اقتصاد بوتين الذاتي التدمير

نشر في 21-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 21-01-2016 | 00:01
 فلاديسلاف لنوزمتسيف إن تقلص الاقتصاد الروسي عام 2016 بقدر عام 2015، فلا نكون قد شهدنا أزمة أخرى بل بداية مرحلة تراجع طويلة تشبه ما حدث في فنزويلا خلال النصف الثاني من العقد الماضي، وإن صح ذلك فلن تنتهي مرحلة الجمود بالانتعاش، بل بتهاوٍ سريع قد يدوم سنوات.

بعد مرور أكثر من سنة بقليل على "الثلاثاء الأسود"، حين فقد الروبل أكثر من ربع قيمته في يوم واحد، لا يزال وضع الاقتصاد الروسي غير مستقر، فخلال الأشهر الاثني عشر الماضية، تراجع الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 3.9%، أي أقل مما توقع محللون كثر قبل سنة، ونجحت الحكومة في خفض التضخم تحت نسبة الـ13%، لكن التوقعات الرسمية الباكرة، التي وعدت بالعودة إلى النمو بحلول الربع الثالث من عام 2015، لم تتحقق، نتيجة لذلك تبدو توقعات استئناف النمو في مرحلة لاحقة من هذه السنة غير منطقية.

يتفق اليوم وزير الاقتصاد الروسي والمؤسسات المالية الدولية على أن الاقتصاد لن ينمو عام 2016، حتى إن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي توقعا تراجعاً بنسبة 0.6% في شهر ديسمبر، في حين أعلنت السلطات الروسية قبل أسابيع أنها تتوقع انكماشاً بنسبة 0.8%، ورغم ذلك يجمع الخبراء على أن الاقتصاد سيستأنف توسعه عام 2017. وإن حدث ذلك بالفعل، فقد نقول إن كل هذه المسألة كانت مجرد عقبة اقتصادية عادية تعود إلى تراجع أسعار النفط والعقوبات الغربية.

ولكن ماذا إن لم يعاود الاقتصاد النمو؟

أقر بأن أداء الاقتصاد الروسي أسوأ بكثير مما كان عليه في عام 2009، فقد شهد الدخل الحقيقي القابل للتصرف تراجعاً كبيراً، أما الأجور الاسمية (المعاد احتسابها بالدولار وفق أسعار الصرف الحالية)، فأدنى مما كانت عليه عام 2005، كذلك انخفضت أسعار المبيع بالمفرق لتصل إلى معدلات أدنى مما شهدناه عام 2009 بمرتين، وتوازي إيرادات الموازنة الفدرالية (بالدولار أيضاً) ما كانت عليه عام 2006، على نحو مماثل تراجع متوسط ثمن شقة جديدة في موسكو بنحو 16% عما كان عليه عام 2014 بالروبل وبنحو النصف عما كان عليه بالدولار، كذلك عادت أجور المكاتب في موسكو وسانت بيترسبيرغ إلى مستويات عام 2002، وهكذا يعاني الاقتصاد الروسي تأثيرات تقلص عائدات النفط ونمو الضغوط البيروقراطية على حد سواء، هذا إذا لم نذكر سياسة البلد الخارجية الدائمة الريبة.

عندما نقيم الاقتصاد الروسي منذ مطلع الألفية الجديدة، يمكننا أن نميز مرحلتين واضحتين: تمتد الأولى من 2000 إلى 2007، حين نما الاقتصاد بنحو 7% سنوياً، ارتفع مؤشر بورصة موسكو، وازداد متوسط الدخل بأكثر من ثلاثة أضعاف، فانخفضت الضرائب وتعزز التعاون الدولي، وهكذا نهضت روسيا.

ولكن سرعان ما حلت المرحلة الثانية، التي يمكننا وصفها اليوم بحالة من الجمود، فبين عامَي 2008 و2015، قارب متوسط النمو السنوي الصفر، فازدادت هجرة رؤوس الأموال، وهُمش المستثمرون الأجانب، كذلك تراجع جو الأعمال العام، ورُفع الكثير من الضرائب واعتُمدت أخرى جديدة، أما الإنفاق العسكري فتضاعف مع إطلاق الرئيس بوتين عمليات عسكرية في جورجيا، وأوكرانيا، وسورية، ويبدو أنه حوّله اهتمامه بالكامل عن المسائل الاقتصادية إلى الإطار الجيو-سياسي.

تمتاز هذه المرحلة الثانية عموماً بأزمتين وعملية تعافٍ واحدة، ولكن من الأفضل وصفها بمرحلة طويلة لا نمو فيها، فكما أقر رئيس الوزراء دميتري ميدفيديف، لم تكن روسيا قد خرجت حقاً من الأزمة السابقة، عندما وجدت نفسها وسط أزمة جديدة، ومن هذا المنطلق، تبدو مرحلتا الجمود متكاملتين مع استمرار كل منهما من ثماني إلى تسع سنوات، ومع خضوع الاقتصاد الروسي اليوم للسياسة بالكامل، ومع خسارة السياسة طابعها الليبرالي تدريجياً، يبدو الأمل بالتعافي معدوماً، حتى لو رُفعت العقوبات وعادت أسعار النفط إلى معدلاتها الطبيعية.

سبق أن تخطت روسيا الأزمات، ولكن في عامَي 1998 و2008، لم يتخلَّ عدد كبير مماثل من الشركات عن استثماراته، فمع سياسة "مواجهة العقوبات" ضد الاتحاد الأوروبي، والتوتر مع تركيا، والادعاءات أن القانون الروسي الدائم التبدل يتخطى المعاهدات الدولية، حالت الحكومة دون توسع المستثمرين المحليين والدوليين، ففي السنة الماضية، أنهت أكثر من 20 شركة غربية، بما فيها Opel، Adobe Systems، وStockmann، أعمالها في روسيا، فضلاً عن أن 30 منشأة إنتاج يملكها أجانب أقفلت أبوابها، كذلك ارتفع صافي الهجرة من روسيا من 35 ألف شخص سنوياً بين عامَي 2008 و2010 إلى أكثر من 400 ألف عام 2015، وفق التقديرات الأولية، ولا أرى أي إشارات إلى تبدل هذه الميول.

إن كنت مصيباً، وإن تقلص الاقتصاد الروسي عام 2016 بقدر عام 2015، فلا نكون قد شهدنا أزمة أخرى بل بداية مرحلة تراجع طويلة تشبه ما حدث في فنزويلا خلال النصف الثاني من العقد الماضي، وإن صح ذلك فلن تنتهي مرحلة الجمود بالانتعاش، بل بتهاوٍ سريع قد يدوم سنوات، حتى أواخر ولاية بوتين الرابعة (أو الخامسة، حسبما تحتسبها) في مطلع عام 2018.

ويعود سبب ذلك الرئيس إلى أن روسيا في تسعينيات القرن الماضي ومطلع العقد السابق، كانت بلد أمل، وإن بدت مليئة بالفوضى، وقد انجذب المستثمرون إلى هذا التفاعل وتحسن الأحوال المحلية، لكن الوضع تبدل بعد عام 2012، وها قد تحولت اليوم إلى أرض الأوهام!

مع انقضاء عام 2016، أنصح كل مَن يتتبعون الأداء الاقتصادي الروسي بالتقدم بحذر، فإن لم يُستأنف النمو، يعني ذلك أن البلد دخل مرحلة من التدمير الذاتي الاقتصادي قد تسم حقبة ثالثة من حكم بوتين.

*«واشنطن بوست»

back to top