العطفة
(سِفر شَمّا)تزوج الشيخ هَذّال وطَلـّق العديدَ من النساء، كعادة جميع البدو آنذاك، كيف لا، وهو شيخ القبيلة ورأسها؟ فإن لم يكن لديه العديد من الأبناء فستضْمحلّ الأسرة، ويذهب شأنها بذهاب (الشِّيـِخَة). تقول أم جابر إنها قامت بتوليد جميع نساء الشيخ هَذّال، وكل مَرّة –تـَحْلِف– أن الشيخَ هَذّال كان يعطيها ليرةً ذهباً، صفراء تلمع، حتى إنها عندما تفتح الكيس وتنظر إليها تواريها عن الشمس كي لا «تَجْهَر بَصَرها بانعكاس ضوء الشمس» على حدِّ قولها.
تقول أم جابر إنها:– «لم تـُعطَ أي شيء عند ولادة البنات، لكن الشيخ أعطاها ليرة ذهبية عند ولادة ابنته الأولى شَمّاء فقط».شَمّاء أصبحت الفتاة المُدلّلة، لكنها على غير عادة الفتيات المدللات لم تكن (مايعة) أو غير مبالية، بل كانت أخت رجال، «يِنْشَدّ بيها الظَهَر وتحْطها على يِمْناك»، كما يقول البدو. الشيخ هَذّال شخص له نظرة ثاقبة، توسّم النَجَابة في ابنته شَمّاء من صغرها، بل توقع لها التفوق على أقرانها من الفتيان؛ لأنها كثيراً ما كانت تتشاجر معهم وتتغلب عليهم، كما كانت تلازم مجلس والدها باستمرار، على عكس عادة معظم الصغار الذين يحبذون قضاء معظم أوقاتهم في اللعب واللهو بين بيوت الشَعَر، أو مُطاردة أفراخ القَطَا والكُدْرِي في المراعي المجاورة، وخصوصاً أيام الحصاد، حيث يكون موسم تفريخ تلك الطيور.سـُرّ الشيخ هَذّال كثيراً عندما عرف أن شَمّاء قد قتلت الأفعى الصغيرة التي حاولت مهاجمة جوهرة؛ أختها الصغرى التي ترقد في (الهزّازة)، حيث قامت الأفعى بتسلق أحد الحبال الأربعة التي تُعلـّق (الهزّازة)، وقد ضربتها شَمّاء بحركة سريعة (بجَناة) غليظة مصنوعة من خشب السنديان جلبها الراعي نوماس من جبال البلعاس عندما اتجهوا صوب جبال البطم في ربيع قاحل. شَمّاء لم تكن كمعظم الأطفال الصغار الذين يهابون الليل والحرامي، إذْ لم تـُجدِ معها نفعاً محاولات أُمّها في إخافتها من (الحَراميّة) وتنويمها، على عكس إخوتها الآخرين وسائر أبناء البدو، إذْ كانت تقول لأمِّها في الصباح:– كنت قاعدة طول الليل أحرس إخوتي مشان ما تهاجمهم هَامّة.وفعلاً، كانت أمها تراقبها، تنام وهي تحدِّق مفتوحة العينين، كأرنب صغير تحسبه مستيقظاً عندما تنظر إليه... كديدن البدو في اختصار الأسماء، كانوا ينادون شَمّاء بـ(شَمّا)، وقد نعتها والدها بـ(الأميرة شَمّا) لمكانتها في قلبه... حتى إن من يحيطون به وبعض شيوخ القبائل استغربوا حضور ابنته الصغيرة مجالسه!أدْمَنتْ شَمّا سماع حكايات الكبار وأحاديثهم، لدرجة أن الدُمى التي تصنعها لها أم فليّح من الصوف أثناء موسم (قَصّ الأغنام) لم تعد تشدُّها، حيث يجتمع معظم رجال القبيلة في (رَبْعَة) بيت الشَعَر عندهم، في أوائل شهر أيار، حينما يكون البرد قد آذن بالرحيل، وبدأ الجو يعتدل، ويظهر الهُدهد وطيور السنونو. كان والدها كعادته دائماً يعدّ لهذه المناسبة كبشين أقرنين يذبحهما للرجال على الغداء عند الانتهاء من قصّ أصواف الأغنام. كثيراً ما كانت شَمّا تستمتع بذلك الموسم، وقد كانت تساعد الرجال أيضاً، حيث تقوم بإمساك بعض النعاج وجلبها لتكتيفها وقَصِّها... وكان أكثر ما يثيرها معرفة من ينتهي من قص الصوف أسرع ومن يفوز عندما تحتدم المنافسة بين الرجال (القواصِيص)، يتسابقون؛ من الذي سينتهي من قـَصِّ نَعْجة أولاً، ويُمنع في تلك المباراة كل أنواع الغش، بما فيها استخدام (المقصّ) الذي كان البدو يحرمون استخدامه، حيث إنه يستخدم من قبل أهل المدن والقرى الذين لا يجيدون مهارة استخدام (الزَّوْ).كانت شَمّا ضمن فريق العم أبي فليّح الذي عادة ما يفتتح الموسم بتحدّيه أحد (القواصِيص)، وإن فاز على الجميع فسيعطيه الشيخ هَذّال (فِطِيمَة) فيصرّ هو أن تكون ابنة النَعجة العَبْسَة، (المِرْوَاس) التي تتقدم القطيع دائماً أثناء وروده الماء. فيوافق الشيخ هَذّال على ذلك لأنه وضَعَه أمام الأمر الواقع؛ بأن طَلَبَها منه أمام جميع (العَرَب)، وفي ذلك اليوم بالذات. يتندر أحد الحضور فيقول لأبي فليّح:– شحَّاذ ومشارط.فيضحك الجميع. كان أبو فليح يدرك أن خصمه لن يصمد أمامه إذا لم يبدأ بقص النعجة من رقبتها، منحدراً إلى جنبها، وكثيراً ما كان ذلك الموقف يُضحك شَمّا وجميع الحضور حين يفوز على خصمه ويقوم بتغطيته (بجـِزَّة) النعجة التي قام بقصِّها كناية عن فوزه. يتبجح أبو فليح ويقول مفتخراً وهو يمسك السيجارة بين شفتيه، ويغمض عينيه تارة ويحاول تغيير اتجاهه تارة أخرى، علّ دخان السيجارة يبتعد عن عينيه:– يالربع كل قواصيص هالعربان بهالمنطقة لَبّست كل واحد منهم جزّة. أبو فليّح يتعامل مع خصومه بخبث ودهاء؛ إذ كان يتفق مع من يجلب له النعاج ويكتفها، بأن ينتقي له الأغنام السمينة التي يكون صوفها أبيض الجذور (مِخرْجَة) كما هو متعارف عندهم، حيث يكون قصّها أسهل بكثير من النعاج العجاف الضعيفة التي يلتصق جلدها بعظمها، وربما تكون هذه غريزة للكثير من الناس؛ بإصرارهم على كسب معاركهم مهما كلف الثمن، ومهما كانت الوسيلة.أثناء احتدام المنافسة، ينسى أبو فليّح نفسه، ويعلو صوته بالحداء والهتاف، فيخرج الزَبَد من بين أسنانه النخرة، والتي تبدو (كزَرْب) من البَرْدِي تآكلت عيدانه، وتكسّر بعضها بفعل الزمن وكثرة الرحيل، ويشتدُّ تعرّقه، فتبدو هالة بيضاء من العَرَق حول حِزامه، لكنّه غير مبالٍ بكل ذلك، ولا يشغله سوى هدف الفوز، وكسب نجومية ذلك الموسم ليضيفها إلى رصيده البطولي. كان الجميع مسروراً، لأن تلك المناسبة تمثل موسماً ترفيهياً لهم، كالأعراس والطهور أيضاً.عند ارتفاع شمس الضحى، يأتي وقت الاستراحة، فيتوقف الجميع لتناول الفطور؛ والذي يتكون عادة من اللبن الرائب (الخَاثِر) و(الزبدة)؛ التي تـُخْرَج من (مِزْبَد) يرقد في زاوية بيت الشعر، مصنوع من الجلد، وضُع على حجر مسطح، وقد تمّ تدثيره لتأمين درجة كافية من البرودة كي لا يذوب ما فيه من (زبدة). الشاي داكن السواد، والمُبَالَغ في حلاوته، يجعلك تشعر وكأن شفتيك تلتصقان، وهو شيء أساسي في الفطور، كما هو خبز الحنطة؛ والذي لا يتوفر إلا في بيوت الشيوخ وميسوري الحال، إذْ يتناول معظم الناس خبز الشعير. ومن الطرائف أنه عندما انقطع الشاي وأصبح من الندرة حيث يصعب الحصول عليه، وأصبح معظم من يسكن بيوت الشعر يشعر بالدوخة طوال يومه بسبب عدم تناول الشاي، والذي يربو على عشرين قدحاً في اليوم، حتى أن أكثرهم يقول: أشعر أن دمي يتكون في معظمه من الشاي، وأصبحت القصائد تتغنى بمرض العذارى لفرط الوجد للشاي.يا محَلا الشاي والبَال رَايقبفيضةٍ بيـن قومـك ورَبْعَـكرجال(ن) مناعير زِين الخَلايقيوم الوَغى تِِرْسَك ودرعَـكووصل الأمر ببعض الشباب والفتية بإهداء حبيباتهم مكعبات السكر التي يخبئها في (عُبّه)..ذات يوم كان شَرْهَان يتلقى الدَلو عند خروجه من فوهة القليب، حيث يقف حافي القدمين على حجارة فوهة البئر الملساء بفعل الزمن وكثرة الاستعمال، وبَرْيِها من الرِشاء، وينحني إلى الأسفل لالتقاء الدَلو، وسكبه في حوض جانبي مصنوع من الحجارة، ولسوء الحظ سقط من (عبّه) ما كان مخبّأ من مكعبات السكر في فوهة القليب، فأعرب عن انزعاجه الشديد، وأخبر بذلك الولد الذي يسوق (السَّانية) – الحصان أشقر اللون– والولد أخبر من ورد الماء عمـّا وقع لصاحبه، فتناقل الجميع الخبر وتندروا في مجالسهم، حتى إن بعضهم أصبح يقول:– ماء البير صار حلو هالأيام.. فيضحكون، ويشعر صاحبهم بالحَرَج.* * *في المساء تعود القطعان للمبيت حول بيوت الشعر، وتكسر سكون أمسيات الشتاء أصوات أجراس المراييع ، وهذه تنجو من جَزِّ أصوافها كل ربيع، حيث تترك وهي ترفل بأصوافها التي تكاد تلامس الأرض، ويتم تقصير صوفها من تحت آباطها، أو (تسفيلها)، لكي تنعم بنسمات الهواء أثناء الصيف القائظ. تتسابق النِعَاج في طريق (المِرْوَاح) أثناء عودتها، ويحفُّ كل قطيع كلبان– أو أكثر– يبديان الكثير من اليقظة، والاحتياط لأي طارئ؛ من هجوم ذئب أو ضبع، وأحياناً يكون الأمر برمته نوعاً من استعراض العضلات، للفوز بوجبة عشاء بعد الوصول إلى مضارب القبيلة.يختلط ثغاء النعاج العائدة من المرعى بثغاء الاستغاثة الذي تطلقه الحملان الصغيرة التي حُبست في (الكوزة) ، ولا يُسمح للحملان بمرافقة أمهاتها لأن سنّها لا تسمح بذلك، وللاستفادة من حليب أمهاتها بعد العصر، حيث يشكل الغذاء الرئيس في تلك الفترة للأسر البدوية. أكثر ما كان يُضحك شَمّا ويثيرها؛ عند عودة النعاج، إسراع الحملان للقاء أمهاتها، فيختلط الثغاء ويرتبك الجميع، فيسرع حَمَلٌ يدسّ رأسه في ضرع نعجة على عَجَل، فيكتشف عن طريق الرائحة أنها ليست أمّه، ثم تبدأ رحلة البحث عنها وسط ذلك الحشد الكبير، ووسط موسيقى غير متناسقة من الثغاء وصياح الرعاة ونباح الكلاب.كانت شَمّا تراقب ذلك المشهد اليومي وتستمتع به وكأنها تراه لأول مرّة، فتقف متأملة حَمَلاً اهتدى إلى أمّه ويلتقم ضرعها على عجل ويرضع ويهزّ إليته كناية عن فرحته واستمتاعه، والأمُّ بدورها تشمّ (عَسْبُوله) ، لتعبّر له عن حبها وشوقها له، وتحثّه في الوقت نفسه على متابعة الرضاعة. شَمّا تترقب وصول القطيع، ليسلمها الراعي خروفاً صغيراً ولدته أمّه في المرعى، فتحمله متحسسة إياه بتحبب، وذلك بوضع خدها على وجهه ورقبته، وهو بدوره يلعق خدها، فتجتاحها قشعريرة، ويقف شعر جسدها، فتطلق ضحكة طفولية.بعض الرعاة الأشقياء يتأخرون بالعودة بقطعانهم إلى مضارب القبيلة، وذلك لمقابلة إحدى الراعيات تحت جنح الظلام، لأن الليل يستر كل عيب– كما يقولون– إلا أنه يفضح من فيه منقصة الجُبن والخوف. بعضهم يتباهى بحيازة منديل كهدية من حبيبته، فيشمّه عندما يخلو بنفسه، ويتذكر أجمل لحظاته معها، والتي يشوبها خوفه من أن (يحيرّها) ابن عمِّها، أو يزوجها أبوها ممن هو أكثر منه رفعة في القبيلة، فيعذبه خوفه ذلك – ربما– أكثر من وقع المصيبة نفسها، فينتفض فجأة كمن لسعه ثعبان، ويصبح المنديل ذكرى مؤلمة، وجرحاً نازفاً مدى الحياة.ويضطر في كثير من الأحيان إلى مغادرة القبيلة، قبل إعلان زفاف حبيبته لشخص آخر. ربما يكون هذا الحَدَث بداية لحياة جديدة، عند وصوله إلى مضارب قبيلة أخرى عادة تكون بعيدة عن قبيلته، لكي يغيّر كل ما يدور حوله من أحاديث ووجوه، وحتى التضاريس الطبيعية أحياناً. يضيع الكثير من الشباب في هذه الأنواع من المغامرات، بسبب إعطاء معلومات مغلوطة عن أهلهم وقبائلهم وتغيير أسمائهم، لكن الحصفاء من القبائل الأخرى يدركون بفراستهم أن وراء مَقْدم ذلك الرجل قصة ما؛ كقتل أحدهم، والهرب خوفاً من القصاص.