البقشيش... لمَ نتّبع هذه العادة؟
يبدو تقديم البقشيش عادة لا ضرر فيها ينقسم حولها الناس في العالم. يعطي الأميركيون البقشيش بكرم، في حين أن الفرنسيين، الذين اشتهروا بكرمهم في هذا المجال سابقاً، ما عادوا كذلك اليوم.
نلاحظ أيضاً محاولات للتخلص من هذه العادة، حتى إن البقشيش يُعتبر إهانة في بعض المناطق. على نحو مماثل، ينقسم خبراء الاقتصاد حول البقشيش. فلمَ تدفع المزيد لقاء أمر في حين أنك لست مضطراً إلى ذلك؟ هذا أمر منافٍ للمنطق.
نلاحظ أيضاً محاولات للتخلص من هذه العادة، حتى إن البقشيش يُعتبر إهانة في بعض المناطق. على نحو مماثل، ينقسم خبراء الاقتصاد حول البقشيش. فلمَ تدفع المزيد لقاء أمر في حين أنك لست مضطراً إلى ذلك؟ هذا أمر منافٍ للمنطق.
صحيح أن الهدف من البقشيش تشجيع الخدمة الجيدة، إلا أن الوقت الأنسب لدفعه في هذه الحالة يكون مسبقاً. لذلك من غير المنطقي دفع مبلغ إضافي بعد أن تكون قد حصلت على الخدمة المطلوبة، خصوصاً إن لم تكن تخطط للعودة إلى المطعم أو لركوب سيارة الأجرة ورؤية سائقها مجدداً. فلمَ نتبع هذه العادة؟تُعتبر أصول هذا السلوك الغريب غامضة. يعتقد البعض أن الرومان ابتكروه، ويزعم البعض الآخر أنه ظهر خلال المرحلة الإقطاعية في أوروبا في القرون الوسطى. وتشير السجلات التاريخية إلى ما يشبه البقشيش اليوم في إنكلترا خلال عهد أسرة تيودور، حين كان الضيوف في المنازل السرية يقدمون المال كـ}إكراميات} للخدم عند انتهاء زيارتهم. استمرت هذه الفكرة، غير أنها لم تزدهر إلا عندما حملها زوار أميركيون في القرن التاسع عشر معهم إلى وطنهم.
بحلول مطلع القرن العشرين، تفشت الإكراميات في المطاعم والفنادق الأميركية، حتى إن بعض الموظفين لجأوا إليها كبديل عن الأجر. على سبيل المثال، نشر وليام ر. سكوت عام 1916 The Itching Palm، الذي دان فيه البقشيش معتبراً إياه مرضاً أخلاقياً لا يختلف عن طلب القراصنة المتوحشين الإتاوة في القرن التاسع عشر. لذلك كثرت المطالبات بحظره على اعتبار أنه لا يتمشى مع المبادئ الأميركية، فهو يؤدي إلى ظهور طبقة ذليلة لا تتماشى مع القيم الوطنية. لكن كثيرين لم يتقبلوا هذه الفكرة. في عام 1918، أوقف أكثر من مئة نادل في شيكاغو للتخطيط لدسهم السم لخصومهم بتلويث طلباتهم بطرطرات الأنتيمون بوتاسيوم، علماً أن هذه المادة تسبب الصداع، التقيؤ، وأحياناً الوفاة. نتيجة لذلك، حاولت ولايات إيلينوي، ويسكونسن، أيوا، نيبراسكا، تنسي، وكارولاينا الجنوبية حظر البقشيش من دون جدوى.تُعتبر الولايات المتحدة اليوم مركز عالم البقشيش. ويبدو أنها تصدّر هذه العادة حول العالم. عندما قارن إيد مانسفيلد من جامعة بنسلفانيا حجم البقشيش في 133 بلداً حول العالم بنسب المواطنين الذين يُمنحون تأشيرات دخول لزيارة الولايات المتحدة، اكتشف أنهما ارتفعا معاً. رغم ذلك، ما زالت هذه الممارسة تثير الجدل. فيتقاضى الملايين من موظفي قطاع الخدمات رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور ويعتمدون على الإكراميات. على سبيل المثال، ينظم النُدُل في المملكة المتحدة الحملات لمنع أرباب العمل من سلبهم نسبة من البقشيش. كذلك ما زال خبراء الاقتصاد لا يفهمون سبب رواج هذه الفكرة.حبّ الغير والذات يعتقد مايكل لين، باحث من جامعة كورنيل أمضى مسيرته المهنية في محاولة فهم البقشيش، أنه يستطيع أن يوضح هذه المعضلة الأخيرة على الأقل. يذكر أن البقشيش بدأ مع عدد قليل من الناس الذين استندوا إلى مفهومين يرتبطان بحب الغير وثالث بحب الذات: الرغبة في مكافأة الخدمة الجيدة، تعزيز دخل العمال المتواضعي الدخل، وإظهار المكانة الرفيعة من خلال الكرم. فحصل هؤلاء الرواد على أمر مقابل ما دفعوه. فقد جنوا مكافأة فكرية من مساعدتهم الآخرين ومن إعلائهم مكانتهم الاجتماعية، فضلاً عن أن فريق الخدمة خصهم باهتمام أكبر إن اتخذوا من دفع البقشيش عادة. وبعد أن لاحظ آخرون هذه العادة، حذوا حذوهم. ومع انتشار هذه العادة، نما الضغط الاجتماعي لتبنيها، فنتجت من ذلك حلقة تغذية استرجاعية. في النهاية، أصبح هذا السلوك شائعاً جداً، حتى إن الناس صاروا يحتقرون مَن لا يتبعه. نتيجة لذلك، صار مَن لا يمارسون هذه العادة يشعرون بالعار. يوضح لين: {ومن هنا ولد الإحساس بضرورة إنجاز واجب اجتماعي بتقديم البقشيش}.يفسر هذا الواقع لمَ يبدو دفع البقشيش عملاً غريباً متناقضاً. فهل نقدم على أمر مماثل لننال المكافآت التي نعم بها أولئك الرواد أم أننا نحاول التأقلم مع المجتمع وتفادي الرفض؟ يعتقد لين أن معظم الناس يختارون الجواب الثاني. ويشكل هذا الأمر، في رأيه، الحجة الأقوى التي يستند إليها مَن يشنون الحملات في محاولة لإلغاء هذه العادة. إلا أنها ليست الحجة الوحيدة. اكتشف لين أن عمال المطاعم السود في الولايات المتحدة يتلقون بقشيشاً أقل، مقارنة بنظرائهم البيض، مع أن مستوى الخدمة لا يختلف. ويشير باحثون في جامعة يال إلى أن الأمر نفسه يحدث مع سائقي سيارات الأجرة. فيبدو أن تمييزاً عرقياً خفياً وربما غير واعٍ يرتبط بمسألة الإكراميات، وفق ليمن، الذي يضيف: {لا شك في أننا سنشهد دعاوى قضائية بسبب هذه الممارسة}.لا تتوقف المسألة عند هذا الحد، فثمة أوجه شبه مقلقة بين البقشيش والرشوى. في مقارنة شملت 32 بلداً، اكتشف ماغنوس تورفاسون من جامعة أيسلندا أن الدول التي كان فيها البقشيش أكثر انتشاراً عانت مقداراً أكبر من الفساد. يقول: {أشعر أننا إذا لغينا البقشيش، لا يعود الناس يختبرون هذا النوع غير الرسمي من التبادل. ولا شك في أن هذا أمر يصعب الرشاوى}. وتشكل أيسلندا خير مثال على ذلك مع تراجع عادة تقديم البقشيش في هذا البلد والتشديد على ضرورة أن تكون المعاملات والصفقات شفافة.إذاً، كيف يمكننا أن نتخلص من عادة تقديم البقشيش التي تزداد انتشاراً؟ يجيب خبير الاقتصاد أوفر عازر: {يجب إضافة تعرفة محددة إلى الفاتورة لقاء الخدمة في المطاعم كافة. وهكذا تختفي هذه العادة}. اتضح أن هذه المقاربة فاعلة في فرنسا، حيث كانت الإكراميات واسعة الانتشار ومربحة جداً في الماضي، حتى إن المطاعم صارت تأخذ المال من الندل لتوظفهم. ولكن بدءاً من عشرينيات القرن الماضي، صارت المطاعم تحدّد تعرفة لقاء الخدمة. وبمرور الوقت، تحولت هذه الممارسة إلى خطوة يفرضها القانون، إذ ينصّ منذ عام 2008 على ضرورة دفع هذه التعرفة إلى طاقم العمل، ما ساهم في تراجع عادة تقديم البقشيش.يعرب تورفاسون أيضاً عن سروره لصمود الثقافات الرافضة للبقشيش في وجه هذا المد الزاحف. يخبر: {تدور في الولايات المتحدة مناظرات بشأن الحد من أهمية البقشيش تفوق بعددها ما نراه في أيسلندا، وهذا تقدم جيد بالتأكيد}.* جون وايت