظ. عاش الأخير 92 سنة حقق خلالها تفوقاً ملحوظاً وحصل على تكريم محلي ودولي يليق بعالم جليل، واعتبر رائداً لعلم أمراض النساء والولادة في العالم. وكانت يد القدر ترسم ملامح أخرى لمستقبل الطفل الذي ولد على يديه وتسمَّى على اسمه، كأنها كانت تخبئه ليكون هو رائد الرواية العربية ويرتفع بها إلى مصاف الاعتراف الدولي بجدارتها وسط آداب العالم وفنونه.

وكانت المقادير رحيمة بالصبي الذي كان يجتذب الآهات من أفواه المتفرجين على مهاراته في لعب {كرة القدم} ومراوغاته، والتلاعب بالخصوم، وإحرازه أهدافاً مباغتة، فأبى القدر أن يمضي وراء شغفه الصبياني على البساط الأخضر كي يدخره لموقعه في الصدارة على بساط الأدب.

وربما أحس الشاب ابن الثلاثة والعشرين عاماً بغصة في حلقه وهو يستقبل خبر رفض إرساله في بعثة علمية إلى فرنسا لدراسة الفلسفة لأنه مسيحي، فقد كان في البعثة مسيحي آخر ورأت اللجنة ألا توافق على إرسال اثنين على دين واحد. ولكن حظه في الحياة كان قد تحدد في مجال الأدب، لا في دراسة الفلسفة، ومجدداً ادخرته يد المقادير ليكون هو فيلسوف الرواية، والراوي الفيلسوف.

ولو أن القدر أتاح الفرصة للفنان الموسيقي داخله فربما انطلق نجيب محفوظ في عالم الموسيقى حتى صار أحد النجوم الكبار، الذين تمتلئ بهم سماء الفن في الشرق.

بدأ شغفه بالغناء والموسيقى الشرقية مبكراً جداً في حياته. شبّ في بيت كانت الموسيقى فيه حاضرة، يقول نجيب محفوظ: «في بيتنا وجدت عدداً كبيراً من الأسطوانات لكبار مطربي ذلك الزمان، وفي بيتنا أيضاً أقيمت حفلات غنائية في المناسبات السعيدة، وكانت تجمع بين لونين من الغناء: «العوالم» في مكان خاص بالسيدات، والمطربون في مكان خاص بالرجال. ولأنني كنت طفلاً تنقلت بين المكانين واستمعت إلى اللونين في تلك الحفلات».

استحوذت الموسيقى الشرقية على اهتمام نجيب محفوظ مبكراً، يقول: «من مطلع حياتي وأنا أحب الموسيقى والغناء. في سن الطفولة، كنت أسمع أنواعها المختلفة رغم أنه لم تكن ثمة إذاعة ولا تلفزيون، في البداية عن طريق الأفراح، وفي فترة تالية عن طريق الأسطوانات، ثم في الشارع. وكانت في الشارع المصري دائماً أصوات تردد الغناء، ومن بعد في المقاهي، فنشأت ورأسي مليء بقاموس من الأغاني المصرية من الأدوار والقصائد لغاية طقاطيق العوالم كلها». وكان يحضر كثيراً من حفلات الموسيقى في فترة مبكرة من حياته حتى أدمن سماع الموشحات الشرقية والأدوار وأغاني سيد درويش وصالح عبد الحي وبقية أساطين الغناء الشرقي، يقول: «وكنت أشعر بمتعة بالغة عندما يصطحبني والدي إلى مسارح روض الفرج، وكانت مصيف أهل القاهرة في أشهر الصيف آنذاك. كانت الفرق المسرحية في «روض الفرج» تقلد فرق شارع عماد الدين الشهيرة، فتجد من يقلد علي الكسار أو نجيب الريحاني، أو يعرض «أوبريت» لسيد درويش. ومن خلال مسارح روض الفرج شاهدت عروضاً مسرحية شهيرة لم تتح لي الفرصة لمشاهدتها عند أصحابها الأصليين في مسارح عماد الدين».

وهو لا يخفي ولعه بالموسيقى وقد استمر معه، وقال مرةً «إن شغفه بالموسيقى يكاد يفوق شغفه بالأدب»، يضيف: «وصل حبي للغناء درجة العشق، وحفظت ذاكرتي كثيراً من الأغاني كنت أرددها مع نفسي أو بين الأصدقاء وفي الرحلات». يقول الدكتور أدهم رجب، أحد أصدقاء الصبا لمحفوظ: «علمني نجيب إدمان صوت صالح عبد الحي. كان مغرماً به إلى حد الهوس، في أوائل الثلاثينيات، وكانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة، كانت لنجيب محفوظ جلسته المفضلة في كازينو «السكاكيني»، وفيه جهاز راديو من طراز معتبر، وفي ذلك «الكازينو» كنا نلتقي في ليالي وصلات صالح عبد الحي، ويطلب نجيب الشيشة، ويظل يدخن ويستمع في سكون واندماج حتى تنتهي «الوصلات» الثلاث».

من أصدقاء طفولته أيضاً الفنان الراحل عبد الحليم نويرة، مؤسس فرقة «الموسيقى العربية» والمؤلف والملحّن الموسيقي المعروف، وكان جاراً له في السكن، وكان زكي مراد وابنته ليلى وأشقاؤها من سكان الحي أيضاً يقول: «كنا نستمع إلى عزف الأب وغناء البنت كثيراً في الليالي الجميلة».

عازف وسمِّيع

لم يقتصر شغف نجيب محفوظ بالموسيقى والغناء على مجرد أن يكون «سميعاً» محترفاً، بل حاول أن يكون موسيقياً محترفاً، يقول: «بلغ من حبي للموسيقى والغناء أنني التحقت بمعهد الموسيقى العربية ودرست فيه لمدة عام كامل، ويبدو لي الآن أنني لو كنت وجدت توجيهاً سليماً من أحد لتغير مسار حياتي، واخترت طريق الموسيقى وليس الأدب. لم أفكر يوماً في أن أصبح فنانا تشكيلياً رغم حبي للفن التشكيلي، ولكن كان ممكناً أن أحترف «الموسيقى» من شدة افتتاني بها. ولكن، على أي حال، فقد كانن للقدر تصاريف أخرى».

التحق الطالب نجيب محفوظ بمعهد الموسيقى ودرس النوتة الموسيقية وتعلم العزف على «القانون»، ولم يكمل دراسته للموسيقى لأنه لم يستطع أن يجمع بينها وبين دراسة الفلسفة بسبب ضيق الوقت. ويحكي لنا أنه التحق بمعهد الموسيقى العربية سنة 1933، و»كنت آنذاك طالباً بالسنة الثالثة في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وكانت النظم الجامعية المعمول بها تسمح لمن هم في السنة الثالثة بأداء امتحان الليسانس مباشرة، وبذلك لا أكون ملزماً بأداء امتحانات السنة الثالثة، فانتهزت الفرصة وقررت دراسة الموسيقى، والتحقت بالمعهد لمدة عام، حصلت في نهايته على أعلى الدرجات. ولكنني لم أواصل الدراسة في العام التالي، فقد كان عليّ أن أستعد لامتحان الليسانس في كلية الآداب، وإلى وقتنا هذا ما زلت أحفظ أدواراً من تلك التي درستها في معهد الموسيقى العربية، وما زلت أحفظ من مقام «السماعي الدراج» أجزاء «بالصولفيج»، لأني كنت أعزف آلة القانون، وعزفت خمسة «بشارف»، ولكنني نسيتها الآن.

كان نجيب محفوظ «كلثومياً» حتى العظم، رافقه حبه لكوكب الشرق منذ طفولته حتى رحيله. واظب على حضور حفلاتها في مسرح «الماجستيك» بشارع عماد الدين في العشرينيات من القرن الماضي، قبل أن تنتقل بحفلاتها إلى حديقة الأزبكية. ورغم شهرته الواسعة وتألقه الكبير، قابل سيدة الغناء العربي مرة واحدة، ولكنها عنده بألف مرة، لأنها لبت دعوة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لحضور حفلة «الأهرام» بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين، وكانت المفاجأة الكبرى بالنسبة إلى نجيب في ذلك الاحتفال الذي ظل محفوراً في ذاكرته على الدوام، وتظهر صورة التقطت آنذاك يظهر فيها هيكل وأم كلثوم ومحفوظ، وتبدو أم كلثوم وهي تتبادل الحديث مع هيكل، في حين وقف محفوظ بينهما ولا شيء يبدو على وجهه غير قسمات معجب وجد نفسه إلى جوار نجمته المفضلة التي تعلق بها منذ الصغر، وبدأ يستمع إلى صوتها سواء عبر الأسطوانات في بيت أسرته أو في حفلاتها الدورية التي واظب على حضورها.

ليست صوتها فحسب ما شدّ نجيب محفوظ، ولا شك في أن قصة صعودها استحوذت على اهتمام كاتب وروائي كبير بكل ما فيها من تحديات وصعاب ودراما، وقد تغلبت عليها جميعاً تلك الفتاة التي تكبره فقط بعشر سنوات، وهي القادمة من قريتها «طماي الزهايرة» إلى القاهرة في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، فإذا بأسطواناتها تغزو السوق الفني بعد وصولها بقليل.

انحياز إلى الكلمة قبل اللحن

عن طريق الشيخ زكريا أحمد، تعرف نجيب محفوظ إلى الساخر الكبير الشاعر بيرم التونسي، وكان اللقاء الأول بينهما في سهرة في بيت صديقه وابن العباسية صلاح زيان، ولكنه فوجئ بغير ما توقع يقول: {كنت أظن أن الجلسة ستنقلب إلى مزيد من الفكاهة والضحك في وجود بيرم، ولكنني فوجئت بشخص مختلف تماماً عن تلك الصورة التي رسمتها له في ذهني، فقد جلس في ركن بعيد عنا ولم يفتح فمه طوال الجلسة، وفي المرات القليلة التي تحدث فيها كانت كلماته المقتضبة مليئة بالأسى والمرارة، ويبدو أن مرد ذلك إلى المآسي التي مر بها في حياته ومعاناته وعذاباته}. 

لم تتوطد علاقة الروائي بالشاعر إلا بعد أن عملا معاً في كتابة سيناريوهات بعض الأعمال السينمائية مثل فيلم {ريا وسكينة} حيث شارك بيرم في كتابة الحوار والأغاني، يقول محفوظ: {رغم ندرة اللقاءات بيننا والفترة القصيرة التي جمعتنا معاً في العمل، فإن بيرم كان متابعاً لأعمالي الروائية. صحيح لم تجمعنا صداقة قوية ولكني كنت أحترمه جدا}.

عرف نجيب محفوظ المطرب عبد الغني السيد، وأحبه، ولفت نظره أنه كان محدثاً لبقاً ومتألقا، خصوصاً حين يتكلم عن أستاذه محمد عبد الوهاب، الذي كان واحداً من مطربيه المفضلين، وإن كان يرى أن الملحّن عند عبد الوهاب يسبق المطرب، فقد كان ملحناً أولاً، قبل أي شيء، وكان يؤمن بأن اللحن هو الأهم والأبقى، وهو كملحن كان يجد الفكرة الموسيقية أولاً ثم يبحث لها عن كلمات، على عكس أم كلثوم التي كانت مطربته الأولى، وكانت تتذوق الكلمة وتعرف قدرها. وكأديب يعرف قيمة الكلمة يشير إلى أن سلاح أم كلثوم الأول في معركة إثبات وجودها هو احترامها لنفسها وفنها، ثم اختيارها كلمات جميلة جيدة، ويقول: «الكلمة كانت أهم عنصر في الأغنية، وقد غنت على ألحان ضعيفة، ولكنها لم تغن كلمات هابطة أبداً».

وهذه النقطة بالذات جعلته يضع منيرة المهدية في المرتبة التالية لأم كلثوم، يقول: «رغم أن منيرة كانت تملك صوتاً جميلاً وقوياً وفيه بحة بديعة، وتسلب عقول الرجال، كما أن صوتها من طبقة صوت أم كلثوم نفسها، يمكن القول إن الأخيرة رقم واحد ومنيرة نمرة 2، وهي كانت تتمتع بهيلمان وصولجان، وعوامتها في النيل كان يلتقي فيها المسؤولون، الوزراء ورئيس الوزراء والكتاب والصحافيون، ثم لعبت دوراً مهماً في تطوير الفن المصري في صدر القرن العشرين، فقدمت المسرح والأوبرا، والمسرح الغنائي، كانت مهمة. ولكن المشكلة تأتي من الأغاني الهابطة التي قدمتها وكانت جزءاً من تيار عام، شارك فيه الجميع، ولا يجب أن ننسى أن أغنية هابطة مثل «إرخي الستارة اللي ف ريحنا» حدثت عليها معركة بين جميع مطربي زمانها.

عاشق أم كلثوم

نشأ نجيب محفوظ على صوت فتاة الزهايرة ورافق أمجادها كافة، ودار في مداراتها طوال حياته، وهي عنده صوت عبقري، وهبة إلهية، ويعترف بالجميل لذلك الصوت الذي أدخل على قلبه كل هذا الانشراح والسرور، يقول: {كان لصوتها الأثر الكبير في إقبالي على عملي الأدبي والنجاح فيه}. وعلاقته بصوت أم كلثوم قديمة، بين عامي 1926 و1927 يقول: {شدتني منذ أول سماعي لها، قبلها كنت من عشاق صوت {منيرة المهدية} وسمعت من بعض الأصدقاء إعجاباً بصوت أم كلثوم، وقال لي أحدهم: صوتها أجمل من صوت منيرة. لم أصدقه حتى استمعت إلى واحدة من أسطواناتها فاقتنعت بها تماماً وأصبحت من عشاقها، وبدأت أسمعها بانتظام أواخر المرحلة الثانوية وبداية الجامعة وصرت أواظب على حضور حفلاتها}.

كانت الصفوف الثلاثة الأولى مخصصة للمعجبين القريبين من أم كلثوم، وكان محفوظ يجلس في الصف الرابع أو الخامس، وهو مكان يستطيع أن يتابع منه الغناء استماعاً ومشاهدة، وهو يؤكد أنه لم يتخلف عن حفلة لها، يقول: {وربما كانت حفلات أم كلثوم هي السبب الجوهري في أنني، حتى في أيام الكتابة والقراءة، تعاملت مع يوم الخميس على أنه عطلة من كل شيء}.

ظلّ طوال حياته متيَّماً بكوكب الشرق أم كلثوم، يحب الاستماع إليها، وعندما كان المخرج السينمائي الشهير توفيق صالح يتجول به في سيارته الصغيرة على ضواحي القاهرة، حتى وقت قريب من رحيله، كان يضع شرائط أم كلثوم في مسجل السيارة، ورغم عدم قدرة نجيب محفوظ على الاستماع الدقيق، فإنه كان يتمايل مع غنائها.

وصل إعجاب نجيب محفوظ بأم كلثوم إلى حدود تسمية ابنته الكبرى بأم كلثوم، وابنته الصغرى فاطمة (اسم أم كلثوم في أحد أفلامها)، وهو اسم والدة أم كلثوم، ووالدة نجيب محفوظ أيضاً. وفي رواية {السراب}، نستمع إلى من يصيح على ملأ من الناس وكأنه صوت نجيب محفوظ نفسه هو يقول: {أم كلثوم هي الشيء الوحيد الذي يستحق الإعجاب في هذا البلد}.

لم يحالفه الحظ في أن يلتقي بفنان الشعب سيد درويش الذي تعرف إلى موسيقاه وأغانيه في {مسارح روض الفرج} التي كانت تعيد رواياته التي كان يذهب لمشاهدتها مع أبيه، يقول: {ولكني لم أره لأنه مات سنة 1923، وكنت آنذاك في الثانية عشرة من عمري}. لكنه اقترب من أحد كبار الملحنين، الشيخ زكريا أحمد الذي كان يحب سيد درويش إلى درجة الجنون، حسب وصف محفوظ نفسه، وكان يتكلم عنه بانفعال شديد، ومن خلاله تعرف نجيب محفوظ بشكل أفضل إلى موسيقى سيد درويش. وكان الشيخ زكريا لا يمل الحديث عن أيام الصعلكة المشتركة بينهما، لا سيما أنه كثيراً ما كان يصطحب الشيخ سيد درويش في جولة منتصف الليل في حواري القاهرة الشعبية المظلمة، ثم يختاران نوافذ منخفضة ومساوية لسطح الأرض، ويجلسان القرفصاء بجوار هذه النوافذ، ويتصادف أن يكون صاحب البيت في حالة خاصة جدا مع زوجته، فيسمعان الأصوات الصادرة عن ذلك الوضع في سعادة، وربما تلهمهما تلك الأصوات الليلية نغمة موسيقية جديدة.

وينقل محفوظ عن الشيخ زكريا أن موت سيد درويش المفاجئ كان صدمة كبيرة عليه، وطبقاً لروايته التي قصها علينا، فإن سيد درويش كان يجهز لحناً جديداً لاستقبال الزعيم سعد زغلول، وحجز لنفسه غرفة في أحد الفنادق القديمة بالإسكندرية حتى ينتهي من اللحن سريعاً، وحدث أن تناول جرعة زائدة من المخدر، ولأنه بمفرده في حجرته أخذ ينزف حتى مات.

الرواية صحيحة من وجهة نظر محفوظ وتذكره بما جرى مع موسيقي آخر كان يحبه ارتكب غلطة من هذا النوع أودت بحياته، وهو الشيخ محمود صبح، الذي لم يمنعه فقدان بصره عن أن يهوى {الملاكمة} و}رفع الأثقال} و}ركوب الدراجات}، وكان يتمتع بصحة جيدة، وكان صاحب موهبة عظيمة وله شخصية جبارة. ولكن المخدرات أضاعته كما أضاعت سيد درويش، وقد تعاطى كمية زائدة منها سببت له هبوطاً حاداً في الدورة الدموية فمات. يقول محفوظ:} قال لي ذات مرة صديقي الدكتور أدهم رجب، إن ثمة خطاً أحمر في تعاطي المخدرات، وأي تجاوز له يكلف صاحبه حياته كلها}.

السؤال الذي كان يؤرق نجيب محفوظ مع كل ليلة يمضيها في حضرة الشيخ زكريا أحمد: متى يجد الأخير وقتاً لينجز ألحانه، وهو يداوم على تلك السهرات اليومية؟ يقول:} كنت أسأل نفسي هذا السؤال، واكتشفت أن لديه القدرة على أن يلحن في أي وقت، وأذكر أنه لحن أغنية {حبيبي يسعد أوقاته} لأم كلثوم وهو يجلس معنا. وفي مرات عدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية واحدة ويعرضها علينا لنختار الأفضل}.

فرقة المصريين

الرجل الذي أدمن صوت أم كلثوم وعبد الوهاب وصالح عبد الحي وغيرهم من أساطين الغناء الشرقي كان أيضاً مستمعاً لصوت عبد الحليم حافظ. لم يتعصب للون واحد من ألوان الغناء، حتى قيل إنه كان معجباً بـ «فرقة المصريين» ودعم وجودها. وكمستمع دائم للغناء وللأصوات الجميلة أحب عبد الحليم، واستمع إليه كثيراً، وهو في رأيه «صوت آسر ومؤثر في القلوب، صوت ينبعث دافئاً حالماً، رقيقاً حيناً، قوياً هادراً ثائراً حيناً آخر، ولهذا تعلقت به القلوب أو علق هو بها، لا فارق، وساعدته على غزو القلوب الفتية والشابة مجموعة من الأغاني ذات الألحان الحلوة المتطورة التي اعتبرت نقلة كبيرة من عصر موسيقي إلى عصر آخر جديد».

غناء عبد الحليم في رأي محفوظ تلاءم مع العصر الثوري الجديد الذي شهد فترة كبيرة من الحوادث والتحولات، والمطرب في رأي محفوظ «بطل مأساوي» لرواية ذات فروع كثيرة، يقول: «كان مرضه أقرب إلى السجن. كانت حياته بروفة متجددة للموت. كان يحس بنفسه فقط عندما ينشط من هم من حوله بأغنية جديدة وكبيرة ويحس في هذه اللحظات أن تفكيره يضيء ويلمع ويتوهج، فيجمع إحساسه ويتحفز وينسى آلامه وأمراضه بمجرد ظهوره على المسرح ليغني».

بل إن نجيب محفوظ أعلن إعجابه بصوت المطرب الشعبي أحمد عدوية، فقد كان يرى أنه يملك صوتاً جميلاً وقوياً و»صحيح أن أغانيه لا تحتوي على معان جادة، ولكنها تتناسب مع المناخ العام الذي ظهر فيه».

التحق بمعهد الموسيقى ودرس «النوتة» وعزف على آلة «القانون»
back to top