العراقي محمد أياد... غادر ألمانيا بعد مئة يوم فقط!

نشر في 12-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 12-03-2016 | 00:01
اجتاز شاب من شمال العراق البحر المتوسط سعياً وراء حياة أفضل في ألمانيا. لكن خالجه شعور بالإحباط جرّاء تجارب عاشها في مخيمات اللاجئين، فعاد إلى بلده الأمّ بعد ثلاثة أشهر فقط.
بعد مرور مئة يوم على سفر الشاب محمد أياد إلى ألمانيا بحثاً عن حياة كريمة، جهز حقيبة ظهر كانت بحوزته في مخيّم اللاجئين في جبال {سوبان جورا} جنوب ألمانيا، مبحراً إلى وطنه.
يقع المخيّم على تلّة محاطة بشجر التنوب والزان، وتنبعث من الهواء رائحة الطحالب. عندما يسود الهدوء، يتناهى إلى مسامعك تغريد الحسّون. جلّ ما يتبادر إلى ذهن محمد التصميم على مغادرة هذا المكان.
بعد ثلاثة أيّام، توجّه إلى وكالة السفر في حيّ كرويتسبيرغ في مدينة برلين المخصّصة للسفر إلى كردستان العراق. في جيبه، ثمن تذكرة الرحلة المباشرة من مطار برلين إلى مدينة أربيل في العراق.
تخبرنا {شبيغل} قصته واسباب عودته إلى بلد تعمّه الفوضى والحروب.
محمد أياد شاب هزيل القامة في الـسابعة والعشرين من عمره. عيناه سوداوان حزينتان. ليس مجرماً قدم إلى ألمانيا لاستغلال النساء، ولا مهندساً كهربائياً يبحث عن وظيفة. إنّه ببساطة رجل عاديّ، لاجئ في ألمانيا. هذه هي قصّته باختصار.

{أحمل تمنيّات أوجّهها إلى مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل}. يقول محمد إنّه مكث في ألمانيا مئة يوم. معدل الحرارة هناك بضع درجات مئوية فوق الصفر والطقس ماطر غالباً والأشجار عارية. ظنّ بدايةً أنّه بلد جميل وجذّاب. وعلى حدّ قوله، ابتسم له الألمان الذين التقاهم في الشوارع، فكانت المرّة الأولى التي يرى فيها شعراً أشقر وتبينّ له أنّ الألمانيات يتمتّعن بجسم رياضي. لم يسمع قطّ بـ AFD: ثلاثة حروف أجنبية للدلالة على {الحزب البديل لأجل ألمانيا}، وهو حزب سياسي مناهض للهجرة.

لم يحاور ألمانياً واحداً خلال مئة يوم. وعندما فعل، كان يتحدّث إلى رجال الشرطة أو المتطوّعين أو الأطبّاء حول إقامته والأموال التي أنفقها، وجرح الرصاصة التي أصابت معدته.

ذات مرّة، أراد سائق سيارة الإسعاف أن يتحدّث إليه، إلّا أنّ الرجلين اكتفيا برسم ابتسامة عريضة على وجهيهما لأنّ أحداً منهما لا يفهم لغة الآخر، وما من مترجم فوريّ في الجوار.  

نفاد الصبر

منذ شهر سبتمبر من العام الماضي، عاد نحو 2000 لاجئ عراقي أدراجهم إلى بلدهم الأمّ طوعاً، تماماً كمحمد، لأنّهم يؤمنون بأنّهم سيعيشون حياة أفضل من تلك التي عاشوها في ألمانيا على الرغم من أنّ الفوضى تعمّ بلادهم، و»داعش» والأكراد يسيطران على نصف الأراضي العراقية. عادوا طوعاً إلى بلدٍ ينقطع فيه التيار الكهربائي باستمرار، إلى بلدٍ يقاسي فيه المدنيون التنكيل والإهانات نتيجة ممارسات رجال الشرطة، إلى بلدٍ يتقاضى فيه الفرد أجراً زهيداً مقارنة مع الدخل الفردي في ألمانيا.

يسرد اللاجئون العراقيون في وكالات السفر أو في مطار برلين أو في مكتب الخطوط الجوية العراقية في فرانكفورت أسباباً متعدّدة جعلتهم يغادرون ألمانيا:

قال أحدهم: «طفلنا مريض على شفير الموت، وفي حال توفيّ أريده أن يدفن في العراق».

وآخر: «للسوريين الأفضلية. مضت سنة ونصف السنة على انتظاري، وها قد نفد صبري».

وآخر: «في العراق، لا يُقدّم هذا الطعام حتى لحمار».

وغيره: «لا يعطينا الألمان ما يكفينا».

محمد ليس مستاء من الطعام الألماني، فهو بالكاد يأكل لأنّ جهازه الهضمي لا يعمل جيّداً منذ سنتين تقريباً، أيّ مذ أطلق عليه مقاتل من تنظيم «داعش» رصاصة من بندقية كلاشينكوف خرجت من ظهره مخلّفةً لديه ندبتين: الأولى في الجهة اليسرى من معدته، والثانية في ظهره.

تطوّع وقتال

يقول محمد إنّه تطوّع للقتال في قوات البيشمركة الكردية في صيف 2014 في محاولة لردع مقاتلي «داعش» الذين كانوا أصبحوا على بعد 15 كيلومتراً فقط من حدود مسقط رأسه «دهوك»، شمال إقليم كردستان ذات الحكم الذاتي.

تعلّم التصويب ووقف على المخفر الأمامي للبيشمركة. هجم المقاتلون في ليلة ماطرة، وتعرّض محمد لإصابة وراح يزحف على الوحل لثلاث ساعات. في الصباح التالي، استيقظ ووجد نفسه في المستشفى.  لم يشعر بقدميه منذ ذلك الحين، وأصبح بحاجة إلى أدوية مسهلّة لهضم الطعام. عجز الأطبّاء في أربيل عن مساعدته، فجمع أهله المال لإرساله إلى إيران علّه يُعالج على يد اختصاصيين، لم يتمكّنوا بدورهم من شفائه. بعدها سافر به أهله إلى الهند، حيث أجرى له الأطباء جراحة. إلّا أنّ الأخيرة زادت الطين بلّة. قال أطبّاء أربيل، الذين لم يتمكّنوا من تحسين حالته، إنّ الجرّاحون الألمان في وسعهم مساعدته، فهم الأفضل حول العالم.

شاهد محمد خطاب أنجيلا ميركل المتلفز، أعربت خلاله عن ترحيب ألمانيا بكل ّمن يقاتل «داعش». كذلك، اطّلع على تعليقات أصدقائه على موقع «فيسبوك» مفادها أنّ اللاجئين في ألمانيا يُموّلون ويسكنون في شقق.

على الرغم من إصابته، يحبّ محمد حياته في العراق. اعتاد ممارسة كرة القدم مع رفاقه على عشب صناعي. ترعرع في منزل أهله مرتاح البال، فكان يحبّ الطعام الذي تعدّه والدته، ويشرب الشاي المحلّى في مدينة أربيل حيث يشعر بأمان لأنّه يؤمن بأنّ أقدام «داعش» لن تطأ المنطقة هذه. لم يعش الحرب، بل نشأ في مدينة تكتظّ بنصف مليون شخص يتنزهون في الحدائق ويقصدون ملاعب كرة القدم. مع ذلك، ما زال يثق في أنّ الحياة قد تكون أفضل في ألمانيا.

ثمة رحلة مباشرة من أربيل إلى ألمانيا كلّ يوم أربعاء. إلّا أنّ هذا الطريق كان مغلقاً في وجه محمد لأنّ الخطوط الجوية لن تمنحه تذكرة سفر من دون تأشيرة دخول ألمانية.

جمع مالاً من عمله كسائق تاكسي، إضافةً إلى مال اقترضه والداه من بعض الأصدقاء ودفع مبلغ 2000 دولار. بعد بضع أيّام، صعد على متن قارب مطاطيّ أسود في بحر إيجة.

وصل محمد إلى مركز اللاجئين في هايدلبرغ وقد أعجبه كثيراً. نادراً ما صادف مساعدين اجتماعيين في المخيّم. كان يخلد إلى النوم غالباً لتمضية الوقت. وبقي على تواصل مع أنسبائه ورفاقه في كردستان العراق عبر الخلوي الذي أضحى محور حياته.

زار محمد طبيبين ألمانيين أخبروه أنّه يصعب شفاء جروحه لأنّ وقتاً طويلاً مضى وقت عليها. قال: «خيّبت ميركل أملي». وأضاف: «كنت بحاجة إلى الخضوع لجراحة، ظننت أنّني سأجد عملاً. صمّمت على ذلك إلّا أنّ الحظّ خذلني».  

سائق أجرة

عمل سائق أجرة في العراق. وللاستمرار في عمله هذا في إلمانيا كان عليه إتقان اللغة الألمانية للتكلّم مع الركّاب، إلّا أنّه لم يتابع الدروس الأسبوعية في مراكز إيواء اللاجئين سوى أربع مرّات. عندما سئل عن السبب، أجاب أنّه لم يشأ الحضور. وأضاف: «لم يكن لي صديقٌ لمرافقتي».

تخيّل محمد أنّه سيلتحق بالجيش الألماني. غير أنّ السلاح من نوع  AK-47الذي كان يتقن استخدامه في العراق، لا يستعمله أحد هنا. إضافةً إلى أنّ من حقّ الألماني وحده الالتحاق بجيش بلده، لكنّه كان يجهل ذلك أيضاً.

يصعب حتى على المراقبين المتساهلين وصف كيف تمكّن رجل كمحمد من الانخراط  في المجتمع الألماني. فهو شاب هادئ لا يتكلّم الألمانية وليست لديه المؤهلات.

قرّر العودة إلى العراق مع صديق كردي يُدعى عثمان، أُصيبت زوجته بجلطة أخيراً، ووشم أوّل حرف من أسماء أولاده الأربعة على أصابع يده اليمنى: أ_س_ر_ل.

قرّر الرجلان التنزّه في شوارع برلين قبل أن يحين موعد الرحلة إلى بلدهما الأمّ. لم يشأ عثمان مغادرة ألمانيا من دون أن يتفتّل في شوارعها. ذات ليلة، فيما اشتدّ البرد، مشى الرجلان عشوائياً نحو حيّ كرويتسبيرغ، وهما يدخنان من دون التفوّه بكلمة.

عند عودة محمد إلى وكالة السفر لتوضيب حقيبة الظهر خاصّته، صادف رجلاً عرّف عن نفسه بـ {الأستاذ ساتان}. يتحدّر والد هذا الرجل من الحيّ نفسه الذي ينتمي إليه محمد وقد دعا ابن بلده لزيارته في منزله. خاطبه متحدّثاً بلهجة الكرمنجي، لغة يتكلّم بها الأكراد: {حضّرت زوجتي العشاء، ما من عذرٍ لديك لتخذلني}.

 

بلد آمن

يعيش الأستاذ ساتان في شقّة في حيّ ليشتنبرغ في مدينة برلين. حضّرت زوجته طبق دجاج بنكهة التوابل الحارّة للعشاء. وجّه الكلام إلى محمد قائلاً: {عليك أن تتحلّى بالصبر، فألمانيا بلد آمن}. حاول إقناعه بالبقاء.

عاش الأستاذ ساتان في ألمانيا 23 سنة، غير أنّ مهاراته اللغوية ليست جيّدة بما يكفي ليتكلّم الألمانية بطلاقة. عمل ساتان في الحدائق والمشاتل لفترة طويلة إلّا أنّه لم يعد يمارس هذه المهنة، وبات يهتم في الوقت الحاضر برجل مسنّ، ويتقاضى راتبه الشهري أحياناً من مركز الخدمات الاجتماعية. يقول أنّه ما زال غريباً، حتى بعد مرور 23 سنة على مكوثه في ألمانيا. كان محمد يصغي إليه محرّكاً رأسه من وقت إلى آخر، وواضعاً يده على صدره كعربون امتنان لزوجة الرجل على دعوتها إيّاه إلى العشاء. راح يمرّر يده الأخرى في شعر ابنتهما ويقول: {أنا بحاجة إلى هذه الجراحة}.

في الموعد المحدّد لرحلة العودة إلى العراق، ينتظر تسعة لاجئون في وكالة السفر في كرويتسبيرغ. فيما يحمل محمد حقيبة الظهر على كتفيه، وخلال توجّهه نحو المترو، تحدّث إلى لاجئ آخر وسأله: { لماذا تعود إلى العراق؟}.

{لم يقدّموا لي شيئاً}، أجاب الرجل.

{إلى أين أنت ذاهب؟}.

{إلى بغداد}.

{بغداد منطقة خطيرة}.

{لكن ثمة أناس عقلاء هناك}.

قد يحدث أي شيء

مع إقلاع الطائرة، رمق محمد المباني الرمادية في ألمانيا نظرة أخيرة. استغرقت رحلته إلى ألمانيا 15 يوماً، كانت بمنتهى الخطورة وكلّفته 2000 دولار أميركي. أمّا رحلة العودة، فكلفته 295 يورو ودامت خمس ساعات. بدت المضيفة كعارضة أزياء، وقدّمت للمسافرين أطباقاً من الدجاج ولحم الضأن.

قال محمد وهو يمسك حزام الأمان بين أصابعه: «فعلت ألمانيا ما في وسعها للاجئين». ثمّ ألقى اللوم مجدّداً على مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل لفشله في إجراء الجراحة، لكنّه ما لبث أن لاحظ، أنّها لم تقل يوماً إنّه يجدر على أشخاصٍ مثله المجيء إلى ألمانيا. إلّا أنّه تمنّى لو أنّها صرّحت بمثل هذا الكلام. وأضاف: «كان بوسع الألمان فعل المزيد لو كان عدد اللاجئين أقلّ، واتخاذ قرارات سريعة لمنح اللاجئين تصاريح إقامة». وتفهّم واقع أنّ ألمانيا لا تستطيع تقديم كلّ شيء لكل شخص. وقال إنّه لم يقصدها طلباً للمال، بل بسبب الجرح الذي أصاب معدته. وتابع: «نيابةً عن شعب كردستان، أتوجّه بجزيل الشكر إلى ألمانيا لإرسالها لنا صواريخ ميلان دمّرت دبّابات «داعش». ولكن لمَ لم تقدموا لي المساعدة حين تعرّضت للإصابة في حربكم ضدّ «داعش».

حطّت الطائرة في تمام العاشرة مساءً في التوقيت المحلّي. وما إن وصل محمد إلى منطقة أمن المطار، حتى قال بهدوء: «عائلتي كلّها هنا».

«لا تخجل!»

أحد أقرباء محمد قاده إلى أربيل حيث كانت بقية العائلة بانتظاره. عندما رأته والدته، حضنته بين ذراعيها وأثنت ركبتيها من شدّة التأثر بلقاء ولدها. طوّقته خالته من الخلف بين ذراعيها وقبلته مراراً على كتفه. وانهمرت الدموع على وجنتي والدته.

جلست بالقرب منه ودلّكت ساقيه، فبدأ يشعر بوخزٍ فيهما بسبب أوتار الجرح. وقالت: «نحمد اللّه على عودتك بخير. تألّمت بما فيه الكفاية وأصبحت هزيلاً. الطعام جاهز».

كان والده يجلس قربه ويمسك مصباحاً بيده في حال انقطع التيار الكهربائي.

وضعت إحدى النساء قماش القنّب على الأرض وراحت تحمل الأطباق إلى الغرفة: الحمص مع المخلّلات، والخبز الساخن، وأسياخ مشوية من لحم الضأن، وحساء الدجاج، وحساء البقوليات، والبطاطا المشوية، والبهارات وطبق كبير من الأرز بالزبدة.

في المجتمع الكردستاني، يحصل الضيف على أكبر حصة من حساء الدجاج ويكون أوّل من يُسكب له الأرز في صحنه، ويُشجعه أهل البيت على تناول المزيد.

محمد في منزله أخيراً. مستلقياً في فراشه، يحضن وسادته ويتكئ على يده، لكنّه لا يبدو سعيداً. بدا متعباً ومريضاً. يريد أن يقود سيارة الأجرة مجدداً ويذهب في نزهة مع أصدقائه. سيستعيد الحياة التي كان يعيشها قبل سفره إلى ألمانيا، لكن ينبغي عليه أن يسدّد وعائلته الديون المترتبّة عليهم.

لم يبنِ محمد يوماً قصوراً في الهواء ولم يحلم بأمور من نسيج الخيال. بل اقتصر حلمه على عدم فقدان الإحساس برجليه. هل كان باستطاعة ألمانيا فعل المزيد لمساعدته؟

تعرّض محمد للإصابة لأنّه تطوّع للقتال على الجبهة. لم تطل الحرب يوماً مدينته، لأنّ «دهوك» منطقة آمنة. لم يكن يهرب من شيء عندما أبحر إلى ألمانيا. لم يصل إلى هناك على أساس أنّه مجرّد لاجئ بل أراد أن يحظى بالمساعدة، أي أن يعالجه الأطبّاء الألمان. أعماه أمله هذا عن الحقيقة. لو بقي وقتاً أطول في ألمانيا وبذل مجهوداً أكبر، لخضع للجراحة. لم يتحقق حلمه بحياة أفضل لأنّه لم يجمع معلومات كافية قبل الانطلاق في هذه المغامرة. مع العلم أنّ الأمر سهل جدّاً في كردستان بفضل الإنترنت. حلمه بالشفاء وإيجاد وظيفة ومسكن في ألمانيا لم يتحقّق بسبب عدم إتقانه اللغة الألمانية واستسلامه بعد مرور مئة يوم فقط. عاد بسبب الحنين إلى وطنه وأسرته.

خلال الأمسية هذه في أربيل، وبينما كان محمد يحتسي الشاي المُحلّى وتنهمر عليه القبلات من كل حدب وصوب، رمى في الهواء قطعة نقدية تساوي 20 سنتاً، لم ينفقها في مطار برلين، ثمّ التقطها في يده واحتفظ بها كذكرة من ألمانيا.

back to top