أصخ لذاتك

نشر في 23-01-2016
آخر تحديث 23-01-2016 | 00:00
 عفاف فؤاد البدر عندما كنت أخرج مع الوالد، رحمة الله عليه، للدعوة في سبيل الله، كانت تحدث لنا أمور غريبة وعجيبة، بالإضافة إلى شعورنا بخفة أرواحنا وتزكية نفوسنا، فرغم قساوة الوضع والتنقل من مكان لآخر والسكن في بيوت غير بيوتنا، ورؤية أشخاص لا نعرفهم من قبل، إلا أن استقبالهم لنا وفتح بيوتهم دون أن تكون لنا أي علاقة بهم، كان يشعراننا بنوع من الحميمية والألفة.

عندئذ كنت أسأل نفسي: ما الذي يجعلني في مثل هذه الحالة من الحب والروحانية والسلام الداخلي رغم مشقة السفر وعنائه؟ ولماذا يستقبلنا أناس لأول مرة يروننا في بيوتهم ويضيّفوننا يومين أو أكثر، ثم يودعوننا بالبكاء والحزن على الفراق، ونبادلهم بنفس الشعور ببكاء ملئه الحب والصفاء والسلام؛ فاستغرب أكثر! وكثيراً ما كانت نفسي تحدثني برغبة في تناول شيء ودون أن أبوح به أجد أهل المنزل الذي يضيّفنا يقدمونه لي فأقول في نفسي سبحان الله!

وذات مرة أثناء سفرة إلى فرنسا، رجوت أن نسكن في منزل خشبي موجود داخل منطقة ريفية، وإذ بي أجد أننا نسير بعيداً عن المدينة وظهرت المناطق الريفية حيث جمال الطبيعة والمزارع المملوءة بالعنب تنتشر على مد البصر مع ورد عباد الشمس، أو "عباد الله" كما كان يقول والدي، رحمة الله عليه- وكذلك القمح والذرة حتى ركنت السيارة بجانب منزل كما أردته تماما! والأجمل أن تلك الأمنية لم تكن نيتي فقط، بل كل المجموعة التي كنت معها، وعندئذ فرحنا أيما فرح وقلنا سبحان الله!

حينئذٍ أدركت أنه كلما اقترب العبد من ربه وترك دنياه وراحته وملذاته من أجل والدعوة إليه تعالى، أحاط الله روحه الجميلة النقية بأجنحة الملائكة، تحوك له ما أراد، ليس فقط في أمور آخرته، بل في الدنيا كذلك، فقد كنت في ذلك الوقت تخرجت من الجامعة ومكثت فصلاً كاملاً لم أعمل، لذا كنت أخشى التأخر أكثر، لأنه لا أحد يتابع أوراقي للعمل، وفوضت أمري لله، فإذا بربي، جل جلاله، يعوضني وبمجرد عودتي وجدت اسمي من المعلن عن توظيفهم، فحمدت الله أيما حمد وأدركت معنى قوله تعالى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ"،

ومع مرور السنين وازدياد وعي وكثرة الاطلاع ومصاحبة رفقة إيجابية محبة للخير والسلام، أدركت أن الموضوع أكبر من ترك الدنيا من أجل الآخرة بل هو انسجام كل ما فينا مع الكون ومع إرادة الله وعيش البهجة والسعادة، وأن المتعة ليست بلوغ الهدف، بل في الطريق إليه تكمن قمة الروعة والبهجة؛ حيث تكتشف ذاتك وتعرف كيف تتعامل معها وتجعل كل ما في الكون مسخراً لك طوعا، فهذه رسالة الكون المسخرة لخدمة الإنسان، فما عليه إلا أن يصيخ لها ويستمتع بجماله ويؤدي رسالته تماشيا مع المنظومة الإلهية التي خلقه الله من أجلها.

وإن حقيقتنا تكمن في الصمت! فجرب أن تصمت وتنادي نفسك فستجد صوتاً داخلياً يجيبك، فإذا كنت قد صحبته منذ زمن وتعرفت إليه فسيكون صوته عاليا، أما إذا لم تكن وجدته بعد، ولم تلتفت إليه فلن تسمع ذلك الصوت، وإن ظهر فسيكون خافتا جدا، وهذا الصوت يظهر عندما تكون أكثر حبا لذاتك كما يقول جلال الدين الرومي: "الحب هو المركز الكوني لكل أشكال الحياة، والقلب يعتبر مكتب بريد الاتصال بكل العوالم، وهو سكن الحقائق الإلهية".

back to top