«شكراً»... ركيزة فنّ الحياة

نشر في 28-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 28-01-2016 | 00:01
No Image Caption
ماذا لو كان التعبير عن أعمق مشاعر الشكر تجاه الحياة وجميع المحيطين بنا أول خطوة على طريق السعادة؟ لا يكون التعبير عن الشكر مجرد سلوك عفوي ومهذب، فقد تصبح كلمة {شكراً} ركيزة لفن الحياة شرط أن نجيد تفسير العاطفة التي تسببها ونعمل على تطويرها: هذا هو معنى الامتنان. أعاد علم النفس الإيجابي اكتشاف هذا المفهوم الذي ينذر بالانفتاح والسلام، لكن من يستحق امتناننا وكيف يمكن تطوير هذا السلوك؟
أثبت علماء الأعصاب أن تطبيق مبدأ الامتنان في الحياة اليومية يضمن الصحة الجسدية وسلامة العلاقات. يساعدنا العطاء بعد التلقي على مقاومة الضغط النفسي وإدراك حاجتنا إلى الآخرين كي نتابع العيش.

يعتبر الخبراء أن كلمة {شكراً} قد تغير حياتنا. لكن لا نعني بها تعابير الشكر التي نطلقها عشوائياً في مختلف المواقف. لا يعطي الامتنان مفعوله إلا إذا عبّرنا عنه بشكل واعٍ بعد المرور بمرحلتين: إدراك العطايا التي تلقيناها (قد تكون مادية مثل الهدايا أو غير مادية مثل الدعم المعنوي) وتحديد كلفتها (أي الجهود المبذولة لتحقيقها). ثم يجب أن نعترف بأن مصدر هذا الشعور موجود خارج ذاتنا: قد يكون شخصاً أو الحياة بحد ذاتها.

نظرة إيجابية إلى الحياة

لقياس الآثار الحقيقية لهذا الامتنان، قسّم الباحثون مئات الأشخاص على ثلاث مجموعات. دوّنت المجموعة الأولى تجاربها اليومية، واكتفت المجموعة الثانية بذكر التجارب المزعجة، بينما طُلب من كل شخص في المجموعة الثالثة أن يعدّ لائحة بالأحداث التي يشعر بالامتنان تجاهها. بعد عشرة أسابيع، لوحظ أن وضع المتطوعين في هذه المجموعة الأخيرة كان الأكثر إيجابية، فشعروا بالحماسة في حياتهم اليومية وتفاءلوا بالمستقبل. الأفضل من ذلك أن هؤلاء الأشخاص ما عادوا يتكلمون عن مشاكلهم الصحية وبدأوا يهتمون بنفسهم عبر ممارسة النشاطات الجسدية. لاحظ الباحثون أيضاً تراجع مستوى ضغطهم النفسي وتحسن نوعية نومهم وارتفاع مستوى أدائهم وزيادة تصميمهم وتراجع خطر الاكتئاب لديهم.

تتعدد المنافع التي يمكن حصدها إذاً عبر تكثيف ممارسة الامتنان. كلما حاولنا اكتشاف أسباب الامتنان في حياتنا، سيسهل علينا إيجادها. وكلما عبّرنا عن امتناننا تجاه الآخرين، سيزيد تقديرنا وحبنا لهم فنعترف بجميلهم علينا. إنها حلقة متماسكة وقد لا تزول مطلقاً!

لكن كيف تتطور هذه العملية؟ يساعد الامتنان الفرد على توجيه انتباهه نحو جوانب الحياة السعيدة مقابل تجاهل الجوانب التي تنقصها. لا يعني ذلك أن الامتنان يقضي على العواطف السلبية لكنه يحث على تطوير مشاعر إيجابية عبر التركيز على الفرص المتاحة. يقضي الهدف الأساسي بالانتقال من التشاؤم إلى الامتنان وتقدير ما نملكه في الحاضر. حتى أن الامتنان قد يكون بديلاً سعيداً عن النزعة المادية الطاغية في مجتمعاتنا الاستهلاكية.

أخيرا،ً يحوّل الامتنان الانتباه من الذات إلى الآخرين ويجعلنا نركز على ما يقدمونه لنا. تسمح هذه الخطوة بتخفيف التركيز على الذات، ما يساهم في تقليص الضغوط التي نواجهها، كما أنها تساعدنا على إقامة علاقة وثيقة مع العالم والناس من حولنا.

عاطفة في صلب الفلسفات الروحية

تشمل المزايا التي ينتجها الامتنان التواضع والسخاء واللطف، لذا تبدو هذه العاطفة جزءاً محورياً من مختلف الفلسفات والمبادئ الروحية. كل من يتساءل عن أهمية الامتنان يستفسر فعلياً عما يجعل الأشخاص الذين يحملون إيماناً عميقاً أكثر سعادة من غيرهم. من الملاحظ أنهم يشعرون بالامتنان أكثر من غير المؤمنين. يكون الامتنان في هذه الحالة نعمة حقيقية وقد يتحول إلى أسلوب حياة بحد ذاته، علماً أن مختلف الديانات والتعاليم البوذية وممارسات التأمل تروّج له.

يعني الامتنان باختصار تقبّل التجارب المزعجة والممتعة معاً وتلقي المبادرات من دون تمييز بهدف التصالح مع الوجود في الزمن الحاضر، لكن بعد تجاوز الماضي طبعاً. حين نشكر الآخرين، نستمتع بما نعيشه اليوم وبما عشناه سابقاً. يعني هذا الامتنان الاستمتاع بالذكريات وحب الماضي واسترجاع الزمن الغابر ووضع حد للندم أو الحنين الذي ينهش روحنا. هو يشفينا من جميع الأوجاع المرتبطة بظروفنا وقوتنا المحدودة والزمن الماضي ومشاعر الغضب والوحدة. إذا لم يكن الامتنان مصدراً للسعادة، فهو يحمل على الأقل جانباً منها.

أبرز المنافع

• يصالحنا الامتنان مع الحياة عبر تشجيعنا على تقدير ما نملكه بدل التذمر من أمور تنقصنا.

• يكون الامتنان كفيلاً بشفائنا لأن كل من يطبق هذا المبدأ يزيد اهتمامه بنفسه ويحسن نمط نومه ويتراجع احتمال أن يمرض.

• يصلح الامتنان علاقتنا مع الناس عبر تغيير وجهة تركيزنا وتوجيهها نحو الآخرين.

 

ما الذي يمنع الشعور بالامتنان؟

لا يسهل أن نعبّر دوماً عن امتناننا، لكن ما العمل حين تنقصنا الكلمات أو تشلّنا العواطف؟

لِنَقل إن صديقاً أسدى لنا خدمة أو قدم لنا الشريك هدية غير متوقعة أو جاملنا أحد الزملاء في العمل: قد نشعر في هذه الحالة بأننا عاجزون عن إبداء أي رد فعل. وراء هذا الإحراج تكمن مصاعب حقيقية في التعبير عن الامتنان لأننا لا نكون معتادين على تقاسم عواطفنا مع الآخرين أو لا نرتاح إذا شعرنا باضطراب توازننا وفهمنا أننا ندين لشخص آخر. ولا يسهل أصلاً أن نستعمل الكلمات المناسبة ونشكر الناس بصدق. لذا يمكن أن يتعلم كل من يجد صعوبة في التعبير بعض الدروس كي يشكر الناس من قلبه.

حين تخونك الكلمات

 

يعني التعبير عن مشاعرنا الكشف عما نحسّه لتفريغها. لكننا لم نتعلم أن نحتكّ بأعمق عواطفنا بطريقة ملموسة لأننا ننشأ على مبدأ الخجل والخوف من الضعف. تتفاقم المشكلة حين نشعر بالخيبة فنحاول التهرب من هذا الشعور فوراً ونرزح تحت ثقل المبادئ الأخلاقية التي تربينا عليها. بعد خنق هذه العاطفة، تصبح التبادلات تلقائية وقاسية ونميل إلى الاستخفاف بها. وراء أي هدية أو خدمة، يجب أن نتلقى شكلاً من الامتنان والتقدير. لكن لا تكون هذه المهمة سهلة مع أننا نجيد تطبيق هذا المبدأ حين تصدر المبادرة عن الأولاد!

• نحو التغيير: حين نحاول أن نقول {شكراً}، نحبس نفسنا في كلمة تحترم قواعد معينة. لكن يجب تمرير الرسالة الصحيحة بغض النظر عن المفردات المستعملة. لماذا لا نجرؤ مثلاً على رسم ابتسامة صريحة على وجهنا أو إعطاء نظرة معبّرة أو إطلاق مبادرة ودية؟ تكون الأدوات غير الشفهية وسيلة فاعلة لتجنب حبس النوايا الصادقة في كلماتٍ لا تعطي معنىً عميقاً. يمر التواصل أيضاً بلغة الجسد.

حين تشعر بالإحراج

بحسب تاريخنا الشخصي، يمكن أن نقيّم نفسنا مقارنةً بالآخرين فنحدد ما نستحقه وما لا نستحقه. مع ذلك، قد يؤدي تلقي المبادرات إلى اضطراب الصورة التي نحملها عن نفسنا. لكن ما دامت مبادرة الشخص الآخر تبقى في إطار اجتماعي وتقليدي، لا تضطرب تلك الصورة بدرجة مفرطة. حين نتلقى أكثر مما نتوقع أو تحصل المبادرة في ظروف غير منتظرة، يأتي فعل العطاء ليزعزع قناعاتنا. نحو التغيير: لا نفع من السعي إلى تبديد مشاعرنا حين نشعر بالإحراج والخجل، بل إن هذا السلوك قد يكون مسيئاً فعلاً. لذا يجب الاستفادة من الوضع للتعبير عن أحاسيسنا وإحراجنا: {لم أكن أنتظر ما حصل}! {لم أكن أظن أنني أستحق ذلك!}. من خلال تقاسم المشاعر الداخلية مع الآخرين، نعطي قيمة للتبادل.

حين تشعر بأنك مدين لغيرك

تعبّر كلمة {شكراً} عن شعور محرج يجعلنا نحسّ بأننا مدينون للآخرين. لذا نسعى تلقائياً إلى استرجاع التوازن بعد أن نشعر بالاضطراب. للتخلص من العبء الذي يحمله فعل العطاء، نقنع نفسنا بأننا مدينون للطرف الآخر بمبادرة مضادة ونظن أن الشكر لا يكفي لرد الجميل، لكننا بذلك نخلط بين الشكر والرضوخ أو بين العطاء والتسلط. في صلب هذه المشكلة، تكمن قوة حيوية نستعملها جميعاً لتقييم هويتنا والحفاظ على نقاط قوتنا.

• نحو التغيير: كل من لا يجيد شكر غيره يجد صعوبة في سماع كلمات الشكر من الآخرين. كي يصبح التبادل سليماً وسلساً، يجب أن نبدأ بتقبّل الامتنان الذي يبادلنا به الآخرون بدل أن نستعمل عبارات مبتذلة مثل {لا داعي للشكر} أو {لم أفعل ما يستحق الشكر}. لماذا لا نشكر الآخرين أو نوضح ما جعلنا نُسَرّ بالمبادرة التي قدموها؟ هكذا سندرك أن التبادل مصدر التوازن في العلاقات.

حين لا تشعر بالاكتفاء

لا يمكن أن نعبّر عن امتناننا إلا إذا تربّينا على ذلك منذ الطفولة. سواء كان ضعف الأهل حقيقياً أو وهمياً، سنشعر بنقص فوري في داخلنا إذا اعتبرنا أننا لم نحصل على ما نستحقه ولن يستطيع أحد سدّ ذلك الفراغ. أما الأشخاص الذين يحصلون على أكثر مما يحتاجون إليه، فهم يجدون صعوبة في التعبير عن امتنانهم لأن مبادرة الآخرين لا تشكّل أي إضافة لهم بل تكون سلوكاً طبيعياً بحسب رأيهم. نحو التغيير: إذا لم نكن نجيد شكر الناس أو شكر الذات أو حتى الحياة وواجهنا معاناة مريرة، يسمح العلاج النفسي بفهم الرواسب المتبقية من أيام الطفولة. إذا كان الانزعاج عابراً ويحصل أمام شخص معين، يجب أن نتساءل عن طبيعة العلاقة التي تجمعنا به ونوضح إسقاطاتنا: هل تزعجك هدية الشريك؟ ماذا لو كنت تنتظر في لاوعيك أن يلبي أعمق رغباتك الدفينة؟ هل تنحرج من مجاملة أحد زملاء العمل؟ ماذا لو كنت ترفض التواصل معه بسبب غضب مكبوت في داخلك؟ تقضي الخطوة الأولى بإدراك المشكلة لتعلم معنى الامتنان الحقيقي والواعي.

مد اليد للآخرين

يحمل التعبير عن الشكر معاني العطاء وردّ الجميل والمشاركة. لا تكون السعادة التي ندين بها للآخرين ملكاً لنا وحدنا، بل للجماعة التي تشاركنا هذا الشعور. تترافق مواقف الامتنان مع مدّ اليد للآخرين مقابل المساعدة أو الهدايا التي قدموها لنا. ثمة خطوة بين الامتنان البسيط تجاه الأشخاص الآخرين والامتنان كاعتراف بالجميل: للانتقال إلى المرحلة الثانية، يجب أن ندرك حاجتنا إلى بعضنا البعض كي نتابع العيش. تأتي نظرة الآخرين إلينا كي تؤكد وجودنا وأهميتنا. من دون {امتنان} الآخرين، سنفقد قيمتنا. قال أرسطو يوماً إن الإنسان الذي يعجز عن العيش وسط الجماعة أو يشعر بأنه لا يحتاج إلى غيره ويكتفي بنفسه يكون دخيلاً على مجتمعه. لإقناع نفسنا بأهمية الامتنان، يكفي أن نعيد استكشاف هذا الإحساس إذا لم نتلق أي مؤشر على امتنان الآخرين تجاهنا بعد إسداء خدمة لهم. ينتج نكران الجميل جرحاً عميقاً وكأن الطرف الآخر لا يتجاهل مساعدتنا فحسب بل ينفي شخصيتنا كلها.

في المقابل، يعني التعبير عن الامتنان الغوص في أعماق الإنسانية وتقبّل المرحلة الانتقالية بكل سعادة. مثلما يشكر المكرَّمون في حفلات توزيع الجوائز الجهات التي تكرّمهم، نستنتج حين نشعر بالامتنان الظروف الخارجة عن سيطرتنا: تأتي هذه الفكرة لاستبدال التواضع بالغرور. إنها فرصة جيدة لإدراك نقاط ضعفنا، ما يساعدنا على تقبّل نفسنا كما نحن. يكون الامتنان بطبيعته سلوكاً معادياً لأعمال البطولة ولا يتوقف على المهارات الشخصية أو القوة الذاتية أو التميز بل يرتكز على الميل إلى تقبّل الضعف وطلب المساعدة وتلقي الدعم بكل إيجابية.

عوائق أمام الامتنان

قد يمنعنا الخجل أو المشاغل من الإفصاح عن مشاعرنا الحقيقية، فننسى بذلك الأشخاص المهمين في حياتنا. هنا شهادات من أشخاص يريدون شكر أشخاص قدموا لهم خدمة ما ذات يوم.

منى (43 عاماً)

{لم أشكر صديقتي يوماً لأنها سمحت لي بإطلاق العنان لنفسي. لولاها، كنت لأعتبر الأنوثة عائقاً والكسل مشكلة. علّمتني أن أتصرف على سجيتي وأقوم بكل ما يريحني}.

هاني (45 عاماً)

{لم أجرؤ يوماً على شكر والديّ لأنهما اعتبراني منذ ولادتي كياناً مستقلاً. كنت طفلاً وحيداً ومحاطاً بالراشدين ولطالما وجدتُ صعوبة في التكيف مع هذه الاستقلالية المبكرة لكني أقدّر اليوم كل ما فعلاه من أجلي، فقد اكتسبتُ بفضلهما القدرة على التكيف والاستقلالية المادية وحرية التفكير وحب الوحدة}...

هدى (28 عاماً)

{كنت أريد أن أشكر والدي الذي توفي منذ ثلاث سنوات لأنه سمح لي بدراسة اللغات مع أنه كان يفضل أن أصبح محامية أو طبيبة. أشكره لأنه دفع تكاليف دراستي ووثق بي. لم يكن يحب الكلام ولم نكن معتادين على التعبير عن مشاعرنا. كنت أخشى أن أعبّر له عن أحاسيسي خوفاً من إحراجه. أظن أنه كان ليتأثر من دون أن يجيد التعبير عن عواطفه}.

حياة (35 عاماً)

{أعبّر عن حبي لزوجي مع أنني أريد أن أشكره لأنه حازم وصادق ومستقيم ولأنه يشجعني دوماً على التصالح مع نفسي. ربما لم أشكره يوماً بشكل صريح لأن الأسباب التي يستحق الشكر عليها هي تلك التي تزعجني}.

ناديا (31 عاماً)

{لم أشكر ابنتي يوماً مع أنني أدين لها بأهم ما في حياتي، فقد سمحت لي بخوض تجربة العطاء كل يوم}.

هالة (48 عاماً)

{أحب أن أشكر رب عملي القديم لأنني لم أتخيل يوماً أن يسرّحني بعد 20 سنة من العمل المتفاني! صحيح أنني كنت أشك في قدراتي، لكني توقعت أن أتابع العمل مع هذا الفريق لسنوات طويلة لأنني كنت أعتبره عائلتي الثانية. بعد شهرين، تلقيتُ عرضاً من شركة منافسة. وبعد مرور ثلاث سنوات، صرتُ أشارك في الاجتماعات وأدافع عن مشاريعي بكل حماسة. في شركتك، ما كنت لأكشف عن جميع مهاراتي}.

back to top