التواصل الاجتماعي... لتخليد ذكرى الراحلين
تواسي مواقع التواصل الاجتماعي الشخص المحزون اليوم بوسائل جديدة وتطرح تحديات مختلفة في حياته. كما حصل في جوانب كثيرة من حياتنا، غيّرت هذه المواقع طريقة تعاملنا مع الموت والحداد. حين يموت أي فرد، يجتمع معارفه وأحبابه على صفحات فيسبوك لتقديم التعازي والتعبير عن حزنهم. يمكن أن ينشئ أفراد العائلة والأصدقاء مجموعة مشتركة عن الراحل أو يطلبوا تصميم صفحة فيسبوك باسم الفقيد لتخليد ذكراه، فيحافظون بذلك على نشاطه في الفضاء الرقمي.
في عام 2012، فتحت جايمي دورتي صفحة الفيسبوك الخاصة بها فوجدت رسالة من نسيبة تحبها. أخبرتها الأخيرة بأنها ستنتقل إلى منزل جديد من دون زوجها. كتبت لها: {هو صارم وعدائي جداً. يجب أن أبتعد عنه}. فردّت عليها: “لا تترددي في الاتصال بي إذا احتجتِ إلى أي مساعدة. أتوق إلى ملاقاتك}.بعد بضعة أشهر، صُدِمت دورتي حين سمعت بمقتل نسيبتها وابنتَيها الصغيرتين. اعتُقل الزوج وأُدين في النهاية بجريمة القتل. وسط موجة حزن اجتاحت العائلة في المرحلة اللاحقة، لجأت دورتي إلى الفضاء الرقمي الذي سمح لها بالتواصل مع نسيبتها منذ فترة قصيرة. في المنشورات العامة والرسائل الخاصة في حساب فيسبوك الذي يخصّ نسيبتها الراحلة وبقي نشطاً رغم وفاتها، طرحت أسئلة مؤلمة وعبّرت عن حزنها وندمها لأنهما لم تمضيا المزيد من الوقت معاً:“ستعيشين وابنتَاك الجميلتان إلى الأبد لأن حبنا لَكُنَّ لن يزول}.“ما زلت أبكي حين أفكر بأنك رحلت}.“لا أكفّ عن استرجاع ذكريات شبابنا وأتذكّر كم كنت أقتدي بك}.أوضحت دورتي حديثاً: “كنت أعلم أنها لا تتلقى هذه الرسائل. لكن يتقاسم الناس جزءاً كبيراً من هويتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة أنها قد تشمل نسخة رقمية منهم. لذا أشعر بأن جزءاً صغيراً منها سيسمع كلماتي}.رغم الخسارة المفاجئة والمأساوية، كان تصرّف دورتي بعد الفاجعة مألوفاً.ينشر الزوار القصائد والأغاني وصور الراحل في لحظاته السعيدة، ويستفيضون في الحديث عن نزاهته وسخائه ولطفه، ويكتبون ذكريات عن مراهقته ورحلاته الجامعية وهوسه الشخصي. غالباً ما يعبّر الناس عن مشاعرهم تجاه الراحل مباشرةً: “أشتاق إليك بشكل جنوني}، “سنحبك دوماً وإلى الأبد!}، “ما زلتُ لا أصدّق أنك رحلت}!وسط فيض المنشورات على فيسبوك وإنستغرام وتويتر وغيرها من مواقع يستعملها المستخدمون لتذكّر الأموات، من الغريب أن نشاهد أنباءً عن وفاة شخص معين إلى جانب صور من حفلة الليلة السابقة أو أحدث فيديو متداول. قد تكون هذه الظاهرة معاصرة، لكن يعكس الميل إلى استذكار شخص ميت على مواقع التواصل الاجتماعي تجدداً لسلوك بشري بدائي. حتى أنه قد يشير إلى استرجاع نمط حداد قديم.يعتبر جورج بونانو، طبيب نفسي عيادي وخبير في موضوع الحداد في جامعة كولومبيا، أن الحداد الجماعي الذي يحصل على فيسبوك “وسيلة يستعملها الناس لتكريم الميت والتعبير عن حزنهم لرحيله، ويكون هذا السلوك جزءاً من مجتمع واسع}. فيما بدأ التعامل مع حوادث الموت عبر مواقع التواصل الاجتماعي يصبح “ظاهرة طبيعية}، يعتبر الباحثون أن هذه الظاهرة قد تواسي المفجوعين لكنها قد تضعهم أيضاً في مواقف محرجة.التمسك بذكرى الميتمن المألوف أن يتواصل الأشخاص المفجوعون مع الأموات عن طريق الكتابة أو الأفكار أو الكلام، وقد بدأت هذه الظاهرة قبل نشوء مواقع التواصل الاجتماعي بكثير. تقول جوسلين ديغروت براون، باحثة في مجال التواصل في جامعة “إدواردسفيل} في جنوب إلينوي: “يتحدث الناس إلى الأموات بصوت مرتفع في المقابر أحياناً. يعلم الناس أن أحباءهم ماتوا، لذا يتحدثون إلى “التجسيد الداخلي} للميت. يفكر الأحياء بما يمكن فعله للحصول على تجاوب من الأموات ويسعون إلى حصد ردود فعل منهم}.يُعتبر ميل الناس اليوم إلى استعمال مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع الأموات امتداداً طبيعياً لهذه الممارسة. عمدت الطبيبة النفسية العيادية إيلين كاسكيت إلى تحليل سلسلة من المجموعات المخصصة لاستذكار بعض المراهقين الذين قُتلوا في حوادث سير على فيسبوك واكتشفت أن 77% من منشورات الزوار استعملت صيغة المخاطب، ما يشير إلى أن نسبة كبيرة منهم تتحدث إلى الميت مباشرةً: “هكذا يفكر مستخدمو الفضاء الرقمي: عند كتابة عبارات الحزن على تلك الصفحات، سيتلقاها الشخص المعنيّ. يقول الناس عبارات على الشكل الآتي: “إذا تحدثتُ إلى الميت في المقبرة، لا أعلم إذا كان سيسمعني. لكن إذا وجّهتُ له رسالة، أنا متأكد من أنه سيتلقاها}. قد يتوقع بعض مرسلي الرسائل أن يتلقى الأموات كلماتهم في الحياة الأخرى، لكن لا يقتنع الجميع بهذه الفكرة. بالنسبة إليهم، قد تؤدي مواقع التواصل الاجتماعي دور “الجنّة العلمانية}، فيطمَئِنّون حين يفكرون بأن أحباءهم يرقدون في مكان معين: في هذه الحالة، هم يقبعون في عالم الإنترنت حيث تبقى آثارهم موجودة رغم رحيلهم الجسدي. يقول الخبراء إن هذا النوع من التواصل يبقى حميداً ويكون مفيداً على الأرجح ما دام يعترف المفجوع بأن الشخص توفي فعلاً.وفق نظرية طوّرها الطبيب النفسي دينيس كلاس وباحثون آخرون، تُعتبر هذه الطريقة واحدة من مقاربات يستعملها الناس لمتابعة التواصل مع أحبائهم. بعيداً عن التواصل المباشر، يبحث الناس عن بعض الناجين من الموت لأنهم يشعرون بوجود الأموات ويلجأون إليهم لطلب النصيحة ويتحدثون عنهم مع الآخرين: تحصل هذه العملية كلها على موقع فيسبوك طبعاً.كتب كلاس وعالِم الاجتماع طوني والتر في عام 2001، قبل نشوء فيسبوك، أن الأشخاص المفجوعين قد يسعون إلى “استكمال هوية الأموات وكتابة آخر فصل من حياتهم} من خلال التحدث عن أحبائهم الذين رحلوا. اليوم، يمكن أن يلجأ أصدقاء الميت وأفراد عائلته (من بينهم الأشخاص الذين يعيشون بعيداً أو يشغلون مناصب اجتماعية مختلفة) إلى مواقع التواصل الاجتماعي لتذكّر الفقيد جماعياً والتعبير عن تقديرهم له واستخلاص الدروس من حياته وموته.تقول إيلين كوبيت، أستاذة في التطور البشري في جامعة ويسكونسن، غرين باي: “يجيد الأشخاص الذين يستطيعون ابتكار قصة متماسكة عما حصل التكيّف مع الموت أكثر من غيرهم. حين تحضر مراسم الجنازة، ستجلس وتتحدث عن الفقيد وتحاول استيعاب ما حصل بطريقة منطقية. هذا ما يقوم به الناس على مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً}.لا تشجّع مواقع التواصل الاجتماعي على إقامة هذا النوع من المحادثات فحسب، بل إنها تتجاوز الفترة القصيرة المخصصة لطقوس الحداد النموذجية. تقول كوبيت: “نتوقع أن يتجاوز الناس الأزمة خلال فترة قصيرة جداً. لكن من خلال نشر تجربة الحداد على مواقع التواصل الاجتماعي، يتحوّل الحدث إلى مناسبة عامة ويستمر مع مرور الوقت}.بعد وفاة والد ويندي باركيت في عام 2013، ساعدتها المحادثات التي حصلت على فيسبوك لمعرفة أخبار إضافية عنه والتواصل مع أشخاص عرفوه بعد فترة طويلة من انتهاء جنازته: “شفيتُ في العمق بعد أن قرأتُ عن الأثر الذي تركه في الآخرين ولاحظتُ كم كان محبوباً}.يُقدّم بعض المواقع مثل فيسبوك وسيلة ضمنية يمكن أن يستعملها الشخص المحزون لطلب الدعم من الآخرين أو التعبير عن مشاعره بكل بساطة. قد تصبح هذه التجربة محرجة أو عصيبة إذا حصلت شخصياً مع مختلف أنواع الناس عموماً أو مع الشباب والأشخاص المصابين باضطراب القلق الاجتماعي خصوصاً. قال مستخدم توفي والده: “أريد أن يعلم الناس أنني أفكر بوالدي وما زلتُ حزيناً عليه، لكن من دون أن يشعروا بأنهم مضطرون إلى فعل أو قول شيء كما يحصل في الأحاديث المباشرة}.تقدّم مواقع التواصل الاجتماعي منفعة أخرى لا تضمنها المراسم الرسمية: فرصة للضحك. يقول بونانو الذي استكشف العواطف الإيجابية المرتبطة بالحزن في كتاب The Other Side of Sadness (الجانب الآخر من الحزن): “بشكل عام، لا تكون الفكاهة جزءاً من مراسم الحداد، مع أنها كذلك في بعض الثقافات: يقيم الإيرلنديون مثلاً حفلة صاخبة بعد وفاة فرد من العائلة، ويقول الناس دعابات بذيئة في بعض الثقافات الإفريقية. اكتشفنا أن تذكّر الميت وسط أجواء من الضحك الصادق يحسّن طريقة تقبّل الوضع مع مرور الوقت}.قد يعطي تقاسم الذكريات والأفكار والصور على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو كانت مضحكة أو غريبة، أثراً داعماً في أقسى الظروف. يوضح بونانو: “ثمة شعور ضمني بأن جميع الناس المشاركين يتقرّبون من بعضهم. يؤكدون بذلك عى تضامنهم الجماعي}.سيف ذو حدّينفي ظل توسّع تجربة التعامل مع حوادث الموت على الإنترنت، تزداد التحديات المطروحة. ماذا لو شاهد مستخدم فيسبوك صور صديقه الميت في ملخّص الأخبار على صفحته ولم يكن مستعداً للمشاعر التي تحرّكها فيه؟ حتى الأشخاص الذين يريدون أن يحافظوا على رابط معين مع الميت يفضلون أحياناً أن يلتهوا بمواضيع أخرى، لكن تقول كيلي روسيتو، باحثة في مجال التواصل في كلية بوسطن، إنهم قد يجدون صعوبة في تحقيق هذا الهدف بسبب مواد تذكّرهم بالفقيد على الإنترنت. قد يكون مجرّد ظهور صور الميت على مواقع التواصل الاجتماعي مزعجاً. قال أحد المشاركين في البحث لروسيتو وزملائها: “أشعر بأنه تحوّل إلى شبح}.كذلك، تعرض مواقع التواصل الاجتماعي جميع العبارات التي يستعملها المحزونون الآخرون أمام المستخدمين، سواء أرادوا رؤيتها أو لم يفعلوا. تقول روسيتو: “بسبب تلك العبارات، يمكن أن تشكك بردود فعلك الخاصة: “هل أبالغ في ما أفعله أم يجب أن أقوم بالمزيد؟ هل أُظهِر العواطف الصحيحة؟ هل يجب أن أتقاسم عواطفي على فيسبوك، حتى لو لم أرغب في ذلك؟}. قد يختلف الناس أو يتجادلون حول أنواع المعلومات التي يمكن مناقشتها. بالنسبة إلى البعض، يكون الحداد على فيسبوك غير مناسب بأي شكل. يتذمّر مستخدمو الموقع من الأشخاص الذين يتدخّلون في المحادثة مع أنهم ما كانوا يعرفون الميت أو كانت علاقتهم به محدودة.بحسب رأي روسيتو، تشير هذه السلبيات إلى فقدان السيطرة على الوضع وقد تزداد صعوبة التجربة بالنسبة إلى الشخص المحزون أحياناً: “صحيح أن فيسبوك يقدم مساحة دعم كبيرة، لكنه يتحدى خصوصيتنا وقدرتنا على تحديد الأشخاص الذين نتحدث إليهم أو أولئك الذين يعبّرون عن حزنهم. يمكن أن نتجنّب الناس في الحياة العادية، لكن لا يمكن تجنبهم دوماً على مواقع التواصل الاجتماعي}. لكن يمكن تخفيف مصادر الإزعاج عبر تطبيق مقاربة معتدلة في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وإعادة ضبط الإعدادات لتحديد ما يمكن أن يظهر في المنشورات. يبتكر البعض حلولاً بديلة: يسمح موقع جديد اسمه LifePosts مثلاً للمستخدمين بتنظيم خطابات استذكار الأموات التي تخلط بين أسلوب صفحات فيسبوك والعبارات الرسمية.يتطلّب الحداد على الإنترنت إقامة توازن بين المشاركة في التعبير والانفصال عن الشبكة. من الضروري أن يحصل الفرد أيضاً على الدعم خارج نطاق شبكة الإنترنت. تقول كوبيت: “لا يمكن أن يعانقك أحد على فيسبوك}! لكن حين تكون المعانقة الملموسة غير ممكنة، تُعتبر الكلمات اللطيفة على الإنترنت ثاني أفضل خيار متاح.تقول نورما فان مارين التي توفي زوجها في حادث سير: “أريد أن تستمر ذكرى زوجي. ينسى الناس أحياناً أنني ما زلت أتألم ومن اللطيف أن أتلقى معانقة افتراضية في الأيام الصعبة}.