عنق الزرافة... كيف أصبح طويلاً؟

نشر في 29-05-2016
آخر تحديث 29-05-2016 | 00:00
No Image Caption
للمرة الأولى، تمّت تجزئة جينومات الزرافة وأقرب كائن حيّ لها، أي حيوان الأكاب المعزول في الغابات الإفريقية المطيرة، فظهر أول دليل على التغيرات الوراثية التي أدت إلى تطور عنق الزرافة الطويل بشكل استثنائي واعتبارها أطول فصيلة برّية في العالم.
يعمل دوغلاس كافينير في جامعة ولاية بنسلفانيا وقاد الفريق البحثي مع موريس أغابا من {معهد نيلسون مانديلا الإفريقي للعلوم والتكنولوجيا} في تنزانيا، قال في هذا المجال: {شهدت قامة الزرافة المعروفة بطول عنقها وساقيها وطولها العام الذي يمكن أن يبلغ 6 أمتار تطوراً قياسياً أثار دهشة الجميع منذ ثمانية آلاف سنة على الأقل، أي منذ ظهور النقوش الصخرية الشهيرة في منطقة {دبوس} في جمهورية النيجر}.
ذكر دوغلاس كافينير، أستاذ في علم الأحياء وعميد كلية {إيبرلي} للعلوم في ولاية بنسلفانيا: {التغيرات التطورية المطلوبة لإنشاء بنية الزرافة الضخمة وتزويدها بتعديلات ضرورية لتركض بسرعة فائقة وتتزوّد بوظائف قوية على مستوى القلب والأوعية الدموية مصدر غموض علمي منذ القرن التاسع عشر، حين تساءل تشارلز داروين للمرة الأولى عن الأصول التطورية للزرافة}.

يجب أن يضخّ قلب الزرافة الدم نحو الأعلى، على مسافة مترَين مثلاً، لإيصال كمية هائلة من إمدادات الدم إلى الدماغ. تكون هذه العملية ممكنة لأن قلب الزرافة تطوّر وزاد حجم البُطين الأيسر فيه على نحو غير مألوف، ويكون ضغط دم هذه الفصيلة أعلى بمرتين من الثدييات الأخرى.

لتحديد التغيّرات الوراثية المسؤولة عن خصائص الزرافة الفريدة من نوعها، بما في ذلك سرعة الركض التي قد تصل إلى 60 كلم في الساعة، قارن كافينير وأغابا تسلسل الترميز الجيني لدى الزرافة والأكاب بأكثر من 40 فصيلة أخرى من الثدييات، من بينها البقر والخراف والماعز والجِمال والبشر. قال كافينير: {كان التسلسل الجيني لدى الأكاب والزرافة متشابهاً جداً لأن الفصيلتين تشتقان من سلف مشترك وُجد منذ 11 أو 12 مليون سنة فقط، وتُعتبر هذه الفترة حديثة نسبياً على مقياس التطور. لكن رغم هذه العلاقة التطورية الوثيقة، يبدو حيوان الأكاب أقرب إلى الحمار الوحشي ويفتقر إلى طول الزرافة الفارع وقدراتها المبهرة على مستوى القلب والأوعية الدموية. لهذين السبيين، قدّم تسلسل الجينوم لدى الأكاب مؤشراً قوياً استُعمِل لتحديد جزء من تعديلات وراثية استثنائية خاضتها الزرافة}.

من خلال استعمال مجموعة اختبارات مبنية على المقارنة لدراسة تسلسل الجينوم لدى الزرافة والأكاب، اكتشف العلماء 70 جينة تحمل مؤشرات تكيّفية عدة. أوضح كافينير: «تشمل التعديلات التكيّفية بدائل استثنائية لسلاسل الأحماض الأمينية التي يُفترض أن تغيّر وظيفة البروتينات واختلافات التسلسل البروتيني والانتقاء الطبيعي الإيجابي».

تُشَفِّر أكثر من نصف الجينات السبعين البروتينات المعروفة بتنظيم مسار تطور الهيكل العظمي والقلب والأوعية الدموية والجهاز العصبي والمعطيات الفيزيولوجية الخاصة بتلك العوامل: إنه نوع الجينات الضرورية لتفعيل تطوّر خصائص الزرافة الاستثنائية.

مؤشرات تكيفية

من بين الاكتشافات التي توصّل إليها الفريق البحثي، تبيّن أن بعض الجينات المعروفة بتنظيم تطوّر جهاز القلب والأوعية الدموية، أو السيطرة على ضغط الدم، كان من جينات تشمل مؤشرات تكيفية عدة لدى الزرافة. يسيطر جزء من تلك الجينات على تطور القلب والأوعية الدموية والهيكل العظمي، ما يشير إلى فرضية مثيرة للاهتمام مفادها أن قامة الزرافة وقلبها وأوعيتها الدموية المشحونة بالتوربينات تطورت بشكل متناسق عبر التغيرات الحاصلة في عدد صغير من الجينات.

اكتشف العلماء أيضاً أدلة وراثية على تطوّر عنق الزرافة وساقَيها، علماً أنها تشمل عظاماً بقدر تلك الموجودة في عنق وسيقان البشر وثدييات أخرى. أضاف كافينير: {لبلوغ ذلك الطول الاستثنائي، تطوّرت فقرات العنق وعظام الساقين لدى الزرافة بدرجة كبيرة. يجب أن تنمو جينتان على الأقل: واحدة لتحديد منطقة الهيكل العظمي التي يجب أن تنمو، وأخرى لتحفيز النمو المتزايد}. من بين الجينات السبعين التي كانت مختلفة جداً لدى الزرافة بحسب نتائج البحوث، حدّد العلماء الجينات المعروفة بتنظيم هاتين الوظيفتين معاً.

قال كافينير: {كانت جينة FGFRL1 الأكثر غموضاً من بين الجينات كلها كونها مزوّدة بمجموعة من بدائل الأحماض الأمينية الخاصة بالزرافات وتقع في الجزء البروتيني الذي يجمع بين عوامل نمو الخلايا الليفية: إنها مجموعة من العناصر المرتبطة بتنظيم عمليات عدة مثل نمو الجنين}.

يؤدي ممرّ عامل النمو الخاص بالخلايا الليفية دوراً حاسماً للسيطرة على عملية النمو، بدءاً من أولى مراحل تطور الجنين وصولاً إلى مرحلة نمو العظام بعد ولادة الزرافة. لدى البشر والفئران أيضاً، ترتبط العيوب الحادة في الهيكل العظمي والقلب والأوعية الدموية بتحوّلات كفيلة بإضعاف هذه الجينة.

حدّد العلماء أيضاً أربع جينات متماثلة ترتبط بتطور هياكل الجسم وتُعرَف بتحديد المناطق في العمود الفقري والساقين. يتوقع كافينير أن يُؤَمّن خليط التغيرات في تلك الجينات المتماثلة وفي جينة FGFRL1 اثنين من العوامل المطلوبة لتطور عنق الزرافة الطويل وساقيها}.

اختلاف الأيض والنمو

لاحظ أغابا في البداية مجموعة جينات تنظّم اختلاف الأيض والنمو لدى الزرافة مقارنةً بحيوان الأكاب. تُشَفّر واحدة من تلك الجينات مستقبِل حمض الفوليك: إنه نوع من الفيتامين B الأساسي للنمو والتطور الطبيعي.

اكتشف العلماء أيضاً أن الجينات الأيضية الأخرى التي تغيّرت لدى الزرافة ترتبط بتأييض الأحماض الدهنية المتقلّبة التي ينتجها تخمير النباتات المستهلكة: إنه مصدر مهم للطاقة بالنسبة إلى الزرافات وحيوانات مُجترّة أخرى مثل الماشية والماعز.

تتبع الزرافة حمية غير مألوفة تحتوي على ورق الأكاسيا والبذور المغذّية مع أنها تكون سامّة بالنسبة إلى حيوانات أخرى. يفترض العلماء أنّ الزرافة طوّرت الجينات المسؤولة عن تأييض ورق الأكاسيا لكبح طابعها السام.

يقول كافينير وأغابا، خبيران في علم الوراثة التجريبي، إنهما يتوقان إلى اختبار وظيفة بعض الجينات المحددة التي يُقال إنها مسؤولة عن خصائص الزرافة الفريدة من نوعها.

يختبر فريق البحث راهناً الأثر المحتمل للاختلافات الاستثنائية في جينة FGFRL1 لدى الزرافة عبر إحداث تلك التعديلات لدى الفئران باستعمال وسائل {كريسبر} الجديدة لتعديل الجينات. من غير المتوقع أن يؤدي زرع جينة FGFRL1 الموجودة لدى الزرافة في الفئران إلى إطالة عنقها. لكن يأمل العلماء أن يرصدوا تأثير تلك الجينة على نمو سيقان الفئران وعمودها الفقري بما يشبه خصائص الزرافة الفريدة من نوعها.

قال كافينير: {نأمل أن يؤدي نشر جينوم الزرافة والأدلة المرتبطة بمعطياتها البيولوجية الفريدة من نوعها إلى جذب الانتباه إلى هذه الفصيلة نظراً إلى التراجع السريع في أعداد الزرافات في الفترة الأخيرة}.

تابع: {فيما جذبت مشكلة الفِيَلة (شريكة الزرافات القصيرة في السافانا الإفريقية) أكبر جزء من الانتباه، تراجعت أعداد الزرافات بنسبة 40 % في آخر 15 سنة بسبب الصيد غير المشروع وفقدان المساكن الطبيعية. أمام هذا المستوى من التراجع، سينخفض عدد الزرافات في المساحات البرية ويقلّ عن 10 آلاف في نهاية هذا القرن. توشك الفصائل الفرعية من الزرافات على الانقراض!}.

قامة الزرافة وقلبها وأوعيتها الدموية المشحونة بالتوربينات تطورت بشكل متناسق
back to top