حكاوي الراوي... نجيب محفوظ (1 - 15)

سنوات التكوين من {الحسين} إلى {العباسية}

نشر في 06-06-2016
آخر تحديث 06-06-2016 | 00:05
كيف جرى إعداد هذا القادم من قلب القاهرة القديمة ليجلجل بموهبة عبقري سيكرّس بعد قليل فرعاً جديداً في الأدب العربي لم يكن قبله غير محاولات خجولة للتأسيس، ثم يأتي هو ليفتح طريقاً جديداً باسم الرواية في مدائن الأدب العربي.
هو {ابن الموظف البسيط} الذي لم يعرف عنه أنه قرأ غير {القرآن الكريم} واطلع على كتاب حديث ابن هشام لمحمد المويلحي الذي كان على صداقة معه، وأهداه نسخة من كتابه الشهير الذي يعد إحدى محاولات تأسيس فن الرواية العربية الحديثة، ليجد طريقه إلى عقل وقلب الصبي الصغير وهو يتفتح وعيه على عالم القراءة السحري.
وهو ابن ربة منزل، أمية، ولكنها في نظره {أكثر ثقافة من سيدات في العائلة تعلَّمن في مدارس أجنبية، ويجدن اللغات الغربية، ويتقن العزف على الآلات الموسيقية}، يقول: {لم أجد فيهن عشقاً وعراقة وأصالة وجدتها في أمي}.
كانت أمه فاطمة بنت الشيخ الأزهري إبراهيم مصطفى مغرمة بالغناء والموسيقى، وكان الشيخ سيد درويش مطربها المفضل، وكانت هذه الأمية تعشق الآثار، إسلامية كانت أو قبطية أو فرعونية. كانت تأخذ نجيب الطفل في رحلات دورية إلى كثير من هذه الآثار، وكانت دائمة التردد على المتحف المصري، ويتعجب نجيب الكبير وهو يحكي عنها أنها كانت تحب قضاء غالبية الوقت في حجرة {المومياوات}، رغم أنها كانت تسمي التماثيل {المساخيط}.

كانت تلك الزيارات المتكررة إلى التاريخ الفرعوني مجسداً في الآثار والمتاحف مدرسة نجيب المفتوحة على تاريخ بلده، وربما كانت هي السبب وراء أن يتمحور إنتاجه الأدبي في بداياته على التاريخ القديم، فكتب ثلاثيته الأولى عن التاريخ الفرعوني: {عبث الأقدار}، و«رادوبيس}، و«كفاح طيبة}.

الدرس الأول لنجيب الصبي في {التسامح} تعلمه أيضاً في مدرسة أمه، وهو الدرس الذي لازمه طول مشوار حياته، وبدا أنه بعض خصاله الأصيلة المتمكنة منه، كأنها فطرته التي فطر عليها، فلم تكن تلك الأمية تذهب به إلى مقام الحسين وبقية الآثار الإسلامية فحسب، ولا هي اكتفت بزياراتها المتعددة إلى المتحف المصري وأهرامات الجيزة، بل كانت تشد الرحال إلى كثير من الآثار القبطية، ومن كثرة ترددها على {دير مار جرجس} نشأت بينها وبين الراهبات هناك علاقة مودة صافية. حتى أنها حين مرضت ولزمت الفراش فوجئ أهل البيت كما فوجئ أهل الشارع جميعاً بوفد من {الراهبات} يزورنها، وكان المشهد أمام ناظريه مليئاً بالدلالات قبل أن يكون مسكوناً بالمحبة الصافية.

سأل نجيب أمه التي كانت تتكئ عليه في هذه الزيارات كافة عن سر هذا الجمع بين حبها الكبير للحسين وتعلقها بزيارة {مارجرجس} في نفس الوقت، وكانت تقول له في تلقائية وعمق: {هُم يا بني نفس السلسال، كلهم بركة}.

توثقت علاقة الفتى بأمه صغيراً وكبيراً، وكان والده مشغولاً باستمرار، سواء حين كان موظفاً حكومياً أو عندما عمل بالتجارة لدى أحد أصدقائه بعد خروجه على المعاش، ثم إنه لم يعش طويلاً بعد ذلك فمات مبكراً في سنة 1937، بينما عاشت أمه سنوات طويلة وتجاوز عمرها المئة عام، وظل يعيش معها حتى وصل عمره إلى 43 سنة حين تزوج، وبقي جزء كبير من مكتبته وكتبه في بيت أمه حتى رحلت عن الدنيا.

حي الجمالية

هو ابن حي الجمالية، بالميلاد وبالسكن، وبالانتماء والشجن، تلك المنطقة التي سكنت وجدانه، وظل يتردد عليها حتى بعد أن انتقل من {السكن} فيها إلى {المعيشة} في مناطق أخرى، يأخذه الحنين إليها ويشده إلى ربوعها، دائماً في رحابها، وهو شاب يملأ جنبات مقاهيها ضحكاً وسخرية فاقعة، ويسترد روحه فيها، وهو شيخ عجوز، في كل مرة يذهب إليها يزور ضريح مولاه الحسين مريداً، كصوفي مطيع، تحمله نشوة العاشق إلى هناك. لم يغب عن باله لحظة في حياته أنه ابن {بيت القاضي} في الجمالية، المولود بالمنزل رقم 8 في يوم الاثنين 11 ديسمبر سنة 1911، وظل الحنين إلى ربع القلب يمضه ألماً حتى كتب عنه فتخلص من الألم وبقي الحنين ينساب داخله كجدول ماءٍ عذبٍ فرات.

الانتقال إلى العباسية

ربما هي أفضل سنوات عمره المديد تلك التي قضاها في حيه الأول، في حاراته وبين مزاراته وناسه وبيوته ومشربياته، تلك السنوات التي شهدت طفولته وبراءته وسذاجته ووحدته بين أم وأب في بيت خلى من أشقاء كانوا قد كبروا وانفردوا بمعيشتهم سواء بالزواج أو العمل، فنشأ كأنه الطفل الوحيد في أسرته. ارتشف في تلك الفترة الأمومة على مهل، ومن دون شركاء متشاكسين على أمه، التي التصق بها واعتمدت هي على وجوده في حياتها وكان لها أثر كبير في تربية وجدانه ونفسيته وقناعاته الأولى.

اثنا عشر عاماً أمضاها الطفل والصبي نجيب محفوظ في حي {الحسين} ثم انتقل منه بعد ثورة سنة 1919، إلى حي {العباسية}، حيث سكن البيت رقم 9 شارع رضوان شكري. ولكنّ قلبه ظلّ معلقاً ببيته الأول، وكان دائم التردد عليه، وكانت أمه تصاحبه في كثير من زياراته إلى {الحسين} تركب العربة التي تجرها الخيول {السواري}، من العباسية لتذهب لزيارة المقام وتزور أقاربها وجيرانها القدامى ثم تعود كل يوم، كذلك كان يفعل أبوه الذي ارتبط بعملٍ في الحي العتيق وكان قد ترك الوظيفة العمومية بعد إحالته إلى المعاش.

سكن نجيب في {العباسية} شاباً، وبقي {الحسين} يسكنه طول عمره. وفي العباسية، التقى بعدد من أصدقاء عمره الذين توثقت علاقتهم معاً وتواصلت بقية العمر. تعرف فيها إلى عبد الحميد جودة السحار، وإحسان عبد القدوس، والدكتور أدهم رجب الذي أصبح أستاذاً ورئيساً لقسم الطفيليات بكلية طب قصر العيني، ودخل في أثناء إقامته فيها إلى الجامعة، وفيها درس الفلسفة بكلية الآداب، ثم انتقل إلى مرحلة التكوين العقلي.

المرحلة الجامعية

هو ابن الجامعة المصرية التي فرضت وجودها الحركة الوطنية، وهو ابن المرحلة التي يعتبرها زمن المد الليبرالي وتغليب مفاهيم الاستنارة وإعلاء قيمة العقل وتصدر القضية الوطنية لجدول أعمال الوطن، في الفترة من ثورة سنة 1919 إلى ثورة سنة 1952، وهي الفترة التي يعتبرها الأجمل من بين كل فترات حياته وأحلاها التي مرت به وبمصر وبهذه المنطقة من العالم، ويقول:» تمنيت على الدوام، وهذا مستحيل طبعاً، أن تعود إليّ وإلينا مرة أخرى، أو أن نرجع نحن إليها».

تتلمذ على يد اثنين مختلفين، ترك كل واحد منهما أثراً بالغاً ظلّ مقيماً معه حتى لحظاته الأخيرة وكان لهما معاً أكبر الأثر في تكوينه الفكري أولهما: هو الشيخ الجليل والمفكر الأديب العقلاني المستنير النابه مصطفى عبد الرازق باشا‏.‏ كان آنذاك أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب،‏ وهو بأبسط تلخيص ممكن مثقف مصري وعربي أصيل ونبيل تتحقق في مكوناته أصالة ونضارة التراث العربي الإسلامي في عصور ازدهاره ونهوضه وفقه الدين وأنوار وإشرافات العقل العلمي النقدي الذي استوعب وهضم ثقافة وعلوم وفلسفة وفنون الآخر الأوروبي، تحديداً اللاتيني الفرنسي، في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

في تلك الفترة الباكرة من حياة نجيب محفوظ تعرف أيضاً إلى الكاتب والمفكر اليساري سلامة موسى الذي كان يؤمن بالحضارة الغربية في الوقت الذي كان متحمساً للحضارة المصرية القديمة وتأثر به محفوظ في تلك الفترة من تكوينه وبانت في مؤلفاته الأولى، وكان أول ما نشر كتاب مترجم تحت عنوان «مصر القديمة» سنة 1932 وكان الناشر سلامة موسى نفسه، وتحت تأثيره ألف نجيب محفوظ رواياته الثلاث الأولى.

هما معاً من مفكري ثورة سنة 1919، عاشا فترة من حياتهما في الغرب، ومزج التأثير المزدوج للشيخ مصطفى والأستاذ سلامة لدى نجيب محفوظ النظرة المستنيرة إلى التراث العربي والإسلامي، والتطلع إلى التجديد الحضاري، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، ورد الاعتبار إلى الجذور القديمة للشخصية المصرية. وفي كلمته أمام من منحوه جائزة «نوبل» في الآداب قدم نفسه قائلاً: «أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية».

يكتب نجيب محفوظ عن أستاذه ويتذكره قبل أن يرحل بأشهر ثلاثة في ثلاثة نصوص من أحلام فترة النقاهة. يقول نجيب محفوظ: «رأيت أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق وهو شيخ الأزهر وهو يهم بدخول الإدارة فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام فصحبني معه ورأيت من الداخل حديقة كبيرة جميلة فقال إنه هو الذي أمر بغرس نصفها ورد بلدي والنصف الآخر ورد أفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنين وردة جديدة كاملة في شكلها طيبة في شذاها».

متعة القراءة

قبل أن يكون نجيب محفوظ كاتباً كبيراً بدأ قارئاً نهماً، وأدرك من اللحظة الأولى أن الكاتب الجيد قارئ جيد بالأساس، وأن القراءة هي زاد الكاتب، وأحد أهم ينابيع معرفته ومصادر وعيه. وكانت القراءة واحدة من متعه المفضلة، وكان أهم ما يكره من أي مرض يصيبه ويترك أثره السلبي على ممارسته اليومية لبعض أهم ركائز حياته وأهمها على الإطلاق القراءة، وحين أصاب المرض في أذنيه وأثر في قدرته على السمع كان يقول ضاحكاً: «الحمد لله، أن المرض جاءني في أذني وترك لي عيني وإلا كانت ستصبح كارثة كبيرة». كانت الكتابة إحدى متعه الكبرى، بل هي متعته التي جادت بها يد القدر عليه، وظل يردد دائماً أن «متعة القراءة عنده تسبق كل متع الدنيا، بما فيها متعة الكتابة ذاتها». وحين ضعف بصره مع تقدمه في العمر وتركت محاولة اغتياله أثرها في نظره وحركة يده اليمنى، ففقد القدرة على النظر وفقد القدرة على الكتابة معاً، كان ينعي بصره ويقول: «حزني على فقدان قدرتي على القراءة يفوق حزني بسبب عدم قدرتي على الكتابة».

بدأت رحلته مع القراءة والتأليف مبكراً جداً، شدته رواية بوليسية إلى القراءة، وأوصلته من صغره إلى هذا العالم الساحر من المتعة حتى صارت القراءة هي المتعة الأهم في حياته كلها. رأى الرواية مع زميل دراسته في الابتدائية وحين قرأها تملك منه شغف القراءة حتى توقف عنها لضعف بصره قبل سنوات قليلة من رحيله. ظلّ يقرأ طوال ثمانين عاماً، وكانت البداية مع هذه الرواية التي ناسبت عمره الصغير في ذلك الوقت، ربما تكون قد ساهمت في اتجاهه بعد ذلك ليكون «كبير الحكواتية»، يقول: «في أحد الأيام رأيت أحد أصدقائي واسمه يحيى صقر يقرأ كتاباً، رواية بوليسية عنوانها «ابن جونسون»، ويحيى هذا قريب لعبد الكريم صقر لاعب الكرة المشهور. سألته:

• ما هذا؟

• قال: إنه كتاب ممتع جدّاً...

استعرته منه، قرأته، واستمتعت به للغاية. كان ذلك ونحن طلبة في الثالثة الابتدائية، بحثت ووجدت سلسلة أخرى من الروايات بطلها الأب، كانت هذه أول روايات قرأتها في حياتي، وكان عمري نحو عشر سنوات. كنت أقرأ روايات جونسون على أنها حقائق، ولهذا كنت أبكي، أو أضحك تبعاً لتغير المواقف».

من رواية إلى رواية، من بوليسية إلى تاريخية، سارت قراءاته، ومعها بدأ التأليف، يقول: «وأنا طالب في المرحلة الابتدائية، ولكنه تأليف من نوع غريب، كنت أقرأ الرواية وأعيد كتابتها مرة أخرى، بالشخصيات نفسها مع تعديلات بسيطة، ثم أكتب على الغلاف، تأليف: نجيب محفوظ، وأختار اسماً لناشر وهمي. أعدت كتابة روايات لسير رايدر هاجارد، لتشارلي جارفس، وكان التأليف دائماً في الإجازات. هكذا بدأت كتابتي للرواية. طبعاً مع ملاحظة الإضافات التي أضيفها من حياتي من علاقاتي ومشاكلي مع الأصدقاء».

يضحك لهذه المصادفة ويقول: «الحمد لله، الكتاب الأول الذي شدني إلى القراءة كان رواية، ولم يكن كتاباً في علم الحشرات وإلا ربما تشكل مستقبلي بطريقة أخرى».

ثم في الثانوية كان لقاؤه الأول مع المنفلوطي فانبهر به وبأسلوبه وبسببه قرر الاتجاه إلى القسم الأدبي، وانتقل من المنفلوطي إلى المجددين، والمفكرين الذين كانوا يحظون بالاحترام في تلك الفترة، طه حسين، العقاد، وغيرهما. يقول: «أما الأدب فقد اعتبرته هواية جانبية، ثم قرأت كتاب «تاريخ الأدب» الذي ساعدني في اختيار قراءاتي الأدبية، وأرشدني إلى الأعمال المتميزة لكل كاتب».

يتايع: «قرأت «الحرب والسلام» لتولستوي، وأعتبرها أعظم رواية كتبت على الإطلاق، و»الجريمة والعقاب» لدستويفسكي. قرأت في القصة القصيرة لتشيكوف، وموباسان، وكافكا، وقرأت بروست، وجويس، وأحببت في شكسبير سخريته، ونشأت بيني وبينه صداقة حميمة وكأنه صديق. كذلك أحببت يوجين أونيل، وإبسن، وستريدنبرغ، وغيرهم ولم أتأثر بكاتب واحد، بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي. وعندما كتبت لم أكن واقعاً تحت تأثير أحدهم، لكنني عندما بدأت الكتابة كنت أطرح هذا كله، وأنهج منهجاً واقعيّاً».

الحيرة المعذبة

كان في البداية يعتقد أن الأدب نشاط سري، يسلي نفسي به، يقول: «ثم استفحل الأمر كالداء، بعد حصولي على الليسانس، بدأ الصراع بين الفلسفة والأدب، وكنت في السنة الأخيرة لدراستي أدركت ميلي الحاد إلى الأدب، أردت التخصص في الأدب إلى جانب الفلسفة، وقعت فريسة لصراع حاد. كل ليلة أتساءل: فلسفة أم أدب؟ كان صراعاً حاداً لا يمكن أن يتصوره إلا من عاش فيه، وكان عليَّ أن أقرر شيئاً أو أن أجن. ومرة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال «أهل الكهف» الذي رسمهم توفيق الحكيم، و»البوسطجي» الذي رسمه يحيى حقي، والفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود الغاب المنتصبة على حافة الترعة في رواية «الأيام» لطه حسين، وأشخاص من أبطال قصص محمود تيمور. كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقررت أن أهجر الفلسفة وأن أسير معهم».

«استمر ذلك حتى سنة 1936، حسمت الحيرة المعذبة لمصلحة الأدب، وهنا شعرت براحة عميقة»... وكرس نفسه للأدب، وعاش للرواية، التي رأى أنها: «أبرع فنون الأدب التي خلقها الإنسان المبدع في جميع العصور». حتى الزواج الذي هو إحدى سنن الحياة البشرية ظلّ يخشى من أن يؤثر بالسلب في مشروع حياته الأصلي. كان يعتقد بأنه سيكون عائقاً أمام العمل الأدبي، ولم يتعجل الزواج حتى تجاوز الأربعين وحتى لا يربك حياته في مسؤوليات صعبة. وحين اختار شريكة حياته الزوجية اختارها على مقياس واحد، أن تدرك أن قانون حياته الذي يحكمه ويتحكم فيه هو الأدب ولا شيء غيره.

مسار يبدو طبيعياً لمصري ولد في أوائل القرن العشرين ومات في أوائل القرن الواحد والعشرين، بدأ مع التحاقة بـ «الكُتَّاب» حيث تعلم فيه القراءة والكتابة، وحفظ فيه ما تيسر له من سور «القرآن الكريم»، ثم تدرج في التعليم، حتى حصل على ليسانس الفلسفة سنة 1934، وكان ترتيبه الثاني على الدفعة، ومنذ البداية عمل موظفاً لدى الحكومة، وترقى في مراتب الوظيفة الحكومية حتى أحيل إلى المعاش سنة 1971.

عشرات الآلاف، وربما الملايين، ساروا على الدرب نفسه، بعضهم تخرج في الكلية نفسها، والبعض الآخر من كليات أخرى، وعملوا جميعاً في دواوين الحكومة حيث كانت للوظيفة قيمة، وتعطي الأمان والاستقرار، وتعطي المكانة والاحترام، ثم انقضت مهمتهم ومدتهم فخرجوا جميعاً إلى المعاش.

هي دورة حياة مصرية تقليدية تكررت كأنها ساقية مربوط فيها الناس يدورون حولها حتى يأتي يوم يسلمون فيه الدور على القادمين من خلفهم أجيالاً وراء أجيال.

لكنه كان نسيجَ وحده...

جعل حياته العادية التي تشبه حياة كل الناس، مجرد هامش طويل على متن حياته التي اختارها بوعي، وعن سابق تصميم وإصرار، حيث الحياة في الأدب، وحيث المعيشة في كنف الرواية، يقول: {أتعلم ما الذي جعلني أستمر ولا أيأس؟ اعتبرت الأدب حياة، لا مهنة، حصرت اهتمامي في الإنتاج الأدبي نفسه وليس بما وراءه، فكنت أكتب، وأكتب، لا لأجل أن ألفت النظر إلى كتاباتي ذات يوم، بل كنت أكتب وأنا معتقد أنني سأظل على هذه الحال دائماً وأبداً}، وبعد فوزه بنوبل قال: {... الأمر الذي أعتز به أنني كنت مخلصاً لعملي ومحباً له}.

أول كتاب قرأه كان رواية وحمد الله أنه لم يكن كتاباً في علم الحشرات
back to top