نظرات لا تعرف الحياء

نشر في 17-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 17-01-2015 | 00:01
No Image Caption
في يوم الخميس بداية شهر تشرين الثاني 1989م، نـزل من حافلة النقل الداخلي عند الغروب متوجهاً إلى عمله المسائي في صالون الحلاقة، كان المطر قد تراجع، والجو غائماً كثيفاً بارداً برودة خفيفة، ورذاذ من المطر الناعم يهمي هادئاً لطيفاً رقيقاً ناعماً، وجداول المياه لها غرغرة، تجري وتغسل الشوارع.

يختلط جمال الطبيعة، يحرّك بداخله شعوراً لذيذاً ينبض بالحياة... تنبعث من الأرض رائحة أخّاذة ساحرة... كأنها أسرار تبوح بها الأرض للسماء...! أسرار تتكوّن من روائح الورود والرياحين والياسمين والأشجار والتربة والحجارة في المدينة وأسواقها، تمتزج برذاذ المطر وصدى أذان المغرب، مع نسمات محمّلة برائحة التربة والورود والزيتون والخضرة المحيطة بحلب، فيفوح عبق عجيب، يشبه خلطة ملائكية فاتنة منعشة، كأنها من عطر الجنة...!

تنثره المدينة في الفضاء، ليسافر مع الغيوم من جديد، رسالة تهديها حلب عبر الهواء إلى كل جهات الأرض، وكأنها تريد أن تنثر عبقها في الكون!

يسري منعشاً فواحاً سامياً هادئاً في روحه ونفسه... كيف؟ لا يعرف...! يتنفّسه حازم بلذة مستسلمة حالمة... بإحساس شاعري... لم ينقطع عن التأمل والنشوة، يتأمل ويتمعّن، تطوف نظراته بالأفق، تفيض نفسه متعة ولطفاً، تنبع ابتسامته طافحة من خفايا روحه، فيبدو منفعلاً ذاهلاً ذهولاً يشبه من يعيش لحظة وجد صوفي...!

يتفكر... يربط الأسباب بالمسببات ويعيد النظر من جديد! لم تفلح نـزعته العقلية في تفسير أسرار تلك الحالة الأخّاذة...! لا يرى شيئاً محدداً، بل مزيجاً من لوحة فنية تنبض بالحياة من إبداع الخالق اسمها مدينة حلب...!

يود لو طال الطريق أكثر ليستمتع بالمشي في هذا الجو الحلبيّ! ولكن للعمل واجباته... يستعجل في مشيه للوصول إلى {صالون الأصدقاء للحلاقة الرجالية} في الشارع الرئيس من حي {سيف الدولة} بقرب الحديقة، فقد تأخر ومن المتوقع أن الزبائن تنتظر، وحقاً هذا ما كان!

لمّا دخل الصالون وجد العديد من الزبائن ينتظرون، وقد ملّوا تقليب الصفحات لرزمة من مجلاّت وجرائد تتصدّرها دائماً صورة الرئيس بعبارة: {قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد».

كان الكثير منهم يترقب حازم، في حين انشغل زميله فؤاد بالحلاقة إلى أقصى ما يمكن... إلى درجة أنه لم يرفع رأسه!

ينهمك حازم بالحلاقة، يأخذه الشغل... ينقطع الكلام مع زميله... لم يشعر كيف مضى الوقت المحدد، ظل يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، خلافاً لقوانين العمل المعتادة في المدينة، ولم

يحفظ عدد الزبائن الذين حلق لهم، وقد تفاجأ حين اعتذر منه

فؤاد واستأذن بالانصراف، بعدما لم يبق إلا الزبون الأخير بين

يدي حازم...!

ينشغل حازم بأحلامه ومشاريع المستقبل في حلاقته لزبونه الأخير، يشعر بغصّة مخاتلة تدبّ في نفسه لا يجد لها سبباً... يهرب إلى عالم الأنوثة... تأخذه مشاهد المحبة إلى حواره الرومانسي مع خطيبته ميسون، يبلع ريقه... ينظر في الشعر على رأس الزبون، وبيده مقص الحلاقة... وكلما قص كمية قليلة من الشعر أخذه الخيال... يتأمل وجه ميسون غضّاً مشرقاً مثل مصباح متوهج... يحرك المقص حركات آلية في الهواء شارداً في غيمة المحبة، يفكر في الالتزامات المادية، يتنامى الإحساس بالضغط، يتحول إلى قلق ينتشر في نفسه مزعجاً بغيضاً.

يشاهد ميسون بلباس العرس، مثل حورية خرجت فجأة على ضوء القمر في سهول ربيعية ناعسة، يتحسس مشاعر حلوة دافئة كأنها فاكهة طازجة، يناجيها بلباس الفرح بين العيون المتعلقة، تستفزه وديعة مغرية، يعيش لحظات خيالية في مملكة وجدانية صامتة، يركض وراءها... تعدو أمامه في الحديقة والأشجار، تتهادى بحيوية...!

كان الزبون رجلاً مسنّاً أصيب بآلام الشيخوخة، يشكو من تصلّب في الرقبة وصليل في الكتفين وتشنجات عضلية مؤلمة... يشعر بملل وبرودة زمنية ثقيلة، يمتدّ الألم في رقبته باتجاه الكتفين، يريد من هذا الحلاق أن ينتهي، فيتذمر من شروده البارد... يقطب حاجبيه واجماً متوتراً، فقد تأخر الوقت في الليل، ومن المؤكد أن حافلات النقل الداخلي البرتقالية لم تعد تعبر الشوارع، تبدّد أنينها العنيف المعتاد، وراح الهدوء يلفّ عالم المدينة!

نفد صبر الزبون، وقد تجهّم وجهه:

- معلّم... تأخر الوقت لو سمحت... عجّل... أمامي مسافة طويلة للبيت ويمكن ما في غيرك محل فاتح في كل المدينة.... خلّصني!

وبحركات خفيفة مرنة يتلفت إليه حازم مبتسماً لبقاً:

- يا الله يا الله... هههه آسف.... كنت أفكر في بعض المشاغل آسف... يا الله... يا الله... تكرم تكرم.

ينهمك بعمله بعدما انتزعته عبارة الزبون من عالمه، يسرع في الحلاقة بخفته المعتادة، ولكن ما إن اقترب من النهاية حتى عاد يشرد من جديد... يحدّث نفسه شارد النظر، حالم الهيئة مبتسماً في عالمه الخاص، يناجيها بضحكة شاردة، يخطط لأحلام المستقبل.

- يا بني خلّصنا رقبتي توجعني وتأخّرت... الله يوفقك خلّصني...! أنا ما جئت لأبقى لهذا الوقت، ولا جئت لمقهى وشرب قهوة...! حضرتك كأنك جالس سهران، تسرح بفكرك وأنا طوّلت.... طوّلت! بحياتي ما تأخّرت في حلاقة مثل حلاقتك...!... أفّ...!

يقاطعه ضاحكاً بصوت فيه روح التواضع والملاينة والمصالحة:

- ههه.... عفواً عفواً أخّرتك...!

يعتذر من الزبون الذي تعكّر مزاجه ونبّهه أكثر من مرة، وشعر بخجل عميق، وصار يكرّر: {تكرم عمّو... تكرم... تكرم} بصوت هادئ جداً.

وانصرف بكليّته إلى الانتهاء من الحلاقة، ولا يعرف لماذا بدأ يشعر بقلق يزحف إلى نفسه بثقل موجع لا يستطيع أن يحدد له سبباً مباشراً، مثل شيء يموج في النفس يقود إلى الوهن، ويصعب تحديده وتلمسه...!

بعدما انتهى من حلاقة الزبون الأخير أغلق باب المحل، وتوجه إلى الشارع العام، واضعاً يديه في جيبيه، ورافعاً أكتافه قليلاً ليغطي عنقه من برودة الجو.

كانت المدينة ناعسة مغسولة بالمطر، وغزت أنفه روائح الطبيعة بخضرتها التي مزجتها حلب بطريقتها... يداعب الهواء الخفيف أشجار الحديقة المجاورة، فتميل ميلاً بحركات متتالية متماوجة هادئة، أشبه بكائنات تتحرك في الظلمة، ينداح منها حفيف قوي، لا يدري لماذا عكّر مزاجه أكثر، ونغّص متعته...!

ولما اشتدت البرودة أخذ الماء يسيل من أنفه، فسحب منديله القماشي من جيبه يمسحه، وحين تثاءب خرج البخار من فمه كأنّه يدخن.

يجرّ همومه في طريقه الليلي، تؤرّقه مشاريعه في تسديد أقساط المنـزل، يفكّر في البرودة والجو الغائم وطول الطريق، يحسب المسافة التي يجتازها يومياً بين البيت والمحل، ويدرك أن السير في هذا الوقت البارد من الليل لمدة ساعة أو أكثر صعب جداً، ولا يسمح بالراحة والنوم جيداً، مع أن الطريق آمن أمناً مطلقاً كالمعتاد، والجو يشجّع على المشي.

كان عليه أن يوفّر أجرة السيارة، ولكن برنامجه اليومي لا يسمح، فلديه التزامات يومية تقتضي وصوله إلى البيت للنوم، حتى يستيقظ باكراً.

يجب أن يقف على زحمة الفرن فجراً لمدة ساعة على الأقل، ليذهب بعدها إلى مدرسة الشهيد {هلال العلي} في داخل المدينة، لأن لديه ساعات تدريسية في الحصّة الأولى، ولا يجرؤ على التهاون، فالتكليف بساعات تدريس في المدينة حلم لكل شاب متخرج، في زمن لا يعرف إلا البطالة وهجرة العقول!

وبعد الظهر يبدأ عمله في التدريس الخصوصيّ، الذي يجبره على التنقل من بيت إلى بيت حتى فترة المغرب، ثم يذهب إلى صالون الحلاقة من جديد...!

في يوم الاثنين يزور أحياناً بيت عمه والد ميسون، ويتناول وجبة الغذاء معهم، فيراها هناك ويبدّد شيئاً من ضغط العمل.

ذات مرة كاد يضحّي بساعات التدريس لتفاهة مردودها المادي، مع أنه يدرك طبيعة الوساطات التي مارسها والده، حتى استطاع بفضل تاريخه النضالي أن يؤمّنها له في هذا المكان. يومها استنكر والده هذا الرأي:

- لا ترفس النعمة يا حازم... التوظيف هذه الأيام مستحيل... وزملاؤك هاجروا يشتغلون عمالاً في الإسمنت في ليبيا ولبنان.... يعملون في الأعمال اليدوية الشاقة، ومن بقي منهم في البلد إما لديه {بسطة} يشاركه فيها رجال البلدية والأمن، أو يسكن الريف ويعمل في الأرض، والبرجوازي منهم من كان مثل حالك...! يا بني اصبر واحمد ربّك. ومن يدري؟ قد تكون هذه الساعات وثيقة مهمة، تثبّتك في التربية إذا لم توفق في مسابقة المعيدين.

- الوقت متأخر لا بد من أخذ سيارة أجرة.

يحدّث نفسه بصوت مسموع، ويقف وحيداً حوالي منتصف الليل على الرصيف ينتظر.

تتكاثف الغيوم ويشتد الهواء البارد، يلمع البرق من جهة الشمال، ويتفرع كأغصان شجرة عملاقة، كأن الأشجار في الحديقة المجاورة تحكي بحفيفها. في تلك اللحظات الباردة في صمت الليل كانت الحياة في المدينة الهاجعة منعشة كالندى كرائحة الغار والحرمل والشيح والبابونج وورد الجوري وأزهار الليلك والخزامى والنارنج، ولكنه أخذ ينصرف عن جمال الطبيعة والإحساس بالعالم الخارجي...!

يشغله ضغط العمل وانهماكه بمشروع الزواج...! تثقل الالتزامات فكره، وزاد من ذلك أن التعب طيلة اليوم تنقل في أنحاء جسمه، يدبّ مع البرودة مزعجاً، مثل كائنات تتغلغل في العضل، تلسعه لسعاً.

back to top