الغربة والاغتراب

نشر في 19-03-2016
آخر تحديث 19-03-2016 | 00:01
 عبدالهادي شلا يُعرِّف البعض "الغربة" بأنها البعد عن الوطن، وغالباً ما تشير إلى المشاعر السلبية المرافقة للانقطاع عن الأهل والأجواء المعتادة، إلا أن هذا غير كاف في تعريفها، لأنها تتشكل وتتعدد بحسب حالتها من هذا الذي وقع فيها أو وقعت عليه، لا فرق، فقد يشعر بها وهو في ربوع وطنه وفي أحضان أهله وعشيرته، وهذه قاسية في حد ذاتها وتزداد ضراوتها إذا حملت المزيد من المعاناة الحياتية بأشكال متعددة أيضاً.

 أما الاغتراب فهو مفهوم ذو دلالات، يمثل نمطا من تجربة يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات؛ فهو لا يعيش ذاته كـ"مركز" لعالمه أو كصانع لأفعاله ومشاعره.

ومعاني الاغتراب متعددة، اجتماعية ونفسية واقتصادية؛ ويمكن إجمالها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع، أي العجز المادي عن احتلال المكان الذي ينبغي للمرء أن يحتلَّه وشعوره بالتبعية أو بحسِّ الانتماء إلى شخص أو إلى آلية أخرى، فيصبح المرء مرهونا، بل مستلَباً، وهذا ما يولِّد شعوراً داخليّاً بفقدان الحرية، والإحباط والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.

 لا يدرك معنى الاغتراب إلا من عاناه، ولا يدرك معنى الوحدة والغربة إلا من قاسى هجراً أو تهجيراً، فكلاهما عصا غليظة تطارد إنسانيته وتعمل على قتل سمو الروح في جسده.

ومهما قيل في أسبابها فإنها تبقى كاسرة ومعطلة لإبداعه وقدراته التي لا يمكن أن يتحمل أسرها في داخله، إلا وتنفجر ذات لحظة قصوى تكون فيها النفس والروح والجسد رافضة رفضاً تاماً البقاء تحت سطوة الغربة والاغتراب، وما ترتب عليهما من أوجاع ومعاناة، حيث تتفاوت القدرة على تحمل الغربة بين البشر، كل حسب بيئته وثقافته وموقعه.

ويتفق الكثيرون ممن عاش حالة الغربة والاغتراب على أن أقسى أنواعها هو الذي يكون في المكان، وبين الذين يتمنى ألا يفارقهم ويبقى الدهر بينهم يشعر بسعادتهم ويحزن لحزنهم.

لكن الحياة لا تأتي بكل ما يتمنى المرء، بل هي بالمرصاد لكل مشاعره وعلى فترات متفاوتة قد يألفها البعض مع مرور الزمن، لكنه أبدا لن ينسى طعمها المر، ولا يجف نبع حنينه إلى المكان والرفاق.

 حقيقة الغربة أنها واقع يصطدم به الكثيرون في زماننا هذا الذي كثرت فيه الحروب والمشاكل بكل أنواعها، الأمر الذي جعل الاغتراب سمة من سمات هذا الزمن.

 نسمع هذا الحنين على الألسن يتردد، ونراه في العيون المتلهفة إلى المكان ورؤية الأحباب، وهي على استعداد لتقديم كل ما تملك كي تستعيد لحظات بقيت في سراديب النفس مهما طال زمن الغربة والاغتراب.

يقول أبو عبدالله الكلثوميّ النّحـوي:

أجارتنا إنّ الغريب وإن غدت

عليه غوادي الصّالحات غــريبُ

أجارتنــا من يغــــترب يلـقى للأذى

نوائب تقذي عينه فيشـيبُ

يحــنّ إلى أوطانــه وفـــــؤاده

له بين أحناء الضّـــــلوع وجـيبُ

على الأرض أماكن يصاب أهلها بالضجر من رتابة العيش والحصار فيها، ومن أمور كثيرة تجمعت وتراكمت على مر الزمن لتجعلهم في حالة غليان وضيق مما يواجهون في بلدهم التي تضيق عليهم الخناق وتقف بسلطاتها أمام طموحاتهم وأمنياتهم التي تقتل إبداعهم في مهده.

هؤلاء هم الذين يغامرون بأرواحهم ويدفعون حياتهم ثمناً لأحلام غير مؤكدة في هجرة غير شرعية، وهم يتطلعون إلى من سبقهم بل ويحسدونهم على نعمة العيش في بلاد الغربة دون أن يمر في خاطرهم كل تلك الحالات التي ذكرناها ويحملها في نفسه كل مغترب أو "مـُغـَرَّب" قهراً، فتتساوى عندهم الحياة في حصار وخوف بين أهليهم، وبين مجهول لا يعرفون من تفاصيله إلا أحلاماً وأمنيات، وقد يكون موتـاً!

* كاتب فلسطيني - كندا

back to top