علمانية الشيخ مبارك وديمقراطية الشيخ عبدالله السالم

نشر في 04-04-2016
آخر تحديث 04-04-2016 | 00:01
 خليل علي حيدر قد تكون الصورة التاريخية المعروفة في المصادر وفي الموروث الشعبي للشيخ "مبارك الصباح" الذي حكم الكويت ما بين 1896 و1916، لا علاقة لها بالعلمانية أو الليبرالية والديمقراطية، بل متعارضة ومتناقضة معها كل التناقض.

غير أن بعض سياسات الشيخ مبارك وإنجازاته، والدور التاريخي الذي قام به، مهّدت في نهاية الأمر لزرع هذه الاتجاهات في التجربة الكويتية التي توجت بدستور 1962، وأرسى أسسها بشكل أو بآخر، ومن هنا فثمة تواصل وترابط مرئي ومخفي بين عهد الشيخ مبارك من جانب، وبين المنجزات التي حققها أبو الدستور والديمقراطية في الكويت، الشيخ عبدالله السالم الصباح.

تفيض كتب تاريخ الكويت القديمة والحديثة بذكر الجوانب السلبية عن عهد الشيخ مبارك، فكيف نجد لهذا العهد في الواقع منجزات مستقبلية لا ننتبه إليها في غفلة من هذا النقد الذي تحفل به الكتب، والتي أقتبس من أحدها كمثال! يقول د. فيحان محمد العتيبي في دراسة رصينة بعنوان "الحراك السياسي والصراع الديمقراطي في الكويت: 1921-1990"، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 2010، ما يلي، مقتبسا عن الأستاذ عبدالعزيز حسين:

"كان مجيء مبارك بن صباح إلى السلطة، بمثابة انقلاب في نظام الحكم، حيث كان معتدا بنفسه ومقدرته ولديه طموح إلى السيطرة والحكم المطلق، فانفرد بالقرار، ولم يلجأ لاستشارة ذوي الرأي والوجهاء، بل أقصاهم عن مجلس الحاكم الذي كان بمثابة مجلس شورى مصغر، وجعل الحكم حكرا- فقط- على أبنائه وأحفاده، فمنع بذلك الاختيار النسبي للحاكم الذي كان يمارسه التجار، وإن كان هذا الاختيار لا يأتي إلا للمفاضلة بين آل الصباح".

ويضيف د. العتيبي ناقلاً عن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي: "وقد اتبع الشيخ مبارك في عشر السنوات الأولى من حكمه سيرة أسلافه في التواضع وتجنب المظالم الشخصية، ولم يكن لأحد من أسرة آل الصباح بالتعدي على أحد من الرعية، ولكن- مع الأسف- لما صحب حاكم المحمرة خزعل بن مرداو، تبدلت حاله، وقلده في كثير من المظالم والتكبر والتهاون بالدين وانتهاك المحرمات". (ص21).

ويورد انطباع الرحالة أمين الريحاني في كتابه "نجد وملحقاتها"، فيقول              د. العتيبي: "كما كان للصفات الشخصية لمبارك دور كبير في نزوعه إلى الحكم المطلق، فيصفه الرحالة أمين الريحاني بقوله كان حاد المزاج، شديد اليأس، كثير التقلب، فيه شيء من الأسد، وأشياء من الحرباء، بدوي الطبع، حضري الذوق، تارة يحب الخصم وطورا يجامله، كان كريما جواداً بل كان مسرفا، ويقدم– بعد حبه للمجد والسيادة- نواعم العيش ونوافله على كل شيء سواها، نصف عمله سر لا يدركه سواه، والنصف الآخر خدعة باهرة". (ص22).

فأين إذاً نجد "الملامح العلمانية وشبه الليبرالية" في توجهات الشيخ مبارك وسياساته؟!

إنني أزعم أننا نراها في ست نقاط:

1- عدم صبغ الإمارة والحكم في المجتمع بالتزمّت الديني، رغم إغراءات الواقع وضغوط الأوساط الاجتماعية والدينية المجاورة في الإحساء ونجد وداخل الكويت.

2- عدم التردد في حماية الكويت بتوقيع اتفاقية مع إنكلترا، القوة العالمية الكبرى آنذاك، والتي كانت تعد خصماً للدولة العثمانية، أو كانت على الأقل دولة غير إسلامية بل "نصرانية كافرة"!

3- مراعاته للحريات الشخصية والاجتماعية بما كان يسمح به عصره، وعدم تسليطه مثلاً جماعات الحسبة والأمر بالمعروف على حياة الناس.

4- سماحه بدخول المخترعات الحديثة كالسيارات، والتي لم يسمح لها في نجد حتى بعد سنوات طويلة، وسماحه بالتعليم النظامي، وتواصله مع الصحافة العربية، وعدم معاداته للإرسالية الأميركية الطبية رغم الجانب التبشيري فيها، حيث أدرك أهمية الخدمة الصحية التي ستقدمها، والتي ظهرت أهميتها في عهد الشيخ سالم خلال حرب الجهراء وفي حياة عامة الناس لاحقاً.

5- سماحه بالفنون الموسيقية والغناء في حدود ظروف المجتمع المتزمتة، حيث كانت بعض الحفلات تقام وأصواتها تسمع!

6- إداركه الناضج لوضع الكويت وطبيعة العلاقات الدولية، ومعرفته كيفية استفادة الدولة الصغيرة من القوى الكبرى، وتوظيف التنافس العثماني- البريطاني وصراعات الجزيرة العربية بين حائل والرياض لتوطيد حكمه وترسيخ الكيان الكويتي.

وهكذا، ورغم الجوانب السلبية في حياة الشيخ مبارك وبعض ميوله الشخصية الفردية والكوارث العسكرية التي تعرض لها كمأساة "الصريف"، واصطدامه بالتجار الذين كان ينبغي أن يوثق العلاقة معهم، والحروب التي كان عليه أن يتجنبها، فإن الشيخ مبارك إجمالاً، كان كذلك حاكماً دنيوياً مدركاً لبعض معطيات عصره، وراغباً في الارتقاء ببلده بعيداً عن تسلط الدولة العثمانية وحلفائها وصبغتها الدينية والسياسية، التي كانت تسعى إلى استلحاقه بالدولة والآستانة في مرحلة كانت تنحدر فيها السلطة برمتها إلى مصيرها المحتوم.

وقد أشرتُ في مقال سابق، الوطن 5/ 11/ 2013، إلى جانب من تفكير الشيخ مبارك: "يستوقفنا هنا ما قاله الشيخ مبارك ومدى وعيه بالخطوة السياسية التي اتخذها في مساندته المجهود الحربي البريطاني، وما يشوب الموقف من الناحية الدينية. قال الشيخ مبارك لكل من الشنقيطي وحافظ وهبة: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". ثم أردف ذلك بقوله: أنا مسلم عثماني أغار على ديني وعلى دولتي ولا أحب من يعترضهما بسوء، غير أني اتفقت مع الإنكليز على أمر فيه نفع لي ولبلدي، ولهذا لا أرضى بالطعن فيهم، وإن كنت لا أحبهم وديني غير دينهم".

(دوائر متداخلة، 2، 2015، ص 541).

وكان الاستياء من العثمانيين ظاهرة متفشية، فالمؤرخ "عبدالعزيز الرشيد" ينقل عن بعض من حضروا اجتماع السير "برسي كوكس" بالأمراء جابر وابن سعود وخزعل في الكويت عام 1916، ينقل عن عبدالعزيز آل سعود تصريحه: "أنا عدو للأتراك وهم لي أعداء، وسأطاردهم ولو وحدي لأني لا أذكر منهم إلا الشر، لي ولآبائي من قبل، فقد قتلوا من قتلوا منهم ومثلوا ببعضهم أشنع تمثيل". (تاريخ الكويت، طبعة دار قرطاس، 1999، ص 321).

وكان الأمير عبدالعزيز يشير آنذاك إلى دور الدولة العثمانية من خلال تكليف والي مصر محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع عشر بالإجهاز على الدولة السعودية الأولى والحركة الوهابية، 1816-1819.

جمع النفور من الدولة العثمانية، والتقرب من بريطانيا، كلاً من الشيخ مبارك والأمير ابن سعود على الصعيد الخارجي، وافترقت بهما السبل في بناء دولتيهما لاحقاً، فقد واصلت المملكة العربية السعودية طريقها، في حين اتجهت الكويت في منحى آخر من خلال حكم ثلاثة أمراء قبل مجيء الشيخ عبدالله السالم، وهم جابر الصباح وسالم الصباح والشيخ أحمد الجابر.

إن تاريخ الحركة الدستورية في الكويت ما بين 1921 و1962 موثق معروف، ودور الشيخ عبدالله السالم في هذه المرحلة وما شهدت من مجالس وإنجازات، كُتبت عنه دراسات وكتب كثيرة، ولم تكن هذه الحركة إنجازاً لجانب واحد، فالكل يعرف كذلك الدور الرئيس الذي قامت به النخبة التجارية والفكرية والسياسية عبر سنوات ممتدة، أثمرت هذه الوثيقة الرائعة التي تحكمنا اليوم، أي دستور 1962، الذي تم التصديق عليه في زمن الشيخ عبدالله السالم.

استفادت الكويت في تطورها السياسي اللاحق، والذي توج دستورياً عام 1962، من تراثها المتراكم قبل عهد الشيخ عبدالله السالم، ونجحت بعض رهاناتها السياسية المهمة، فقد زالت الدولة العثمانية، وانتصرت بريطانيا ودول الحلفاء، وتفتتت الولايات العثمانية، وصعد التيار الوطني والقومي، وشهدت الكويت محاولة دستورية متقدمة عام 1938 وقامت حرب عالمية ثانية، وظهر فيها البترول، حيث تم تصديره بعد نهاية هذه الحرب، فتغير الاقتصاد الكويتي تماماً، وبرزت تدريجيا ملامح الدولة الحديثة.

تولى الشيخ عبدالله السالم الحكم عام 1950، وساهم بدور رئيس في إرساء أسس النظام الدستوري والديمقراطي. يقول د. غانم النجار: "كانت الطبقة التجارية لتلك الفترة- أي زمن عبدالله السالم- أكثر فعالية وحضوراً على جميع المستويات من إبان فترة حكم أحمد الجابر، وعلى الأخص المجموعة الليبرالية من تلك "الطبقة" إن جاز التعبير، وقد كان عبدالله السالم يشاركهم الهموم الخاصة بالأوضاع المتردية للإدارة الحكومية".

ويضيف د. النجار: "كان عبدالله السالم يتمتع أكثر من غيره من أفراد الأسرة بثقة تلك الفئة الدينامية، ويعود ذلك إلى كونه قد لعب دوراً بارزاً في أحداث سنة المجلس 1938، ولمحافظته على استمرار تلك العلاقة بشكل جيد حتى بعد توليه الإمارة، ويبدو أن عبدالله السالم كان مقتنعا بأهمية الدور الذي بإمكان هذه الفئة أن تلعبه في تنمية وتطوير البلاد، ولذلك حاول إلى حد كبير أن يدافع عن مصالحهم ويحرص على إرضائهم". (مدخل للتطور السياسي في الكويت، 1994، ص36).

 كان تراث عبدالله السالم تكملة كذلك لبعض الملامح والجوانب والسياسات الاستقلالية التي بدأها الشيخ مبارك وبخاصة في اهتمامه بمصالح الكويت، والاستفادة من القوى الكبرى والسياسات الدولية، والتوازنات الإقليمية وغير ذلك، وكان عبدالله السالم فوق ذلك، ولثقافته القومية والإصلاحية، مستنيراً في موقفه من قضايا عدة كحقوق المرأة والتعليم والتصدي للفساد، فلم يمنع سفور المرأة مثلا، ولا قيادتها للسيارة أو عملها في الوظائف الحكومية، وترك للكويتيين تراثاً لا يقدّر بثمن، وكان في بعض سياساته مثل الشيخ مبارك الصباح سابقاً لعصره.

back to top