وداعاً... هيكل!

نشر في 24-02-2016
آخر تحديث 24-02-2016 | 00:01
 د.نجم عبدالكريم الحساسية المفرطة لدى بعض دول المنطقة من توجيه نقد لسياساتها، جعلت من هيكل الشخص الأكثر كراهية من بين الكتّاب العرب في هذه الدول!

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الكراهية التقليدية للمشروع الناصري الذي يتبناه هيكل، يتأكد لنا أن الرجل مهما كان دقيقاً وموثقاً وموضوعياً في ما يكتب ويحلل، فهو غير مقبول عند هذه الدول!

لكن هذا لا يقلل من شأن هذا الكاتب، ومن سمعته العالمية، والذي قيل عنه الكثير في الأيام الماضية، وأجدني مهما كتبت عنه فلن أضيف جديداً، رغم أنني ارتبطت معه بعلاقات منذ عقد الستينيات في القاهرة ثم في السنوات الأخيرة بلندن.

• لكن لهيكل لمعات تحليلية يصعب تجاهلها حتى لكارهيه!.. فهو يُشبه احتلال صدام للكويت بـ"الكنز"، ولهذا الوصف أسبابه التي أعادتني لقراءة كتبه عندما أعلن خبر وفاته، فهو يقول:

• عندما يكون هناك كنز مدفون، ويكون لهذا الكنز: صاحب يملكه، ومطالب به يدعيه، ومستفيد منه يعرف قيمته! ثم يجد الثلاثة معاً - كل لأغراضه - أن التظاهر أدعى لتحقيق الرجاء.

فصاحب الكنز يتظاهر بالأمان حتى لا يتجرأ عليه غيره إذا استشعر خوفه، والمطالب بالكنز يتظاهر بالأناة والصبر يداري بهما العجلة واللهفة، والمستفيد من الكنز يدعي أنه يعطي أكثر مما يأخذ، ويحمي الكنز من الطامعين فيه، وهم محيطون به من كل ناحية!

• وهكذا، فإن الأجواء حول الجميع مشحونة بالتوتر، مزدحمة بالشك، معرضة طول الوقت للمفاجآت - رغم ما يتظاهر به الجميع مع اختلاف أسبابهم.

• فواقع الخليج تحول منذ حقب ممتدة - بامتداد عصر النفط - إلى منطقة براكين مكتومة لا يوحي ظاهرها بما هو محبوس في باطنها! وتلك صورة تستعيد أساطير قديمة تحكيها قصص ألف ليلة وليلة، وتزعم أنها جرت في يوم من الأيام، في سالف العصر والأوان، على سواحل الخليج ذاتها!

ثم يلج هيكل الى صلب الموضوع:

• لم يكن كل شيء هادئاً في الخليج قبل منتصف ليلة 2 أغسطس عام 1990 حين تحركت القوات العراقية إلى داخل حدود الكويت، وفرغت من احتلالها قبل الفجر، وأيقظت الدنيا عند الصباح على أزمة من نوع لم تعرفه هذه الدنيا من قبل، ولا جربته، ولعلها لم تكن قد حسبت له حساباً أو توقعته!

ويواصل هيكل:

• كان السلام الظاهر على شواطئ المنطقة وهماً، والعمران المتزاحم على بعض البقع من هذه الشواطئ سراباً، والنشاط البادي داخل هذه البقع من العمران وعلى أطرافها، قلقاً وخوفاً أكثر منه طمأنينة وأملاً.

• وعلى عهدة تلك الأساطير، فإن أمواج البحر تلقي على شطآنه بقماقم تغري بشيء في داخلها، ثم تكون المفاجأة أن كل قمقم فيها مختوم على مارد من نار، وما إن ينكسر الختم عن القمقم حتى يندفع خارجاً منه عفريت من الجن يسد فضاء الأفق هولاً وشراً مستطيراً!

لكنه - وعلى عهدة الأساطير أيضاً - فإن مردة الجن يتحولون إلى خير وبركة وقصور من ذهب - إذا صادفوا من يعرف فضله من علم النبي سليمان الذي دانت مردة الجن وخضعت له!

• ومنذ أن فعل صدام حسين في الكويت ما فعل، وأمام هذا الهول الشبيه بمشاهد يوم القيامة... يقف بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي كارتر، ليقول إن أزمة الخليج أصبحت عاطفية أكثر من اللازم، وشخصية أكثر من اللازم، وعسكرية أكثر من اللازم!

• ولم ينتبه بريجنسكي إلى أن العوامل التي أدت إلى التصعيد العاطفي والشخصي والعسكري كانت موجودة وقائمة على المستوى الدولي، وعلى المستوى الإقليمي، وعلى المستوى الإنساني من قبل صيف 1990!

• وينتهي هيكل إلى القول: إنني في ما أحاوله من رواية قصة حرب الخليج، لا أصدر أحكاماً، وإنما أحاول بناء وقائع، وكان من رأيي دائماً - ولايزال - أن أي كاتب سياسي مطالب بالدرجة الأولى بأكبر قدر من الحقائق، وبهذا الأسلوب فإن القارئ يستطيع تكوين رأيه!

***

• وكقارئ لهيكل منذ عقود أقول: إن التفاصيل التي كتبها في كتابه "حرب الخليج... أوهام القوة والنصر" فيها نبوءات تعيشها المنطقة بحذافيرها، وكأنه كان يستشرف هذا الواقع الذي نعيشه من حروب ودمار وكوارث!

رحم الله الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل.

back to top