سرّ الرجل الغامض
لم ألاحظ الرجل المزوَّد بكاميرا مخبَّأة إلاّ حين لم أعد قادراً على تحمُّل النظر إلى النَّعشَين؛ فقد كنت أنظر إليهما منذ مدة طويلة. إذ منذ لحظة إدخال الصندوقَين الخشبيَّين إلى دار العبادة، وحتى لحظة نقلهما إلى المقبرة لم أرفع ناظرَيّ عنهما. ولكن، لدى تفوّه رجل الدين بكلماته الكئيبة، وتحديقي إلى القبرين، صدمتني الحقيقة مجدداً كمِطرقة كبيرة: أمي وأبي داخل النعشَين.لقد فارق أبي وأمي الحياة.
يستحيل التصديق، يستحيل تخيُّل الأمر، وقد آلمتني كثيراً الإشاحة بنظري عنهما. وفيما كنت أرفع رأسي ببطء وأمسح دموعي عن عينَيّ، شعرتُ بيد مربّيتي على ذراعي، فنظرت إليها. كانت تبكي أيضاً، والعبَرات تطفح من عينَيها اللطيفتَين. فضغطت على يدها، وابتسمت لها بحزن، ثم استدرت نحو جدّي الذي كان يحدّق إلى الأمام مباشَرةً، وهو عالي الرأس، ووجهه الكَهل مُثقَل بالحزن.كان رجل الدين يؤدي طقوس الدفن وهو يدعو، فيما بعضُ المشيِّعين الآخرين يتمتمون معه. حدّقت إليهم بخواء ذِهنيّ؛ مميِّزاً بغموض الوجوه المألوفة، وعندئذٍ رأيت الرجل المزوَّد بكاميرا مخبَّأة.لم أعلم في بادئ الأمر بوجود كاميرا مخبَّأة معه، حتى إنني لم أكن أعي أنني أنظر إليه. كنت فارغ الذِّهن، وأحدّق فحسب، غير مُدرك في الواقع لما أراه. لم أبدأ بإيلائه المزيد من الاهتمام إلا عندما أطلّت الشمس من وراء السُّحب للحظات، ولمع وميضُ ضوءٍ صادر من أحد أزرار بذلته.إنه طويل القامة نوعاً ما، شعره رماديّ قصير، وعيناه رماديّتان فولاذيّتا اللون، وكان يقف قرب أصدقاء قُدامى لوالدَيّ منذ زمن الجامعة. أدركت أنه لا ينتمي إليهم؛ فكلّهم في سنّ أمي وأبي نفسها تقريباً- أواخر العقد الثالث وأوائل العقد الرابع- ولكنه في الخمسين على الأقل، وربما أكبر سنّاً بقليل. وأنا أعرف كل أصدقاء أمي وأبي، وكل الحاضرين في الجنازة، ولكن لم يسبق لي أن رأيت ذلك الرجل. كانت سنه هي الفارق الوحيد الذي يميّزه عن الآخرين. وهناك أمر آخر أيضاً، شيء ما بشأنه خارج عن المألوف...بعد ذلك، لمع زرّه مجدداً كحبّة زجاج بالغة الصِّغر، فعلمتُ فجأةً ماهيّته. سبق لي أن رأيت آلات تصوير على شكل زرّ. وقد استخدم والدي إحداها مرّات قليلة، وأراني إيّاها، وسمح لي باستعمالها. إذ كان أبي يحب أن يُريني كيف تعمل التجهيزات.أبي...أمي.وتفجّرت ذِكراهما في داخلي، مالئةً عينَيّ بالدموع مرة أخرى، فأصبح كل شيء مبهَماً في الدقائق القليلة التالية.انتهت الطقوس الدينية، فهدأت المقبرة وسكنتْ. كان مطر صيفيّ خفيف قد بدأ بالهطول، فشرع الناس بالمغادرة، مجرجِرين خُطاهم بارتباك أثناء ابتعادهم عن القبرين واتجاههم نحو سياراتهم.وضع جدّي يده على كتفي.ومسحتُ عينَيّ ونظرت إليه.«هل هناك ما تريد قوله يا ترافيس؟». سألني برِفق.لم يكن بإمكاني التفكير، فقد كنت أشعر بخواء ذهني. حملقتُ حَولي، باحثاً عن الرجل ذي العينَين الرماديّتَين فولاذيّتَي اللون، ولكنني لم أرَ أي أثر له.وحدّقتُ إلى القبرين حيث يرقد والداي. هناك أمور كثيرة أردت قولها، ولكنني لم أجد الكلمات المناسبة. فأغمضتُ عينيّ، متخيّلاً الكلمات المنقوشة على شاهدَتي القبرين:جاك ديلانيابن محبوب، زوج ووالدتوفّي في 16 تموز 2013 عن عمر 38 عاماًاُرقُد بسلامإيزابيل ديلاني ابنة محبوبة، زوجة ووالدةتوفّيت في 16 تموز 2013 عن عمر 37 عاماًارقُدي بسلامماذا هناك سوى ذلك لِيُقال؟ورأيت الرجل رماديّ العينَين مرة أخرى أثناء عبورنا مرأب السيارات الخاص بدار العبادة متجهين إلى سيارة جدّي. كان واقفاً بجانب سيارة بي أم دبليو سوداء، ذات نوافذ قاتمة اللون نوعاً ما، وهو يتحدث عبر هاتف محمول. عندما وصلنا إلى سيارة جدّي، أنهى اتصاله الهاتفي، وفتح صندوق سيارته مُخرِجاً منه مِعطفاً. وفيما كان جدّي يبحث عن مفاتيح السيارة في جَيبه، أخرجتُ هاتفي المحمول، وشغّلته، ووضعته على وظيفة التقاط الصور. كان الرجل قد ارتدى معطفه، ويُغلِق الصندوق. وعندما رفعتُ هاتفي وقرّبتُ صورته، رأيته يُلقي نظرة سريعة عليّ. تسمّر في مكانه للحظات، وعيناه الباردتان تحدّقان إليّ عبر شاشة الهاتف المحمول، فالتقطتُ صورة له بسرعة. وبعد ثانية من طقطقة كاميرا الهاتف، اعتقدتُ أنه يومئ لي برأسه.سمعتُ جدّي يقول: «ماذا تفعل يا تراف؟».فهمهمتُ، وأنا أضع هاتفي المحمول جانباً: «لا شيء».نظر جدّي إلى سيارة البي أم دبليو، ولكنه لم يرَ شيئاً. إذ كان الرجل قد دخل السيارة وأغلق الباب، وبات وجهه غير واضح وراء الزجاج الداكن. واصل جدي التحديق إلى البي أم دبليو للحظات قليلة وهو متجهّم الوجه، ثم استدار نحوي.وقال فاتحاً الباب الخَلفي لسيارته: «هيّا يا بُنَي. لِنذهبْ إلى المنزل».2كان أبي وأمي يديران مكتب تحقيقات خاصاً وصغيراً يدعى ديلاني وشركاؤه. لقد أسس جدّي مكتب التحقيقات بمفرده عام 1994، وشرع أبي وأمي بالعمل لديه بعد عامَين، أي بعد مغادرتهما الجامعة مباشَرةً. وبعد عشر سنوات، اعتزل جدّي العمل، وأدار والداي المكتب معاً مذاك الحين. لم يكن معظم ما قاما به فاتناً أو مشوِّقاً- ملاحقة التعويضات من شركات التأمين المتملصة من الدفع، والاهتمام بأمن الشركات، وتتبّع آثار شهود ومَدينين- وبالرغم من تورّطهما أحياناً في أمور غامضة، إلاّ أنه لم يسبق لي أن قلقتُ على سلامتهما. فقد كانا يجيدان عملهما إلى حد كبير، ويعرفان ما يفعلانه، ولا يجازفان إلا إن دعت الحاجة إلى ذلك. لذا، لم يخطر ببالي قط أنهما قد لا يعودان إلى المنزل ذات يوم. فهما أمي وأبي، وهما يعودان إلى المنزل على الدوام.ولكن، قبل أسبوعَين، أي يوم الثلاثاء الواقع في 16 تموز/ يوليو، لم يعودا.لن أنسى ذلك اليوم أبداً.إنه اليوم الذي توقّف فيه العالم عن الدوران.عدت من المدرسة إلى المنزل في الوقت المعتاد، أي قرابة الساعة الواحدة والنصف. وبعد أن استبدلت بذلتي الرسمية بملابس أخرى وتناولت بعض الطعام، أخبرني أبي وأمي أنهما سيتوجهان إلى لندن في تلك الليلة ولن يعودا حتى اليوم التالي.قالت أمي مُلقيةً نظرة سريعة إلى ساعتها: «نحن آسفان يا تراف. أعرف أن الأمر مفاجئ قليلاً، ولكنْ طرأ أمر ما، وعلينا السفر إلى لندن في أسرع وقت ممكن. سيتوجب عليك البقاء مع جدّتك وجدّك الليلة».فقلت: «ولكنّ اليوم هو الثلاثاء. وهو يوم تدرّبي على الملاكمة».فقال أبي: «لا يزال بإمكانك الذهاب إلى النادي. سيصطحبك جدّك».فقلت: «إنه لا يحب الملاكمة، ويعتبرها للأشخاص غير الأسوياء».فابتسم أبي وقال: «اذهب وأَعِدّ حاجياتك، اتفقنا؟ علينا الانطلاق في غضون دقيقة، وسنُنزلك في طريقنا عند جدّتك وجدّك».غريب كيف تعمل الذاكرة. أعلم أنني لا بد أن أكون قد صعدت إلى غرفة نومي في الطابق العُلوي، ورميت أشياء قليلة داخل حقيبة ظهري- كفرشاة الأسنان، والبيجاما، وقفّازَي الملاكمة، وسروال قصير- ولكنني لا أذكر أبداً كيفية قيامي بالأمر. فما أستطيع تذكّره هو أنني عندما نزلت إلى الطابق السُّفلي، وخرجت لوضع حقيبة الظهر في السيارة، رأيت أمي وأبي واقفَين في الطريق الخاص بالمنزل وهما يتجادلان. كان أحدهما يصيح في وجه الآخر، أو ما شابه. لم يسبق لهما أن قاما بذلك. في الواقع، لم يكن جدالاً بل كان خلافاً طفيفاً في الرأي. فقد أرادت أمي الذهاب بسيارتها إلى لندن، فيما أراد أبي الذهاب بسيارته. فسيارة أمي الفولفو مزوَّدة بجهاز أوتوماتيكي لنقل الحركة، وهي أكثر توفيراً للراحة من سيارة أبي القديمة. ولكنّ سيارة أمي مركونة في المرأب، في حين أن سيارة أبي مركونة على الطريق الخاص بالمنزل. لذلك، إذا قررا الذهاب بسيارة أمي، فسيتعيّن على أبي تحريك سيارته في الاتجاه المعاكس، وركنها في الشارع بانتظار قيام والدتي بإخراج سيارتها من المرأب، ليعيد سيارته إلى مكانها.