الحياة الاجتماعيّة... ضروريّة لإطالة الحياة؟

نشر في 05-04-2016 | 00:01
آخر تحديث 05-04-2016 | 00:01
No Image Caption
تشير دراسة جديدة إلى أهمية السلوك الاجتماعي لإطالة الحياة، مبينةً أن المشاركة في النشاطات الاجتماعية والتفاعلات مع العائلة والأصدقاء قد تكون جزءاً أساسياً من الحفاظ على الصحة والسعادة لأطول فترة ممكنة.

في مرحلة معينة من حياتنا، نضطر جميعاً إلى مواجه ظاهرة يسميها الخبراء {التراجع النهائي}. سواء عشنا هذا الوضع شخصياً أو شاهدناه لدى أحبابنا الذين يتقدمون في السن، غالباً ما تتّسم آخر سنتين أو ثلاث سنوات من الحياة بتراجع حاد في الوظيفة الجسدية والعقلية. إلى جانب الأمراض البارزة في عمر متقدّم، يواجه الناس في مرحلة التراجع النهائي تدهوراً شديداً في الوظيفة المعرفية، بما في ذلك أداء الذاكرة، فضلاً عن زيادة حدة الاكتئاب والقلق بشأن المستقبل.

يعني هذا الوضع غالباً الحاجة إلى علاج طبي أعلى كلفة، أو حتى إلى دخول مركز خاص للرعاية بالأشخاص الذين يعجزون عن الاعتناء بنفسهم.

تشير الدراسات البحثية التي تراقب المسنين في مجتمعات مختلفة إلى أن التراجع النهائي يبدأ قبل ثلاث أو خمس سنوات من الوفاة، ويترافق مع تراجع حاد في مستوى الرضا عن الحياة والراحة الجسدية.

لكن لا داعي ليكون المشهد قاتماً دوماً. اكتشفت تلك الدراسات نفسها اختلافات فردية هائلة بين المسنين. فيما يختبر عدد منهم تراجعاً نهائياً دراماتيكياً، ينجح آخرون في الحفاظ على سلامتهم العقلية والجسدية حتى نهاية حياتهم، بحسب ظروفهم الشخصية ووضعهم الصحي العام. تشمل العوامل التي تؤثر على الشيخوخة الناجحة: العوامل البيولوجية مثل تدهور الصحة أو الألم المزمن، والحالة النفسية (مثل قدرة المسنين على التحكّم بحي اتهم)، وربما يرتبط أهم عامل بالوظيفة النفسية والاجتماعية (أو التوجّه الاجتماعي).

نضج عاطفي

البشر كائنات اجتماعية بطبيعتهم ويتوقّف نجاحهم في عيش مرحلة الشيخوخة على نوع الشبكات الاجتماعية التي يستطيعون بناءها. لا تكون هذه المهمة سهلة دوماً بالنسبة إلى المسنين، لا سيما إذا عاشوا أكثر من أصدقائهم القدامى. سبق وأثبتت البحوث وجود رابط واضح بين العزلة الاجتماعية وتدهور الصحة العقلية. كلما زادت قوة روابطنا الاجتماعية، تتعزّز سعادتنا وتتحسّن صحتنا لأطول فترة ممكنة.

وفق الطبيبَين النفسيين كارين فينغرمان وفريدر لانغ، تتحسّن العلاقات الاجتماعية مع التقدم في السن نتيجة اكتساب النضج العاطفي وزيادة الأهمية التي نعطيها للأصدقاء والعائلة في حياتنا. لكن تبدأ الشبكات الاجتماعية بالتضيّق أيضاً مع التقدّم في السن، مع أن نوعية الصداقات التي تصمد تتحسن في الوقت نفسه. يعترف المسنون بأنهم يستمتعون بالتفاعل مع شركائهم الاجتماعيين أكثر من الراشدين الأصغر سناً. حتى لو فقدوا أصدقاءهم بسبب المرض أو الموت، يبقى مستوى الدعم الاجتماعي على حاله عموماً.

توتّر العلاقات

صحيح أن العلاقات الاجتماعية قد تبقى مستقرة رغم التقدم في السن، لكن تشهد السنوات الأخيرة من الحياة توتر تلك العلاقات بشكل خاص. لا يزيد الضغط النفسي الذي يرافق الأمراض الحادة فحسب، بل تزداد صعوبة الاحتفاظ بالتوازن العاطفي حين يبدو الموت قريباً جداً. قد تكون شبكات الدعم الاجتماعي قيّمة جداً بالنسبة إلى الأشخاص المصابين بالسرطان أو أمراض أخرى تهدّد حياتهم، إلا أن الشعور بأن الوقت بدأ ينفد يُفقِد التواصل الاجتماعي أهميته. لكن كيف ينعكس هذا الوضع على الراحة العاطفية لدى المسنين الذين يقتربون من نهاية الحياة؟

نُشر بحث جديد في مجلة {علم النفس والشيخوخة} وحلّل التوجه الاجتماعي ومدى تأثيره في راحة الناس في مرحلة التراجع النهائي. استعمل دينيس غيرستورف من جامعة هومبولت في برلين وفريق دولي من الباحثين بيانات طولية جُمِعت من مشاركين في دراسة أجرتها {الهيئة الاجتماعية الاقتصادية الألمانية}. منذ عام 1984، جمع {المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية} بيانات عن أكثر من 11 ألف أسرة في ألمانيا، وشملت معلومات ذاتية عن النشاطات الاجتماعية والراحة العاطفية والحياة العائلية والوسائل الترفيهية، فضلاً عن معلومات أخرى حول التاريخ الطبي والمعلومات الديمغرافية والتاريخ التعليمي والمهني والمدخول.

لتحليل ظاهرة التراجع النهائي، ركّز غيرستورف وزملاؤه على المشاركين الذين ماتوا خلال فترة الدراسة التي أجرتها {الهيئة الاجتماعية الاقتصادية الألمانية}. من بين أكثر من 50 ألف مشارك، تبين أن 2910 أشخاص ماتوا بين عامَي 1991 و2011. لم يبلغ جميعهم مرحلة التراجع النهائي قبل وفاتهم (مات أشخاص أصغر سناً في حوادث مثلاً)، لكن كان المشاركون المتوفون أكبر سناً وأقل ثقافة واعترفوا بتراجع رضاهم عن حياتهم مقارنةً بالمشاركين الذين بقيوا على قيد الحياة.

وفق نتائج الدراسة، تبين أن المشاركين الذين كانوا يعيشون حياة نشطة اجتماعياً ويولون أهمية كبرى للأهداف الاجتماعية سجلوا مستوىً أعلى من الراحة في مرحلة متقدمة من حياتهم، وحافظوا على نشاطهم العقلي والجسدي لفترة أطول، واختبروا التراجع النهائي في مرحلة متأخرة جداً مقارنةً بالمشاركين الذين ما كانوا اجتماعيين بقدرهم. بدا وكأن تفاعلاً قوياً نشأ بين النشاط الاجتماعي والأهداف الاجتماعية القوية لأن هذين العاملَين معاً يحسّنان الراحة العاطفية العامة. بقيت النتائج ثابتة رغم أخذ عوامل أخرى بالاعتبار، مثل العمر والنوع الاجتماعي وحالات دخول المستشفى والإعاقة وتحديد أهداف أخرى في الحياة.

لا يمكن تجنّب التراجع النهائي، تحديداً بالنسبة إلى الأشخاص الذين يصابون بأمراض خطيرة في نهاية حياتهم، لكن يعطي النشاط الاجتماعي لأطول فترة ممكنة منافع صحية مهمة بدأ الخبراء يفهمونها للتو.

يعرف الجميع أثر الوحدة على الصحة في عمر متقدم، ويُعتبر الترمّل (في حياة الرجل أو المرأة) أو وفاة أصدقاء مهمّين من أبرز أسباب الوفاة المبكرة في حالات عدة. يجب أن يتشجع المسنون على التمسك بصداقاتهم وروابطهم العائلية، تحديداً إذا كانوا يتعاملون مع تراجع المعنويات الذي يترافق عموماً مع الشعور بالمرض أو الاكتئاب، ما يمنعهم من متابعة علاقاتهم الاجتماعية.

مع ذلك، قد تكون إقامة العلاقات الاجتماعية سيفاً ذا حدين، بحسب غيرستورف وزملائه. يمكن أن يؤدي التواجد مع أفراد العائلة والأصدقاء إلى تعزيز مشاعر الحزن والسعادة في آن، فقد يصاب الأصدقاء بمرض خطير أو ينفصل الأبناء عن أهاليهم أو تقع مشاكل الحياة الطبيعية التي يواجهها الجميع مع مرور الوقت. لكن رغم هذا الضغط النفسي المضاف، يمكن أن يقدم المسنون في السنوات الأخيرة من حياتهم مساهمة مهمة في حياة الأشخاص الذين يهمّونهم.

تبرز الحاجة طبعاً إلى إجراء بحوث إضافية، لكن تُعتبر هذه الدراسة الحديثة واحدة من أولى الدراسات التي تحلّل أهمية الحياة الاجتماعية بالنسبة إلى الناس في مرحلة التراجع النهائي

back to top