سهير المصادفة: بطلاتي يسرن إلى حتفهن ولا يلتفتن إلى نصائحي

نشر في 13-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 13-03-2016 | 00:00
كثيراً ما نستدعي في حياتنا مقولات شهيرة لأدباء كبار، إما لإلقاء الضوء على جوانب من مشاكلنا، أو لوصف أزماتنا،

أو للدخول في ما يسمى لعبة الكلمات، أو كمفتتح لنصوص، أو لاتخاذها محاور ارتكاز لمقارنات أو تساؤلات يجيب عنها أدباء حاليون بكثير من التأمل والتفسير أو بالمحاججة.

في حوار «الجريدة» مع الأديبة سهير المصادفة، أعدنا استدعاء أشهر المقولات لطرح التساؤلات وكانت الإجابات التالية.

عرّف الأديب الفرنسي ميلان كونديرا الرواية بأنها «صدى لضحكة الإله»، ويستميت كثيرون اليوم  للحصول على لقب «الروائي»... هلْ يُقلقك هذا الأمر؟ أم ترينه ظاهرة صحية؟ وهلْ تفضّلين لقب الروائية على غيره من ألقاب؟

نعيش في زمن الرواية فعلاً بشكل عام وليس في العالم العربي فحسب. وبنظرة سريعة إلى مدونة الإبداع العالمية وجوائزه وعناوين كتبه ومحافله الأدبية، نكتشف فوراً هذا الزخم غير المسبوق لكتابة الرواية في شتى بقاع الأرض. وعلى العكس ممَّا هو شائع، الرواية أحد أصعب الأنواع الأدبية كتابة، لذا أتفق تماماً مع كونديرا. ولكن الرواية تخدع الجميع وتعدهم بسهولة مثلها مثل السراب في الصحراء حين يعد بالماء، وعند الاقتراب لا نجد ماء ولا تكون الرواية، لذا تجد الغالبية العظمى من كُتاب الروايات الرديئة تورطوا في تعريفها على أنها مجرد حكاية مروا بها، أو ثرثرة مقاهٍ، أو مجرد آراء في السياسة والفن والثورة، أو كاميرا يحملونها على أكتافهم لتصوير الواقع، بينما الرواية ليست ذلك كله. في الواقع، تعمل الكاميرات بشكل أفضل مع تطور التكنولوجيا، والحكايات ملقاة على الأرصفة وتُحكى كل يوم بألف طريقة وطريقة، ولكن الرواية في الوقت نفسه تحتمل ذلك كله. صعوبة الرواية أنها ليست الحكاية، وهي في الوقت نفسه تعتمد على الحكاية كأحد روافدها. صعوبة الرواية أنها فعلاً «صدى لضحكة الإله»، وبالطبع أعرف جيداً أنني خلقت لأكون روائية.

يقول الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف: «إذا لم نر المؤلف في أثره الأدبي فكأننا نرى حصاناً يعدو من دون فارس»، كيف ترين ذلك؟ وأيّ أعمالك جسّد ذاتك أكثر؟

نعم أرى أيضاً ذلك، وأثق هنا في أن الشاعر كان يعني رؤية روحه تلك الهائمة فوق أثره الأدبي، ومن هذا المنطلق أنا موجودة في أعمالي كافة. أعني أن ذاتي موجودة في أعمالي، وأندهش كثيراً عندما أقرأ مقالات تفتش عن سهير المصادفة داخل الرواية ولا تجدها، ومقالات أخرى تلوي عنق الشخصية حتى تكون قريبة من سهير المصادفة.

لا يزعجني هذا الأمر كثيراً لأن روحي ببساطة شديدة موجودة في أعمالي كافة، ذاتي موجودة، ولكن شخصي الذي يعرفون ويتجول بينهم ليس موجوداً، ويا ليته كان موجوداً وعاش هذه الحكايات والأزمنة والمغامرات وجاب تلك الأمكنة كافة.

قال الأديب الإنكليزي جوزيف كونراد: «إنّ أحداً ليسَ في مأمنٍ من المتاعب في هذا العالم»... وكتبّ المكسيكي كارلوس فوينتس: «ليسَ من مكانٍ آمنٍ في هذا العالم». كيف ترين هاتين العبارتين الموحشتين، وما الذي يقلقك ويتعبك في هذا العالم؟

أحب العبارتين، ولطالما اتفقت معهما. الأمان عدو الكاتب الأول، عدو المفكر الأول. الأمان نابع من اليقين، والأخير هو العائق الأول للكتابة الروائية. أشعر أحياناً وأنا أكتب أنني شكٌ يسير على قدمين، فكل ما في هذا العالم يقلقني: الحروب، والمؤامرات، والخيانة، والحدود، والفقد، وصلف الملوك، والفقر، والثراء الفاحش، وضحكات الطغاة التي تشبه كثيراً صوت الضباع، والجهل، واضطهاد ضعاف المجتمع كالمرأة والطفل، والروايات الرديئة، وتلطيخ الجدران بشعارات جوفاء، وغباء الساسة ولهوهم أحياناً بمقدرات شعوبهم، وركاكة بعض أفلام السينما، وعدم بوح الموتى بصوت مسموع، والقصائد المشوهة، والأغاني التي تتعدى على معنى كلمة الأغاني، والإمبرياليات بجميع أشكالها، والتماثيل القبيحة التي ينصبونها في ميادين مصر، والمقالات المضحكة، وورطةُ الطبيعة وتحملها عدوانية بعض الموتورين من البشر، وبكاء الأشجار المعمرة عندما يجزونها بعد ألف عام غيرة من وجودها كشاهدة عليهم، ويقين البعض برسم حدود صارمة وثابتة بين الخير والشر، وفكرة أن الزمن سهمٌ منطلق إلى ما لانهاية. يقلقني كلُّ شيء ويتعبني حتى إنني أصحو كل يوم على حلم بأنني أصبحت قادرة على إسناد الكرة الأرضية بكفي حتى لا تميد، بل قد يكون السؤال ما الذي لا يقلقني ولا يتعبني.

يشبه الشاعر الجزائري مالك حداد الكتابة بـ «الطائر الذي يفقدُ ريشَهُ إذا ما حلّق في سمائها»، كيف ترين الكتابة من خلال ذلك؟

الكتابة أيضاً حفرٌ بالروح في جسد الوجود، ورحلة في المجهول لا أعرف إلى أين تقودني، أشعر وأنا سائرة في أولها بأشواك تُدمي قدمي، وبأن يدي قابضتان على شيء ثمين غير مرئي، وأن روحي شاحبة ومتعبة ولكنني أمضي قدماً ولا أستطيع التوقف، أطارد شخوصاً علهم يبوحون لي بما يؤرقهم في هذا الوجود، وأسامر أفكاراً وجبالاً وموتى، وأعود دائماً منهكة ولدي يقين وحيد بأنني تركت جزءاً من روحي فوق السطور.

تقول الكاتبة الأميركية جويس كارول: «أشعرُ بالخوف دائماً، ولكنّني عندما أكتبُ أعيشُ حالة ًمن الإثارة»... بِمَ تشعرين عندما تكتبين؟

أشعر بحالة من الحزن الشفيف. تتسارع دقات قلبي كأنني أقطع آلاف الأميال عدواً وأنا جالسة أمام أوراقي، تتباين حالاتي من مشهد إلى مشهد. أضحك أحياناً وحدي، وأبكي أحياناً وحدي، وأشعر أنني واقفة على حافة الأرض أرفض هذا السقوط أو أنني سأهوي لا محالة في حلكة فضاء العالم الشاسع، من دون قوى جاذبة تثبتني مكاني، وقد أصطدم بالشمس فأحترق وقد أضيع إلى الأبد في السديم وقد أظلّ واقفة طويلاً. هكذا أتأمل الكون من هذه الحافة، وأغضب أحياناً، أغضب من كل شيء حتى من شخوصي وعنادهم وهم يسيرون بثبات إلى مصائرهم المتباينة. أحاول أن أشير إلى بطلة ما ألا تسير إلى حتفها مبتسمة هكذا، ولكنها لا تلتفت إليّ وتواصل المسير.

رحلة الضياع

في روايتك «رحلة الضباع» تمزجين بين العالم الآني والتاريخي، فنجد رواية الجدة تندمج فيها تقنيات الحكي في «ألف ليلة وليلة» مع السير الشعبية، كيف استفدت ككاتبة من التراث الخاص والعام لبلورة رؤية تحدّد مسار نصك؟

كل رواية من رواياتي تفرض أسلوب سردها عليّ. في «رحلة الضباع» المؤلمة والشرسة مسألة للماضي، هل تبقّى منه شيء صالح للتطوير أم أن الضباع التهمت كل لحمته ولم تترك لنا منه ولو جزءاً بسيطاً من الرفات؟ مع عودة السرد إلى القرن الأول الهجري لفهم الجذور وجدتني غارقة في دمج تقنيات الحكي في «ألف ليلة وليلة» مع السير الشعبية، مع تراث الأمة العربية الشعري بكل ما يحتمله من نسيج شفيف ونبوءات كأنه كان موسيقى خلفية لهذه الرحلة المؤلمة، لعلّ بطلة المخطوط القديم تفهم لماذا يريد - مَن فجروا الدماء في التاريخ الإسلامي ولوثوا رسالته السامية بالتطاحن على أمر الخلافة - العودة مجدداً إلى لحظة زللهم تلك؟

روايات، أشعار، أدب أطفال، وترجمات... مَا الأقرب إليك؟

الرواية بالتأكيد أقرب إليّ، ولأن الرواية صارت الآن كتاب الحياة في كل مكان في العالم، فقد أصبحت روافدها متعددة للغاية. كل ما أنجزته سابقاً وكتبت فيه كان مواطن إلهام لنصوصي السردية. الشعر بالذات منحني عموداً سرديّاً متيناً استند إليه أسلوبي الروائي. أما أنواع الكتابة كافة بما فيها المقالة فمنحتني القدرة على تطويع اللغة ومحاولة اللعب بها وترويضها للسفر بها إلى شخوص جديدة وأمكنة وأزمنة لم تُكتب سابقاً.

المصادفة في سطور

بدأت الشاعرة والروائية والمترجمة المصرية سهير المصادفة رحلتها مع الكتابة كشاعرة منذ المرحلة الثانوية، وصدرت لها مجموعتان شعريتان هما «هجوم وديع»، و«فتاة تجرب حتفها». اتجهت لاحقاً إلى كتابة الرواية، فكانت روايتها الأولى «لهو الأبالسة» الصادرة عام 2003، وتوالت أعمالها الروائية فأصدرت رواية «ميس إيجيبت»، و»رحلة الضباع»، و»بياض ساخن» أحدث أعمالها. كذلك لها كتب للأطفال تأليفاً وترجمة. حصلت على جوائز أدبية عدة وشهادات تكريم من العالم العربي، أهمها: جائزة أندية فتيات الشارقة للشعر عن مجموعة «فتاة تجرب حتفها»، وجائزة أفضل رواية عن روايتها «لهو الأبالسة» من اتحاد كتاب مصر.

back to top