الأديب السوداني أمير تاج السر: تعدد الأقنعة سر نجاح الكاتب

نشر في 18-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 18-03-2016 | 00:01
No Image Caption
يكتب الأديب السوداني أمير تاج السر بلا تخطيط. لا يطلق الأحكام السابقة على شخصياته الروائية، ولا يعطي عظات، كما يقول لـ «الجريدة»، لأنه يراقب الدنيا بصمت ربما بحثاً عن أفكار، أو يدع الأفكار تبحث عنه.

بدأ حياته الإبداعية كشاعر وكان يمكن أن يستمر كاتباً للشعر لولا أن انتبه إلى تكاثر المادة الحكائية داخل قصيدته، من ثم غادر مقاعد الشعراء باكراً ليبدأ رحلته في كتابة الروايات فجاءت روائعه، وأبرزها: «مهر الصياح»، و{زحف النمل»، و{توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي»، و{صائد اليرقات» و{366}.

في الحوار التالي، يتحدّث أمير تاج السر عن أعماله، ومحفزات الإبداع لديه، وعن رؤيته ككاتب في المشهد الثقافي العربي كجزء لا يتجزأ عن الواقع السياسي اليوم.

ما الدور الذي تضعه أمامك أثناء الكتابة، وهل يمكن ارتداء أقنعة خلالها؟

أكتب بلا تخطيط إطلاقاً، وحين تأتيني الفكرة، والبداية الجيدة أنطلق في كتابة النص، ويتضمّن داخله لا شعورياً ما كنت أختزنه من فرح أو هم، جدية أو دعابة، وبتلك الطريقة كتبت نصوصاً في منتهى الصرامة مثل «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، ونصوصاً فيها بعض المرح مثل «قلم زينب» و»صائد اليرقات».

بالنسبة إلى الأقنعة، نعم ولولا أن ثمة أقنعة يمكن ارتداؤها لما كتبت الشخصيات بأبعادها الجسدية والنفسية. أتحدث أحياناً بقناع السطوة، وبقناع التهميش أحياناً أخرى، وربما كتبت بصوت أنثوي قصة مثل «وطن النار» التي أعمل عليها. وفي نصي «زحف النمل» كان لا بد من أن أصبح مغنياً مهزوماً، ومتبرعاً بالكلى للمغني المهزوم، في الوقت نفسه. هكذا تجدين الرواية، ليست مجرد ثقافة، وموهبة، إنما هي عمل دؤوب أيضاً.

«صائد اليرقات» عنوان خادع لكثير من القراء لاقترانه بالتفكير في أطوار نمو الفراشة... ماذا يمثل لك العنوان الروائي؟ وهل هو عتبة موجهة لعملية القراءة؟

كان «صائد اليرقات» نصاً مناسباً في مرحلة ما. هي رواية عن الأزمات الاجتماعية، وطريقة تعقيدها أكثر. في ما يختص بالعناوين، فهي أيضاً أمر خارج دائرة تفكيري أو اهتمامي قبل كتابة أي نص وخلالها، وآلية اختيار العنوان تتم عندي بعد أن أكمل الكتابة وأقرأ النص، لأعثر على عنوان يلوح لي من داخل الرواية. هذا ما حدث في معظم الروايات، فيما وقفت مرات قليلة جداً عاجزاً إزاء محاولات تسمية نص.

نعم، العنوان عتبة رئيسة من عتبات القراءة، وغلاف الرواية عتبة أيضاً، وأزعم أن نجاح روايات عدة يأتي من اسم طابق المحتوى، وأعتقد أن «صائد اليرقات» و{العطر الفرنسي» و{إيبولا»، عناوين تناسب أحداثها تماماً. وأكثر ما يغضبني كقارئ أن أشتري رواية ذات عنوان براق ولا أعثر عليه داخل القصة، أعتبره نوعاً من الغش، حتى لو لم يقصد الكاتب ذلك.

«توترات القبطي»، و{مهر الصياح»... لا يمكنني القول بأنهما تنضويان ببساطة تحت مظلة توظيف التراث بقدر ما هو بناء لعالم روائي فانتازي، هل هما كذلك؟

نعم أتفق معك أن العملين يدخلان من ضمن كتابة الفانتازيا، عن أزمنة تاريخية معينة. هنا الفانتازيا ليست مفرغة تماماً من واقع ربما حدث، هي أحداث تجري في زمن قديم، درسته جيداً، من الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، حتى السياسية، قبل أن أكتب. وحقيقة، أنا مغرم بدراسة تراث بلدي وأساطيره وأستمع كثيراً إلى الحكي الشفاهي في كل فرصة أزور فيها السودان، وأوظف غالباً شيئاً من ذلك في نصوصي، مثل «توترات القبطي»، و{مهر الصياح»، و{إيبولا»، و{رعشات الجنوب»، هناك تجدين الميثولوجيا الشعبية واضحة، وأعتقد أن هذه الكتابة بقدر ما فيها من تعقيد، إرهاق للكاتب وربما القارئ أيضاً، إلا أنها كتابة مهمة، وفيها يختبر الكاتب نفسه على عكس الروايات المعاصرة التي لا يُبذل فيها مجهود مثل ذلك.

يرى البعض أن روايتك «توترات القبطي» أكمل فنياً من محاولة يوسف زيدان في «عزازيل»، فقد وقع الأخير في فخ الانبهار بتوثيق الأحداث ومعلومات عن الناس والأماكن، بينما يعتمد الراوي الملحمي لديك على مادة الحياة الإنسانية. ما تعليقك؟

حقيقة لم أسمع بهذه المقارنة سابقاً، وأعتقد أن طريقة الكتابة مختلفة في النصين، فـ{عزازيل» كتبت بطريقة معينة وأنا كتبت بطريقة أخرى، وكل منّا بيّن وجهة نظره ووجهة نظر شخوصه. عموماً، «عزازيل» رواية مهمة في الكتابة العربية. بالنسبة إلي، كنت أخترع أحداثاً وأنسبها إلى فترة زمنية محددة، أتخيل كل شيء، وهذا ما أسميه تخيل التاريخ، بينما يوسف ربما استند إلى تاريخ حقيقي. وحقيقة، أحب التخيل أكثر من كتابة الواقع أو التاريخ الحقيقي لأنه لا يقيدني كثيراً في ما أريد قوله.

يقع معظم الانتقادات الموجهة إلى الشخصيات في رواياتك أنها تقاوم دائماً تحت ظروف تسحقها وترهنها للمجهول، إن صح التعبير، بطريقة واحدة وهي الدهاء والانتهازية... إلى أى مدى ترى صحة تلك الانتقادات؟

أبطال رواياتي في النهاية شخصيات لها حركاتها المحددة داخل النصوص، لها حيواتها وعالمها، فيها الانتهازي والمجرم، والطيب وأي نوع من الشخصيات. إنها مجتمع النص المشابه للمجتمع الواقعي، فلا آتي بشيء كثير في سلوك الشخصيات وإنما أستلف السلوك الموجود في المجتمعات.

شعر وخلطة سحرية

إلى أي مدى كان لخلفيتك الشعرية تأثير على طريقة الكتابة الروائية لديك؟

بدأت شاعراً كما هو معروف، وتدرجت في الشعر إلى مرحلة جيدة، وكان يمكنني أن أستمر قارئاً وكاتباً للشعر لولا أن انتبهت ونبهني آخرون إلى تكاثر المادة الحكائية داخل قصيدتي، ثم غادرت مقاعد الشعراء باكراً جداً وبدأت أعمل على الرواية. ولأنني اكتسبت ثقافة كبيرة خاصة بالشعر، كتبت نصوصي الأولى مثل «كرمكول» و{سماء بلون الياقوت»، و{نار الزغاريد»، وأنا لا أزال مدثراً بعباءة الشعر، التي تخلصت منها تدريجياً بعد ذلك، وهذا الأمر ليس ضرورياً للروائيين كلهم بالتأكيد، فثمة من يؤمن بضرورة انفصال السرد تماماً عن لغة الشعر، وثمة شعراء يكتبون القصيدة بلغة، والرواية بلغة أخرى. أعتقد ربما كنت أكثر من غيري تأثراً بالشعر.

من وجهة نظرك، هل نجحت في جعل القارئ لا يصاب بالملل، وما هي خلطتك السحرية لإصابة قارئيك بمتعة الدهشة؟

في نصوصي كافة، أحاول نثر توابل جاذبة للقارئ، لكنك لن تعرفي أبداً ما الذي يحبه الأخير وما الذي لا يحبه، ماذا يبقيه مشدوداً للقراءة، وماذا يبعده. هذا الأمر بالطبع ناتج من تباين الأذواق في قراءة النصوص. صنعت لي أسلوباً خاصاً أكتب به، وهذا يعجب البعض وينفر البعض الآخر. لكني لا أكترث كثيراً وما زلت مستمراً في مشروعي، ولدي من يسانده بشدة في كل مكان. إلا أنني أعتقد أن لدي روايات كانت بلا حظ من ناحية القراءة، مثل «توترات القبطي» التي لم تقرأ جيداً حتى الآن، وستصدر منها طبعة جديدة إحيائية قريباً عن دار روايات في الشارقة.

الغربة... والمشهد العربي

عن الغربة داخل الوطن وخارجه، ومدى استيعابه لهذه المفردات في أعماله قال: أختزلها كلها في منظومة الحنين، فباستخدامه، خصوصاً في الغربة الخارجية، يأتي الشجن الكتابي. كل ما يُكتب بأسى وشبه دموع ناتج من منظومة الحنين، ومن المؤسف أن الحنين دائماً صادم، حين نعود إلى أوطاننا نفاجأ بها أخرى، غير التي رصفها الحنين.

وبسؤاله عن الأدب السوداني الذي ظل لسنوات طويلة حبيس مكانة محدودة. هل تحرّر اليوم وأخذ وأخذ مكانته بين الثقافات العربية الأخرى؟ أجاب: نعم، الأدب السوداني الآن مطروح في الساحتين العربية والعالمية، جنباً إلى جنب مع الآداب العربية الأخرى، ففي هذا الزمن التقني، لم يعد ثمة شيء خافياً على أحد. كل شيء يكتب داخلياً وخارجياً يقرأ في مكان ما، وتشارك دور النشر المحلية، في المعارض العربية بانتظام.

وعن تقييمه لسيطرة الرواية على اتجاهات كثير من الكتاب على الساحة الأدبية قال: إلى درجة كبيرة أجد الرواية هي المسيطرة، ولطالما نوهت بأننا الآن ننهك الرواية، ونمرضها بكثرة كتابات تكتب تحت مسماها من كثيرين. لكن في النهاية، ثمة أعمال تموت وأعمال ترسخ في الأذهان.

وعن تقييمه للمشهد العربي الراهن وكيفية الحفاظ على الهوية الثقافية قال: أصبح الواقع السياسي والاقتصادي العربي الآن شديد التشابه في دول كثيرة، لدرجة أن الهوية التي تمنح السارد خامات سرده تكاد تكون واحدة. المجتمع بحاجة إلى كاتب سردي بقدر حاجته إلى تاجر يبيع الخبز، وما حدث في أي مكان يظل رسمياً في كتب التاريخ، إلا لو تمت صياغته إبداعياً. ورأيي أن الهوية الثقافية الراهنة بكل ما فيها من تعب ويأس، يتم توثيقها جيداً. نحن نكتب مجتمعاتنا بالطريقة نفسها التي تكتبنا بها هي، ويطمح السرد دائماً إلى سكون مرآة جيدة.

back to top