أمبرتو إيكو... الوردة فقدت شذاها

نشر في 21-02-2016 | 00:00
آخر تحديث 21-02-2016 | 00:00
لفظ أنفاسه الأخيرة وقد أعياه المرض العضال عن عمر ناهز الرابعة والثمانين. رحل في منزله الهادئ بميلانو في شمال إيطاليا محاطاً بأفراد العائلة ولكنه قبل أن يغمض جفنيه اطمأنّ الى أن اسمه باقٍ في أرجاء الكون بذرية له زرعها كتباً وأعمالاً أدبية حصدت له سمعة واسعة. رحل أمبرتو إيكو آخر السيمائيين والروائيين المعاصرين، وقد نعاه الأدباء والمفكرون الإيطاليون والعالميون، وقال فيه رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتسي: {كان نموذجاً استثنائياً للمثقفين الأوروبيين، فجمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة لا تنضب على التنبؤ بالمستقبل. سيفتقده عالم الأدب والكتابة. سنفتقد كتاباته وصوته وفكره النيّر وإنسانيّته}.

بين عامي 1992 و1993، كان أمبرتو إيكو أستاذاً في السيميائيات في هارفرد وفي جامعة بولونيا. أشار ذات يوم إلى أن كتابة الروايات ليست إلا هواية يمارسها في أوقات فراغه، مؤكداً بنبرةٍ واثقة: «أنا فيلسوف. أمّا الروايات فلا أكتبها إلا في نهاية الأسبوع».

أبصر إيكو النور في 5 يناير 1932 بمدينة أليساندرا الإيطالية حيث ترعرع وسط عائلة ميسورة مكوّنة من والده المحاسب ووالدته وثلاثة عشر ابناً آخرين. أراد له والده أن يكون محامياً، ولكن الفتى لم يكن مفتوناً بعالم القانون بل اختار دراسة الفلسفة في جامعة تورينو بشمال إيطاليا حيث تخصّص في فلسفة القرون الوسطى وآدابها وخصّص أطروحته لموضوع «مشكلة الجماليات لدى القديس والفيلسوف اللاهوتي الإيطالي توما الأكويني، وحاز الدكتوراه عام 1954. في تلك الفترة بالذات، أدار ظهره للكنيسة الكاثوليكية، وما لبث أن امتهن تدريس الفلسفة في جامعة تورينو بالإضافة إلى عمله كمحرّر للشؤون الثقافية في الإذاعة الفرنسية وتلفزيون الـ RAI، فضلاً عن عمله في دار نشر {بومبياني} حتى عام 1975،  وكان قد قرّر وقف تعاونه معها بعد شرائها من مجموعة {موندادوري} لعائلة رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلوسكوني، فانضم إلى دار نشر جديدة مستقلة تحمل اسم {لا نافي دي تيزيو}.

بدايات وأعمال

لم يذق إيكو طعم الشهرة قبل عامه الخمسين. {تأخرت في تأليف أولى رواياتي، يقول {لأنني كنت أعتبر كتابة الروايات لعبة أطفال. لم أكن آخذها على محمل الجد}.

كانت له مؤلفات نظرية في فلسفة اللغة والتأويل والدلالة، وكان مُنظراً رفيع المستوى لبنية النص الأدبي ورموزه ولكنه لم يحصد اعترافاً لمجهوده الفكري إلا بعد إطلاقه روايته الأولى {اسم الوردة} عام 1980 التي جاءت في قالب أدبي متكامل مكرسة إياه كأهمّ روائي في العالم المعاصر.

تحكي الرواية قصة الراهب {ويليم} الذي يلتحق بديرٍ من القرن الرابع عشر يشهد سلسلة من الجرائم البشعة تستهدف قسساً فيه. يلاحق الراهب بفكره التحليلي إشارات تدلّه على القاتل الكائن في أروقة الدير بعيداً عن التحليلات غير المنطقية التي تستذكر {الأرواح الشريرة} وتلبسها ثوب الإجرام. وفي الرواية حوارات فكرية للراهب مع زملائه القسس حول المذاهب والأفكار الدينية السائدة آنذاك. نال الكتاب نجاحاً منقطع النظير لبراعة الحبكة فيه، ولقدرة إيكو الاستثنائية في نقل أجواء الخوف والرعب والتشويق في قالب أدبي، ولتمكنه من رسم شخصية الراهب بخصائص تذكر بالمحقق {شيرلوك هولمز الشهير}. بيعت ملايين النسخ من الكتاب حول العالم وترجمت الرواية إلى 43 لغة.

وتكرَّس النجاح العالمي الكبير هذا مع اقتباسها عام 1986 في فيلم سينمائي من إخراج الفرنسي جان جاك أنو، مع شون كونري بدور الراهب {ويليم}.  

قدم إيكو روايته الثانية بعد ثمانية سنوات، أي عام 1988، وحملت عنوان «رقاص فوكو» ولم تقل تشويقاً عن الرواية الأولى. أبطال القصة ثلاثة أشخاص يبحثون عن خريطة فكرية تسمح بفهم أحداث التاريخ ودور الإنسان فيه. ينتقل الأبطال من زمن إلى آخر، من أوروبا القرون الوسطى إلى الحروب الصليبية في الشرق، مروراً بأميركا اللاتينية حيث ديانات متأصلة مجهولة.

روايته الثالثة بعنوان «جزيرة اليوم السابق» صدرت عام 1994، ويعود فيها 400 سنة إلى وراء مستعرضاً حرب الإمبراطوريات طمعاً في الاستيلاء على خريطة خطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضية والتي تسمح لممتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة، من ثم بسط سيطرته على الأرض.

وكرت السبحة معه بتقديمه كتاباً نقدياً عن التأليف الروائي بعنوان «ست نزهات في غابة السرد». وانتظر حتى مطلع الألفية الجديدة ليقدم روايته الرابعة «باودولينو» البطل الشبيه بـ»دون كيخوت» بين أزمنة مختلفة، وأماكن متنوعة، واقعية وخيالية وأسطورية، عاش خلالها لحظات سقوط القسطنطينية، وحارب جماعة «الحشاشين»، والتقى بمثقفي باريس، وبفيلسوفة الاسكندرية المتنورة هيباتا، كذلك سافر إلى الفردوس المفقود بحثاً عن حقيقة الأسطورة اليهودية. وفي روايته «مقبرة براغ» الصادرة عام 2010، يكشف إيكو النقاب عن بعض الحقائق التاريخية التي يتم التكتم عليها أو إخفاؤها، وذلك عبر ابتكار شخصية متخيلة تسرد تفاصيل مثيرة تمزج بين الحقيقة والخيال، وتظهر وجود مخطط عالمي لإبقاء العالم مستنقعاً لترويج الضغائن والأحقاد حيث تسعى سلطة الخفافيش إلى تسييد العتمة والشرور. أما آخر رواياته فصدر عام 2015 بعنوان «العدد صفر»، وينتقد فيها نظرية المؤامرة، وبطلها الصحافي براغادوتشيو الذي يحقق في مقتل موسوليني.

براعة سردية

كان إيكو بارعاً في أسلوبه السردي وفي حياكة تفاصيل القصة، ويولي أهمية للأسلوب أكثر من اللغة. في أحد حواراته الصحفية، يؤكد أنّه حين يريد الكتابة يبتكر عالماً متكاملاً و "تتدفّق الكلمات تلقائياً». ويقول مستفيضاً حول أهمية الأسلوب: «بالنسبة إليّ، أهم ما في الكتابة أن أشيد عالَمًا متكاملاً – سواء كان ديراً في القرن الرابع عشر برهبان مسمومين، أو شاباً يعزف «الترومبيت» في المقبرة، أو رجلاً مخادعاً في زمن سقوط القسطنطينية. أبني عالماً دقيقاً محدداً وواضح المعالم، كأن أقرّر عدد درجات السلم الحلزوني في الدير. بعد ذلك، أصيغ كلماتي من التفاصيل التي جمعتها. نخطئ حين نعتقد بأنّ للأسلوب الأدبي علاقة بصياغة اللغة من مفردات ومترادفات في عبارة أو جملة فحسب.

ثمة أيضاً الأسلوب السردي، الذي يتحكَّم في كيفية بناء مقاطع كبيرة بطريقة معينة لابتكار موقفٍ. خذوا «الفلاش باك» على سبيل المثال، هو أحد عناصر بناء الأسلوب، لكن لا علاقة له باللغة. الأسلوب أكثر تعقيداً من أن يختصر بمجرّد كتابة. بالنسبة إليّ، الأسلوب أشبه بوظيفة المونتاج في الأفلام».

لم يكن المثقف اليساري إيكو كاتباً منغلقاً على ذاته في برجه العاجي، فالأديب هذا الذي أجاد عزف مزمار «الكلارينيت» كان يكتب دورياً في مجلة «ليسبريسو» الإيطالية، ورغم تكيفه السهل مع العالم المعاصر واستخدامه التكنولوجيا من حاسوب وشبكات عنكبوتية، لم يحل ذلك دون انتقاده ما آلت إليه الأمور في هذا الزمن التكنولوجي، فقد كان لسانه لاذعاً مع ما سمحت به التكنولوجيا من شذوذ، إذ كان إيكو مؤمناً بمؤامرات الشبكات العنكبوتية ووسائل التواصل وبأثرها البلغ في حياة الناس.

 وفي تصريحات أدلى بها لصحيفة «إيل ميساجيرو» الإيطالية يؤكد نظريته قائلاً:

«منحت مواقع التواصل الاجتماعي حق التعبير لجحافل من الأغبياء ما كانوا يتحدثون سابقاً إلا في الحانات من دون إلحاق أيّ ضرر بالمجتمع.

كان هؤلاء يرغمون على الصمت فوراً بينما اليوم لهم حق التعبير عينه كأي شخص حاز جائزة نوبل. إنه غزو الأغبياء!}.

من أقواله

   -  ليس على القاص أو الشاعر مطلقاً أن يقدم أية تفسيرات لعمله فالنص بمنزلة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير. وعندما يكون ثمة تساؤل بخصوص نص ما فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف.

 

 - السيمياء كالعاهرة التقية، لها كثير من العشاق ولكنّها تحبط الجميع ولا تمنح عطفها لأحد، فهي تحوّل المغرورين إلى مخبولين والأغنياء إلى بؤساء والفلاسفة إلى أغبياء والمخدوعين إلى مخادعين.

-  لإنقاذ النص، على القارئ أن يتخيل أنّ كل سطر يخفي دلالة خفية. فعوض أن تقول الكلمات فإنها تخفي ما لا تقول. يكمن مجد القارئ في اكتشاف أن بإمكان النصوص قول كلّ شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه. في اللحظة التي نكتشف فيها دلالة- ليست بالضرورة تلك الجيدة- تأتي الدلالة الجيدة بعدها. الأغبياء وحدهم من ينهون التأويل قائلين: {لقد فهمنا}. القارئ الحقيقي يفهم أنّ سر النص يكمن في عدمه.

{كلّ الناس يأملون في الاستمرارية وأنا منهم!}

اختارت «الجريدة» مقتطفات من حوار أجرته مع أمبرتو إيكو الكاتبة يلا أزام زانغانيه، وهي من أصل إيراني نشأت ودرست في باريس، وتسكن وتعمل راهناً في نيويورك. وقد اخترنا إعادة نشر مقتطفات من الحوار هذا لأنه يختصر روح الأديب ويعطي فكرة واضحة عن شخصه وأفكاره وطقوسه الأدبية.

هل تكتب بشكل منهجي محدّد؟

كلا، على الإطلاق. ربما تأخذني فكرة إلى أخرى، أو يفضي بي كتاب أقرأه إلى آخر. ويحدث في أوقات كثيرة، أن أجدني أقرأ في وثيقة عديمة الفائدة، فأجد فجأة فكرةً أبحث عنها تدفع أحداث قصّتي إلى أمام. أو بإمكاني القول بأنني أضع صندوقاً صغيراً في بطن صغيرٍ في مجموعة صناديق تحوي بعضها البعض.

إلى أي مدى تجتهد في الكتابة لتحصل على النبرة الصحيحة في سرد قصصك؟

أعيد كتابة الصفحة نفسها أكثر من مرة، وأقرأ أحياناً مقاطع منها بصوتٍ عالٍ.

هل أنت مثل غوستاف فلوبير، أيّ تتعذّب حتى تجد جملة واحدةً جيدة؟

كلا، لا يعذبني ذلك، لأنني أعيد صياغة الجملة نفسها مرات عدّة. لكن بفضل الحاسوب تغيرت طريقتي بالكتابة. حين كتبتُ رواية {اسم الوردة} بخط يدي، وطبعتها السكرتيرة لاحقاً بالآلة الطابعة، كان الأمر صعباً، لإعادة صياغة جملة عشرات المرات ونسخها مجدداً. مع الحاسوب تغّيرت الأمور.

في أي وقتٍ من اليوم تكتب؟

ما من قاعدة. بالنسبة إليّ، مستحيل أن ألتزم بجدولٍ معين. يحدث أحياناً أن أبدأ الكتابة في السابعة صباحاً وأنتهي عند الثالثة بعد منتصف الليل. أتوقف لتناول شطيرة فحسب. حتى إنني لا أشعر أحياناً بالرغبة في الكتابة أبداً.

كم من الصفحات تنجز يومياً؟

لا قاعدة. لا تعني الكتابة بالضرورة أن نضع كلمات على الورق. لو كان الأمر كذلك لاستطعنا الكتابة أثناء المشي أو الأكل. لو كنتُ في منزلي الريفي فوق تلال مونتفيلترو، يكون لدي روتين كتابة معين: أفتح الحاسوب، أتفقد بريدي الإلكتروني، أقرأ بعض الرسائل، ثم أكتب إلى ما بعد الظهيرة. في ما بعد، أتجه إلى القرية، حيث أذهب الى حانة وأقرأ الصحيفة. بعد ذلك أعود الى المنزل وأشاهد بعض البرامج المتلفزة، ثم أشاهد فيلماً مساءً حتى الحادية عشرة ليلاً، ثم أواصل الكتابة حتى الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل. ولكن حين أكون في ميلانو، أو الجامعة، لا يكون وقتي ملكي فثمة دوماً شخص آخر يقرر ما عليّ القيام به.

غزارة وانتقادات

ما سرّ الإنتاج الغزير في كتاباتك؟

لأنني أستغل فترات الفراغ القصيرة. ثمة كثير من الفراغ بين الذرّة والأخرى، وبين الإلكترون والآخر، لو استطعنا أن نقلّص مادة الكون بإلغاء الفراغات كافة التي تفصل بين الأجرام، لبدا الكون كلّه في حجم كرة. حياتنا أيضاً مليئة بتلك الفراغات. حين أعوم في المسبح تأتيني أفكار كثيرة، خصوصاً حين أعوم في البحر، بينما لا تأتيني أفكار كثيرة في مغطس الحمّام مثلاً لضيق المساحة.

كيف تستمتع بيومك؟

بقراءة الروايات ليلاً. وقد أتساءل أحياناً بيني وبين نفسي إن كانت قراءتي الروايات نهاراً خطيئة؟ النهار عادة لكتابة المقالات والأعمال الشاقة الأخرى.

ماذا عن مُتعكَ المحرّمة؟

لن أعترف! كان التدخين إحدى مُتَعي إلى أن امتنعت عنه قبل فترة. كنت أدخّن ستين سيجارة باليوم تقريباً. وكنت أدخن الغليون سابقاً. كانت متعتي بنفث الدخان أثناء الكتابة.

ينتقدُكَ البعض باستعراض عضلاتك المعرفية في أعمالك.

هل أنا شخص ساديّ؟ لا أعلم. استعراضي؟ ربما. إنني أمزح. بالطبع لستُ كذلك! لا أقوم بهذا الجهد كله من الكتابة لأفرض معرفتي على القارئ!

هل غيّر نجاحك الباهر كأديب نظرتك إلى دور القارئ؟

بعدما أمضيت فترة طويلة في الحقل الأكاديمي، بدت كتابة الرواية ككتابة النقد المسرحي حيث تجد نفسك فجأة واقفاً تحت الأضواء، يحدّق بك زملاؤك السابقون- النقاد. كان الأمر مربكاً في البداية.

بعدما أصبحت من أصحاب الروايات الأكثر مبيعاً هل تأثرت صورتك كمفكّر جدّي؟

منذ أصدرت رواياتي تسلمتُ 35 شهادة فخرية من مختلف الجامعات حول العالم. الإجابة هي: كلاّ. كان أكاديميون كثيرون مهتمين بالعلاقة بين جانبَيْ السرد الأدبي والأكاديمي لديّ. وكانوا عادةً يجدون رابطاً بينهما، روابط لم أتخيّل حتى أنا أنها موجودة. ما زلت أعيش كبروفيسور يكتب الرواية خلال إجازة نهاية الأسبوع، وليس كمؤلف يدرّس في الجامعة. أحضِر المؤتمرات العلمية أكثر مما أحضر المؤتمرات التي تعقدها حركة المؤلفين والنقاد الأدبية. يمكنني الجزم هنا: ربما وظيفتي الأكاديمية هي التي زعزعت صورتي عن ذاتي كمؤلّف مشهور.

أذاقتك الكنيسة الكاثوليكية المُرّ. اتهمت صحيفة الفاتيكان الرسمية روايتك {بندول فوكو} بأنها {مليئة بالبذاءة، والتجديف، والحماقات}.

الغريب أنني استلمت منذ مدّة شهادات فخرية من كنيستين كاثوليكتيين: لوفين ولويولا.

لماذا تكتب كثيراً عن الدين؟

لأني أؤمن بالأديان. فالإنسان حيوان يتوق إلى الدين، وخصلة كهذه في سلوك الإنسان لا يُمكن تجاهلها أو استبعادها.

ترجمت أعمالاً كثيرة.

ترجمتُ عملين بنفسي، وتُرجمت رواياتي إلى لغاتٍ عدّة. الترجمة أحد أنواع التفاوض. لو أردت أن تبيعني شيئاً فإننا سنتفاوض- ستخسر شيئاً وسأخسر شيئاً أنا الآخر. لكن في نهاية الأمر، كِلانا سيخرج بنتيجة مُرضية نوعاً ما. في الترجمة، لا يتعلّق الأسلوب بثراء مفردات المترجم اللغوية، إذ بإمكانك الاستعانة بمواقع الترجمة لتلك المهمة، لكن الأمر يتعلّق بالإيقاع. كما مع الترجمات العظيمة كافة، عليك الغوص في أعماق عالم الكاتب واستحضار نفسه وإيقاعه الدقيق.

هل لديك الوقت لقراءة روايات المؤلفين المعاصرين لك؟

ليس كثيراً. منذ أصبحت روائياً بتُّ متحيزاً. فإما أجدني مع رواية جديدة وأظنها أسوأ من روايتي، فأكرهها. أو أجدني مع رواية أتوجّس أنها أفضل من رواياتي، فأكرهها أيضاً.

من الذين ألهموا إيكو؟

الإجابة عن سؤال كهذا تكون عادةً: جويس وبورخيس كي أُبقِي الصحافيين صامتين. لكن جويس وبورخيس ليسا من تأثرت بهما فحسب، فثمة أسماء كثيرة أخرى. فقد تأثرت بأرسطو، توما الأكويني، جون لوك، والقائمة لا تنتهي.

ما الكتب التي تفضّل اقتناءها؟

لديّ نحو خمسين ألف كتاب. لكن كجامع للكتب النادرة، أنا مهتم بنزعة تطوّر الفكر الإنسانيّ. أجمع كتباً حول مواضيع لا أؤمن بها، مثل الكابالا (فلسفة دينية سرية عند أحبار اليهود والنصارى في العصر الوسيط أو مذاهب صوفية)، وحول موضوع الخيمياء، والسحر، واللغات المبتكرة، والكتب التي تكذب بشكل ساذج. لديّ كتب بطليموس، ولكن ليس غاليليو لأن الأخير اعتاد قول الحقيقة. أفضّل العلماء المجانين.

بين النتاج الأدبي والدراسة الأكاديمية

ثمة من أعلن موت الرواية وموت القراءة، ما رأيك؟

الإيمان بنهاية شيء ما نموذج ثقافي مكرّر. منذ الإغريق والرومان، كنا نؤمن وبإصرار بأنّ أسلافنا أفضل منا. طالما أدهشتني لعبة وسائل الإعلام تلك والتي لا تنفك تزداد شراسةً. ففي كلّ موسم نجد مقالاً يتحدث عن نهاية الرواية أو نهاية النثر أو نهاية الأدب الأميركي. أو أنّ الناس ما عادوا يقرأون وأنّ المراهقين لا يهتمون إلا بألعاب الفيديو! أما الحقيقة فهي أنك أينما تذهب في العالم تجد آلاف المكتبات المليئة بالكتب والممتلئة بالفئات العمرية الشابة. لم يحدث قطّ في تاريخ البشرية أن توافر هذا الكم الهائل من الكتب، بهذا المعدل المرتفع من بيع الكتب، وبهذا الكم من الفئات العمرية الشابة التي تذهب الى المكتبات وتشتري الكتب.

قلت سابقاً إنك تريد أن يتذكرك الناس كأكاديمي أكثر من روائي. هل تعني ذلك حقًا؟

لا أذكر أني قلت شيئاً مماثلاً. لعل أحدهم حرّف كلامي ليتناسب مع سؤاله. لكن علّمتني التجربة بأنّ الأعمال الأكاديمية لا تبقى لفترة طويلة. ففي كلّ دقيقة نظرية جديدة تنقض سابقتها. نجت أعمال أرسطو عبر الزمان ولم تُطمس، لكنّ كثيراً من النصوص الأكاديمية منذ قرن مضى لم تعد تُطبع مجدداً، بينما يعاد إصدار كثير من الروايات بشكل دائم. لذا علمياً تكون نسبة أن يُخلّد عملك كأديب أعلى بكثير من نسبة أن يُخلّد عملك كأكاديمي. مع بعض الاستثناءات طبعاً.

ما أهمية أن تُخلّد أعمالك بالنسبة إليك؟

 

لا أعتقد أن أحداً يكتب لنفسه. الكتابة مثل الحب. نكتب لأنّنا نريد أن نعطي شيئاً للآخرين. أن نتواصل مع الآخر. وأن نشارك الآخرين بمشاعرنا. ومسألة تخليد عمل ما تؤرق كلّ كاتب، وليس الأدباء والشعراء فحسب. حتى الفيلسوف يكتب محاولاً أن يقنع أكبر قدر من الناس بنظريته، ويعزوه الأمل بأن الناس ستقرأ له في الثلاثة آلاف سنة المقبلة. الأمر يشبه بأن يخلفك أبناؤك، أو حفيد يخلف أبناءك. يأمل الكل بالاستمرارية، وأنا منهم. حين يقول لك أحد الكتّاب بأنه لا يكترث بمصير كتبه تأكّد أنه يكذب ببساطة.

هل أنت نادم على شيء؟

نادم على كل شيء، لأني ارتكبت الكثير، الكثير من الأخطاء في اتجاهات الحياة كلّها. لكن لو قدّر لي أن أعيد حياتي مجدداً، فبصراحة سأكرر الأخطاء التي ارتكبتها كلّها. وأنا جديّ في هذا الأمر. أمضيت عمري أحلل سلوكي وأفكاري وأضع نفسي أمام المساءلة. إنني قاسٍ في ما يتعلّق بمحاسبة نفسي، ولن أخبركم ما هو أسوأ انتقاداتي لنفسي، حتى لو عرضتم عليّ مليون دولار.

هل من كتاب لم تكتبه بعد وتمنيتَ أن تكتبه؟

كتاب واحد. منذ صغري وحتى الخمسين من عمري، كنت أحلم أن أكتب كتاباً عن نظرية الكوميديا. لماذا؟ لأن الكتب كافة عن هذا الموضوع كانت مخيبة.

back to top