كان في إنسان

كان ياما كان، كان في إنسان، تجول هذا الإنسان على كل البقع الصلبة من الأرض، فخططها ووزعها محاصصة. رسم هذا الإنسان خريطة، فوضع مناطق في الجنوب ومناطق في الشمال دون منطق واضح، ولأن لهذا الإنسان سيكولوجية غريبة، فقط تطبع بطبيعة موقعه، فكان نصيب الجنوبيين النصيب السفلي من الأشياء ونصيب الشماليين النصيب العلوي منها في معظم الأحيان. احتل الشمال الجنوب، وغارت الإمبراطوريات ثم الدول على بعضها بعضا بدموية بدائية. توحشت إسبانيا في هجومها على الحضارة المكسيكية، وطغى الإنسان الأبيض إبان تكوينه "للعالم الحر" في أميركا. دهست أوروبا إفريقيا ومعظم آسيا بأحذيتها الجلدية الجديدة، وفحش الشرق الآسيوي بين بعضه البعض. ثم تضارب اليمين الأقصى باليسار الأقصى لتنفجر أكبر مأساة بشرية عرفها هذا الإنسان متمثلة في القنبلة النووية التي أصابت هيروشيما وناغازاكي. ولكن لحظة، سبقت هذه المأساة المحرقة النازية لليهود، والمجازر التركية للأرمن، وتبعتها حروب الإبادة بين التوتسي والهوتو في راوندا، وبين البوسنة والهرسك وصربيا في البلقان. تركت أكثر مما ذكرت، أدري، ولكن من أين لبشر منفرد ذاكرة تجمع كل مآسي وفواحش بني جنسه؟كان ياما كان، كان في إنسان، وصل جنسه لما يقرب من المئتي ألف سنة من العمر، ولا يزال يستخدم يده ليقتل بني جنسه، ولا يزال يجيش جيوشه من أجل اللقمة، وإن تغير تعريف اللقمة، ولا يزال يسنّ سكاكينه من أجل ربه، وإن لم يعرف هو من ربه. وفي خضم كل هذا العنف والأسى، حاول العالم دفن مصائبه وتخزينها في بقعة واحدة، فدفع بها ودفع حتى تكومت في منتصف الكرة الأرضية، بالضبط في شرقنا الأوسط المنكوب، مكب النفايات. كنس العالم الصهاينة إلى فلسطين، واعتقد أنه دفع بالتراب تحت السجادة. إلا أن نفضة حدثت فثارت الزوابع، ومن وقتها فُقدت الرؤية تماماً في إقليمنا المسكين. قتال في لبنان، قتال في العراق، قتال في ليبيا، ثورة هنا وثورة هناك، تخمد ثورة يصحو إرهاب، يخمد إرهاب تصحو فاشية، قلاقل تونس ومصر، أسى اليمن، عذابات البحرين، مجازر سورية. اضطرابات السودان، حروب الصومال. مثلثات شر تمول النظام السوري، مثلثات شر تمول النظام العراقي، عنصريات تقتل اليمنيين، تضطهد البحرينيين. شرق أوسط متناقض متصارع مريض، يعيش في عواصف ترابية مستمرة منذ كنس الآخرون تراب الصهاينة تحت سجادته المهترئة. كان ياما كان، كان في إنسان، إنسان يعيش على الكرة الأرضية، مخلوق بائس مسكين سينقرض بعد سنوات قليلة، أطولها خمسة بلايين سنة عندما تصطدم المجرة المرئية رؤى العين بأرضه الجميلة. هذه نهاية قادمة لا محالة وذلك إن لم ينه هو جنسه بنفسه قبل ذلك بكثير. كان ياما كان، كان في إنسان، ما إن انقرض، حتى ازدهرت الحياة على الأرض وأينعت، اخضرت وطابت وصفت، غاب التلوث وبقيت زقزقة العصافير. كان ياما كان، كان في إنسان، هكذا ستحكي حكايته الكائنات الفضائية التي ترقبه من بعيد، بذهول وحزن وانبهار شديدين."آخر شي": كل الشكر للدكتور محمد قاسم الذي اطلع على الجزء الأول من المقال وقدم نصحا ومعلومات قيمة حول موضوع بداية الحياة والحضارة.