المكانة الاجتماعية... أهميّتها في صوغ الإنسان

نشر في 28-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 28-03-2016 | 00:00
No Image Caption
يتناول الفيلسوف وعالم النفس التنموي البارز جيروم كاغان في سلسلة من المقالات ما يمكننا توقعه عن أولادنا ومستقبل مجتمعنا.
ندخل وفق بعض المقاييس قرن الضعيف الذي لم يُهزم، والنخبة المعرَّضة للخطر.

تركّز نحو 70% من أفضل الكتب على لائحة صحيفة “نيويورك تايمز” لعام 2014 على محن الضحايا، شأنها في ذلك شأن نصف الأفلام الفائزة بجوائز أوسكار في العقد الأول من هذا القرن. في الوقت عينه، يشير عالِم النفس التنموي البارز جيروم كاغان في كتابهOn Being Human:Why Mind Matters (حول الكينونة إنساناً: لمَ العقل مهم) إلى ميل عام إلى التقليل من أهمية النخب التاريخية والمعاصرة.

في السير الذاتية الأخيرة لجورج واشنطن، تكثر التفاصيل عن كبريائه واعتداده بمكانته، صفتان أخفقت التقارير في الكشف عنهما طوال القرنين الماضيين، وفق كاغان. وكتب الفيلسوف أيضاً أن النقاش في آخر اجتماع حضره لهيئة التدريس في جامعة هارفارد عام 2000 تمحور حول ما إذا كان يجب إرسال إخطارات بالوفاة مطبوعة على ورق فاخر لإعلام المجتمع بوفاة أحد أعضاء هيئة التدريس المتقاعدين. فقد شدّد أعضاء الهيئة الجدد على أن الموظفين كلهم، بمن فيهم البوابون وعمال المباني والباحات، يستحقون تكريماً مماثلاً.

لا علاقة لتركيز كاغان على التراجع المعاصر لأهمية المكانة بعجرفته. يشتهر هذا الفيلسوف بدراساته الطولية التي تبدأ في الطفولة وتتتبع نمو الشخصية حتى مرحلة متقدمة من البلوغ. ويشكّل التفاعل بين الطبع وأسلوب التربية أحد أهم المتغييرات التي يبرزها عمله. رغم ذلك، يعتقد كاغان أن الانتماء الباكر إلى طبقة اجتماعية وسلالة أسرية يمثّل نقطة بالغة الأهمية لها تأثير كبير في تكوين الإنسان مفهومه الخاص عن نفسه، مع أن هذه النقطة لم تُدرس بشكل كافٍ. ويذهب إلى حد القول إن الانتماء إلى أسرة نبيلة كان له تأثير واضح في صوغ شخصية كل من تشارلز داروين وونستون تشرشل، فلا يرتكز استعداد هاتين الأيقونتين على السعي وراء أفكار لا تلقى رواجاً كبيراً على طبع الأول أو طريقة تربية الثاني. من المعروف أن داروين كان دائم القلق، وأن تشرشل تعرّض لإهمال كبير خلال نشأته. لذلك يرى كاغان أن من “المستحيل” تفسير شخصية تشرشل القوية عندما أصبح بالغاً من دون أخذ في الاعتبار تصنيفه نفسه في شبابه عضواً في عائلة من النخبة.

شفرة الجينوم البشري

في مقالات كاغان، نرى مفكراً متحمساً لمجموعة عمليات معقدة تظهر تدريجياً. يتوق الفيلسوف إلى فك شفرة الجينوم البشري ويعرب عن ذهوله من أن عمر الإنسان المديد اليوم يعود إلى قرن من التقدّم الطبي، خصوصاً أن عمر جنسنا يفوق المئة ألف سنة. أمضى كاغان مسيرته المهنية في تحديد المؤثرات الكامنة المتداخلة في نمو الإنسان. ويطبّق هذه المقاربة الطويلة الأمد عينها على تفاعلات المجتمع، متأملاً قروناً من المعلومات والبصيرة. على سبيل المثال، في دراسته العدائية المتزايدة تجاه النخبة، لا يكتفي كاغان بتحديد ميل، مثل تنامي رفض منح السياسيين، الأطباء، أو كبار أساتذة هارفارد مكانة مميزة، بل يتساءل أيضاً عما ستسفر عنه هذه النزعة، مجرياً مقارنات أولاً مع حركة الإصلاح حين أدى تحدي السلطة إلى تمتع عدد أكبر من الناس بالمساواة والفرصة المتاحة، وثانياً مع تداعي العقد الاجتماعي الذي يحدّ معه أصحاب الاختصاص الذين فقدوا مكانتهم من تطلعاتهم ويتحوّلون إلى ضحية توقعات ذاتية التحقق.

تمحور عمل كاغان بحد ذاته حول طباع الأطفال وعكس حدود قدرتها التوقعية، فشكّل هذا العمل بحثاً بالغ الأهمية له تداعيات كبيرة بالنسبة إلى كل مَن يود دراسة الشخصية وقوتها. قد نظن أن ميولنا الباكرة وتأثير الأهل يؤديان دوراً كبيراً في نمو الولد. ويعزو كاغان هذا التفكير إلى أن هذه بيانات تسهل ملاحظتها. لكنه يشدّد في المقابل على أن الدرجة التي يعرب بها طفل في شهره الخامس عشر عن نمط تعلّق آمن لا علاقة لها بنمط تعلّقه في سن الثامنة عشرة. كذلك أظهر كاغان أن مكانة العائلة الاجتماعية تشكّل مؤشراً أفضل إلى طباع المراهق، مقارنة بنمط تعلقه كطفل. أما بالنسبة إلى أسلوب التربية، فما من تطور، باستثناء التعرض للإساءة الجنسية أو الإهمال المفرط، يكشف ما ستكون عليه النتيجة، إلا نظرة الولد نفسه إليه، علماً أن تفسير الولد للحوادث يفوق دوماً نظرة الأهل أو أي مراقب آخر إليها.

المعتقدات الراسخة

إن أردنا منح هذه المقالات الواسعة النطاق عنواناً جامعاً، يكون أهمية الإطار العام الكبيرة في صوغ المعتقدات الراسخة و”الوقائع” العلمية. يشكك كاغان في فاعلية الاعتماد على النماذج الحيوانية لتعليل خصال معقدة لدى البشر، ويشير مازحاً إلى ردّ كل عالم أعصاب يواجه انتقاداً مماثلاً: “صحيح أن ثمة أوجه اختلاف بين القردة والإنسان، إلا أنها لا تشمل جزء الدماغ الذي أدرسه”. ويؤكد الفيلسوف أن مصطلحات نفسية مثل الإجهاد قد تكون مضلِّلة، لأنها تشير إلى تفسيرات شخصية لا تنطبق على مصطلحات مثل الدوبامين والشبكة الافتراضية. ولما كان علم الأعصاب يستخدم في مصطلحاته لغة التجارب اليومية لوصف دارات الدماغ، مع أن الأخير لا يشعر مطلقاً بـ”الخوف” أو “الحنين”، فيذكر كاغان أن من الضروري التوصّل إلى مفردات جديدة لوصف ما يحدث حقاً في الدماغ، عندما تولِّد الدارات شعوراً أو فكرة ما. ويتساءل عما إذا كان العلماء ووسائل الإعلام يتسرعان في توضيح الخصال الشخصية، على اعتبار أنها بيولوجية في المقام الأول، مع أن شخصين مختلفين قد يعربان عن الخصلة ذاتها لسببين متناقضين تماماً. يكتب: “تعاني المحامية البيضاء الثرية التي تتعاطى بريبة دائمة مع رب عملها وتعامل أصحاب المتاجر تحت إشرافها بتعالٍ وقسوة جنون الارتياب. لكن علماء الاجتماع في جامعة واشنطن في سانت لويس قد يعتبرون أن هذا التشخيص لا ينطبق على البالغين السود الفقراء الذين يملكون المعتقدات ذاتها لأنهم يحظون بأساس أكثر واقعية لشكوكهم”.

يرتبط تفكير كاغان بشكل جلي بالتسلسل الزمني، فهو يهوى وصف “تعاقب” الحوادث. على سبيل المثال، ما الدور الذي أدته لقاءات عفوية مع النظراء والبروفسورات في تحويل ستالين من طالب جامعي مجتهد إلى رجل متشدد عقائدياً ومختل عقلياً، تحويل هيربرت هوفر من يتيم إلى رجل بنى صدفة ثروة في أستراليا أتاحت له دخول معترك السياسة، أو تحويل كاغان نفسه من ولد أخافه الكساد الكبير إلى طالب كيمياء حيوية متحمس قرر في النهاية أن يصبّ اهتمامه كله على عملية النمو؟ صحيح أننا نجهل الإجابة الدقيقة عن هذه الحالات كافة، إلا أنها تشمل بالتأكيد خليطاً من الطبع، الكفاءة، الشخصية، القيم، الأسلوب المعرفي، نظرة الإنسان إلى ذاته، وأخيراً (إن صدقنا المزاعم الأخيرة عن جورج واشنطن) الوسط التاريخي الذي يعمل فيه المؤرخ. إذاً، يشكّل الكتاب دليلاً يكسر النماذج كلها ويتيح لنا استكشاف الألغاز الكثيرة لكل عقل بشري.

back to top