في داخل كلّ منا... عبقري!

نشر في 29-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 29-01-2016 | 00:01
No Image Caption
أمضى دارولد تريفيرت، عالم نفس في مستشفى سانت أغنيس في فون دو لاك بويسكنسون، خمسة عقود في دراسة مَن يعانون التوحّد ومتلازمة الموهوب. وفي الشهر المقبل، سيفتتح المستشفى مركز تريفيرت لمواصلة الأبحاث في هاتين الحالتين بعد تقاعده، معه كان الحوار التالي:
مَن يُصَنف موهوباً؟

عندما يمتلك الإنسان موهبة خاصة بارزة لأنها تبدو أعلى من سائر مستويات مقدراته، وتبدو عادةً مزروعة في الإعاقات أو الاختلافات الفكرية.

أعددت سجلاً عالمياً بالحالات كافة التي جرى الإبلاغ عنها، ووصل العدد اليوم إلى 319 شخصاً. ويعاني نحو ثلاثة أرباعهم التوحد، إلا أن هذه الحالة تعود أيضاً إلى حالات نادرة في الدماغ.

ما نوع المهارات التي يتمتع بها الموهوب؟

من الأكثر شيوعاً بينها الموسيقى، الفنون، الرياضيات، الذاكرة، أو احتساب الروزنامة، أي القدرة على تحديد أي يوم من الأسبوع مهما كان التاريخ الذي تعطيه إياه في الماضي أو المستقبل.

كيف يحتسب الناس التواريخ بعد سنوات كثيرة في المستقبل؟

أتمنى لو أنني أعرف ذلك. ولكن إن سألت جورج فين، مريض في مستشفى برونكس للأمراض النفسية تمتع بالقدرة على القيام بهذه العملية الحسابية والانتقال نحو 40 ألف سنة في الماضي والمستقبل، عما يتيح له القيام بذلك، يجيبك أنه لا يعرف. ثمة برنامج إلكتروني لاحتساب الروزنامة، ويبدو أن الموهوبين الذين يملكون هذه القدرة يتمتعون بقدرة لاواعية شبيهة بهذا البرنامج. تُعتبر القدرة على احتساب الروزنامة خاصية فريدة لأنها كثيرة الانتشار بين الموهوبين، إلا أنها غريبة إلى حد ما، نظراً إلى افتقار الأشخاص الطبيعيين إلى هذه القدرة.

لمَ أثارت هذه القدرات كافة اهتمامك؟

في عام 1962، أسست وحدة للأطفال في معهد الصحة العقلية في ويتيباغو في ويسكنسون، وجمعت نحو 25 ولداً يعانون التوحد. كان أحدهم قد حفظ نظام الحافلات العامة في مدينة ميلواكي. وكان آخر يعاني إعاقات كبيرة، إلا أنه استطاع إنهاء لعب الصورة المقطوعة التي تتألف من 200 قطعة وصورة نحو الأسفل بالنظر إلى الأشكال الهندسية. ومنذ ذلك الحين، ازداد اهتمامي ورحت أتساءل عما يجعل إنساناً يعاني إعاقات حادة يتمتع بكثير من العبقرية.

ما المقدرات الأخرى التي تمتّع بها مَن شملهم سجلك؟

لا أعتقد أن ثمة إنساناً يملك ذاكرة واسعة وعميقة بقدر كيم بيك، الذي استند فيلم Rain Man إلى حالته. فقد حفظ آلاف الكتب، حتى أرقام الصفحات، فكانت قدرته على استيعاب المواد وحفظها مذهلة.

يستطيع ستيفن ويلتشاير من المملكة المتحدة التحليق فوق المدينة بطائرة مروحية، ثم إمضاء الأيام السبعة التالية في رسم ما رآه، النافذة تلو الأخرى والشجرة تلو الشجرة. وإن التقطت صورة رقمية من الطائرة المروحية، فستفاجأ من أنها تطابق بدقة رسمه.

وُلد ليسلي ليمكي من ويسكنسون قبل أوانه وأصيب بتلف في الدماغ. نتيجة لذلك، بلغ مستوى ذكائه 58، إلا أنه نابغة في عالم الموسيقى. يمكنك أن تعزف أمامه المقطوعة مرة، فيكرر عزفها بدقة، مهما كانت معقدة. حتى إنه يستطيع القيام بذلك في الوقت عينه الذي يواصل فيه الاستماع إلى المعزوفة بتأخير يصل إلى 3 ثوانٍ. هذا أمر مذهل حقاً.

هل متلازمة الموهوب أمر يولد مع المرء؟

ليس دوماً. يتعرّض البعض أحياناً لإصابة في الرأس أو لسكتة دماغية، وفجأة تظهر لديه مقدرة في مجال الفن أو الموسيقى. على سبيل المثال، كان تومي ماكهيوغ  نجاراً عانى سكتة دماغية. فبدأ بعدها بكتابة الشعر والقيام بأعمال فنية كبيرة. شمل سجلي نحو 50 من حالات الموهبة المكتسبة هذه. وأعتقد أن هذا الأمر يعكس المقدارات المحتملة الكامنة داخلنا.

إصابة وضرر

كيف تتجلّى هذه المقدرات؟

في حالة هؤلاء الأشخاص، يتعرّض جزء من الدماغ لإصابة، ويكون غالباً النصف الأيسر، فتبدأ عملية حشد أنسجة الدماغ السليمة في مواضع أخرى. وفي هذه الأنسجة، تكون هذه القدرة مدفونة. أحد الأمثلة المثيرة للاهتمام الخرف الجبهي الأمامي، مع بداية التنكس في القشرة الأمامية الجبهية.  أشارت التقارير إلى 12 حالة عانت هذا الخلل، فطورت مقدرات موسيقية أو فنية مع تقدم الخرف. وفي تسع حالات منها، تراجعت الجهة اليسرى أولاً. وفيما كانت القشرة تتراجع، برزت هذه الإمكانية الدفينة.

لمَ يؤدي الضرر الذي يلحق بالنصف الأيسر من الدماغ إلى مواهب غير معتادة؟

نبالغ في التبسيط إن قلنا إن الدماغين الأيمن والأيسر منفصلين تماماً، إلا أن لكل منهما وظائف متخصصة خاصة. على سبيل المثال، يبلغ النصف الأيسر في اللغة والتفكير المنطقي، في حين أن الأيمن يتحكم في الإبداع والفنون. نتيجة لذلك، قد يشكّل قمع الجانب الأيسر من الدماغ عاملاً في حالة مَن يولدون مع متلازمة الموهوب. عندما نكون في الرحم، ينهي النصف الأيسر نموه بالكامل في مرحلة لاحقة مقارنة بالأيمن. لذلك يُعتبر خلال فترة أطول أكثر تأثراً بكل ما قد يلحق الضرر بالأنسجة العصبية، مثل المخدرات والسموم.

قد توضح هذه النظربة لمَ تُعتبر متلازمة الموهوب والتوحد أكثر انتشاراً بين الرجال بنحو أربعة أضعاف، مقارنة بالنساء. ويعود ذلك إلى أن التيستوستيرون يلحق الأذى بالأنسجة العصبية. وعندما يبدأ الجنين الذكر بتطوير الخصائص الجنسية، يرتفع معدل التيستوستيرون إلى مستويات تضاهي ما يملكه الرجال البالغون. فيتعرض النصف الأيسر الحساس من الدماغ للتيستوستيرون. لذلك لا عجب في أن نلاحظ نسبة ضرر أكبر بين الذكور، مقارنة بالإناث.

هل من طريقة لتحرير إمكانات الدماغ هذه من دون إلحاق الضرر به؟

يشكل هذا الأمر تحدياً كبيراً. يجري ألان سنايدر في جامعة سيدني في أستراليا تجارب، محاولاً شلّ عمل المنطقة الجبهة الخلفية اليسرى مؤقتاً لدى متطوعين، معتمداً على التحفيز المباشر عبر الدماغ بواسطة تيار كهربائي. بدأ هذا الباحث مع القدرة على الرسم، إلا أن هذه المسألة تختلف باختلاف الأفراد. لكنه انتقل أخيراً إلى حلّ المشاكل، التي يمكنك تحديدها بدقة أكبر وأوضح. فبرهن أن ثمة إطلاقاً لمقدرات محددة، مع أنها لا تبلغ مصاف العبقرية. أعتقد أننا سنتمكّن في المستقبل من تحقيق ذلك بواسطة الأدوية، إن توصلنا إلى مواد فاعلة لا تأثيرات جانبية لها.

مقدرات دفينة

هل من أساليب يمكنها تحرير مقدراتنا الدفينة؟

يحاول البعض اللجوء إلى اليوغا والتأمل للتحكّم في موجات الدماغ، علماً أن هذه الأساليب أكثر فاعلية في التخفيف من القلق والإجهاد. أفضل شخصياً سبيلاً آخر: تخصيص الوقت “للتفتيش” في النصف الأيمن من الدماغ. وأعني بذلك توسيع مجالات اهتمامنا في الحياة، مثل الانكباب على هواية جديدة كالطهو، الرسم، أو زراعة النباتات (أي أمر يشمل قليلاً من الإبداع وتعلم مسائل جديدة مختلفة غير استعمال النصف الأيسر  المستهلك، المنطقي، المنظّم، والذي يعتمد على اللغة. ينتظر كثيرون بلوغ سن التقاعد ليبدأوا باستكشاف نشاطات جديدة. إلا أنني أعتقد أننا نستطيع ولوج بعض هذه القدرات في وقت أبكر، إن بذلنا قليلاً من الجهد الواعي.

هل تقوم بأي نشاطات لتبرز مقدرات دماغك الخاصة؟

اعتدت في الماضي قراءة الكتب الطبية فحسب، إلا أنني أطالع اليوم روايات أو أعمال خيال علمي. عندما كنت أقود السيارة متوجهاً إلى شيكاغو، كنت أسلك دوماً الطريق السريع لأنه يوصلني إلى وجهتي بسرعة، مع أنه يفتقر إلى ما يثير الاهتمام. ولكن إن كنت أملك متسعاً من الوقت اليوم، أختار الطريق الفرعي على طول بحيرة ميشيغان، فضلاً عن أنني أخصص بعض الوقت للتأمل.

لم أؤلف أي مقطوعات موسيقية بعد. لكني أعتقد أن هذا الأمر ساعدني على اكتشاف عدد من المقدرات في داخلي. فمن البداية، منذ أن قابلت أول ولد يعاني متلازمة الموهوب، فكرت: “ماذا يكشف لنا ذلك عن المواهب الدفينة داخل كل منها؟”.

back to top