الإصلاح الاقتصادي... حضر الجميع وغاب الاقتصاد
في ستينيات القرن الماضي وإثر تداعيات نكسة 5 يونيو (حزيران) علت أصوات عدد من الاقتصاديين والقلقين على مستقبل البلاد الذي أصبح مرتبطاً ارتباطاً كلياً بالنفط، ونادت بضرورة إعادة الكويت إلى مكانتها التجارية السابقة، وتطويرها لكي تصبح مركزاً مالياً وتجارياً، وبقيت الدعوة قائمةً لكنّ شيئاً لم يتغير، وظلت المناداة شعاراً يتردد في خطابات المسؤولين في كل مناسبة، وديباجةً تُستهَل بها الكلمات والخطب.وفي مطلع ثمانينيات القرن المنصرم أطلق الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد - رحمه الله - دعوة في خطاب مهم لا يقل أهمية عن خطابه في يونيو 1971 حين كان رئيساً للوزراء، أعلن فيه ضرورة الحاجة إلى نقلة نوعية للبلاد من الدولة الريعية، التي تعيش على مورد واحد ونمط استهلاكي اتكالي، إلى دولة تنشد التغير النوعي الذي يحفظ حقوق أجيالها القادمة. ليكون ذلك الخطاب بمثابة «مبادرة» والتزام من الحكم بتحقيق «النقلة النوعية.»
ومرت أربعة عقود ونصف لكنّ شيئاً لم يتغير في اتجاه تحقيق تلك الغايات والالتزامات، وما تغير هو أن الأمور أصبحت تتداعى من سيئ إلى أسوأ، ومازالت تصدح في آذاننا خطابات «تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري».نعيش حالياً تكراراً لتلك الأجواء، لكن تدهور أسعار النفط هذه المرة داهمنا فزادت خطابات الإصلاح الاقتصادي، وسياسة الترشيد، وتقنين الهدر والإنفاق، لكن شيئاً لم (ولن) يتغير...! الآن يناقش أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية ملف الإصلاح الاقتصادي وحزمة الدعومات وإعادة النظر فيها. والحكومة هنا تجاهلت مبدأ فصل السلطات، وأنها المسؤولة والمعنية بهذه المشكلة، فوضعت الكرة في ملعب النواب، حتى تسلم مما يمكن أن يسببوه لها من أذى، فتلقفها النواب ليلعبوا بها وفقاً لتطلعاتهم الانتخابية وتكسبهم للأصوات. وفي خضم حديث الحكومة عن محاور الإنقاذ، تتعالى أصواتها لخصخصة بعض القطاعات العامة، ولكن من يثق بحديثها وهي التي فشلت في خصخصة الخطوط الكويتية حتى الآن، وقبلها المواصلات؟!اليوم تجتمع الحكومة مع المجلس على طاولة واحدة، تناقش مع النواب أفكاراً غير متجانسة، إذ تنظر مع مستشاريها إلى الأمور من منظور فني، في حين يتعامل معها النواب من منحى شعبوي ينشد رضا الناخبين لضمان أصواتهم. ما يحدث لا يعدو أن يكون أكثر من استهلاك إعلامي لم تدرس تداعياته جيداً، ولم تتعظ الحكومة ولا المجلس من أخطاء الحكومات والمجالس السابقة في إطلاق الوعود، التي أدت إلى مشاريع مشوّهة بلغت كلفتها على الدولة أضعاف ما كانت تنشده من توفير.إن دور المجلس هو التشريع والرقابة، وواجب الحكومة التنفيذ والإدارة، لكنّ الأمرين تداخلا، فباتت الأخيرة تراجع الأول في اختصاصاتها، وأصبح المجلس مشغولاً بالتنفيذ على حساب دوريه التشريعي والرقابي.المسألة باختصار هي الدوران في حلقة مفرغة كل ركن فيها يشبه الآخر، وأصبح اقتصاد البلد وماليته كرة يتقاذفها أعضاء السلطتين، وتحول الأمر إلى لعبة سياسية فيها التجاذبات والتنازلات والمساومات، وضاعت في خضمها اقتصادات البلاد وحاجاتها وأولوياتها.وفي هذه الأيام ونحن نعيش مشهد الاجتماعات واللقاءات الاقتصادية التي حضر فيها الجميع وغاب الاقتصاد... نستذكر دعوة الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد إلى نقلة نوعية ومبادرته لإنشاء صندوق لاحتياطي الأجيال القادمة، وهو التزام الحكم بالمبادرة وقيادة الأمة إلى بر الأمان، في حين يسعى الآن عدد كبير من النواب ومعهم أعضاء من الحكومة لاستنزاف هذا الصندوق ضماناً لأصوات الناخبين.وفي ظل التوجيهات الواضحة لصاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد لمعالجة هذا الخلل وإصلاحه، فإننا نخشى تكرار عقود مضت وكأن شيئاً لم يكن، ولم ندرك بعد أن الاقتصاد وإصلاحه هما قضية دولة من قمة هرمها السياسي إلى أصغر مواطن. ولنا في التاريخ دروس ومواعظ منذ عهد الشيخ مبارك واعتلائه الحكم مروراً باكتشاف النفط، ثم «توزيع الثروة» حتى مشاريع الأحلام كمدينة الحرير وتطوير الجزر.المسألة بحاجة إلى مبادرة وإصرار لمواجهة هذا التحدي التاريخي، فهي قضية البلد ومستقبل الأمة، وليس من العقل ولا الحكمة أن نتقاذفها ككرة دون مسؤولية، ثم نعيد أخطاء المجالس والحكومات السابقة.الجريدة