واسيني الأعرج: في سيرتي تمرّدت على «النرجسية»

نشر في 09-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-12-2014 | 00:02
في كتابه الصادر حديثاً «سيرة المنتهى عشتها كما اشتهتني» (دار الآداب)، لم يهدف الأديب الجزائري واسيني الأعرج إلى كتابة حياة نموذجية لأن لا وجود لها، بعرفه، بل يبحث عن أناه من خلال محطات ومواقف في تاريخ سلالة أسرته وحكايات من الموروث النثري، سابراً أغوار الموت والخوف والكوارث واشواق الطفولة، عبر لغة بلاغية وإرث صوفي شكلا جسر عبور بين الثقافات.

في السيرة، يتجاور الحنين والقلق والمشاعر المتناقضة، ويتجاور الماضي والحاضر بحثاً عن أسئلة صعبة في هذا الزمن المعاصر، ذلك كله يغلفه جوع من دون حدود للحياة، ومحاولة عيش لحظات لم يعشها واسيني الأعرج في طفولته، فـ «يوم فتحت عيني للمرة الأولى كنت بلا طفولة»، وتقليب للمواجع الغامضة التي ظل كثير منها معلقاً في الفراغ في انتظار العودة في اتجاهه.

تمرد واسيني الأعرج على المفاهيم القائمة في كتابة السير الذاتية ورسم شخصيته الخفية المجروحة التي لا يعرفها الناس، مسترداً تقاليد ضائعة مع أنها صنعت المخيلة العربية، غير آبه بالقيود التي تفرضها العادات الاجتماعية التي كثيراً ما تظلم وتوجه مسار الحياة باتجاه مأساوي قد يقضي على البقية الباقية من الإنسانية... في النهاية هذه السيرة محاولة انتساب إلى الحرية والحب والنور.  

صنفت {سيرة المنتهى} بأنها رواية سيرية، هل هدف ذلك الابتعاد عن أن تكون مادة توثيقية؟

هذا التصنيف مؤشر للنوع الأدبي، وهو نوع موجود تحت مسمى Roman autobiographique   أي أنه يحتوي على عنصرين أساسيين هما: الرواية كفن وتخيّل، ولكن في الوقت نفسه يمسّ السيرة الذاتية، أي الحياة الخاصة للكاتب وهو ما حدث، بالضبط، في هذا النص الذي يتأرجح بين عنصري السيرة والرواية.

الـ {أنا} في مراحل كثيرة في سيرتك مختبئة وراء شخصيات الآخرين، هل يمكن أن نسمي ذلك هروباً؟

اخترت في هذا النص خياراً خاصاً وربما كان جديداً بالنسبة إلى السيرة الذاتية. لم أتحدث عن نفسي، كما هي العادة، متفادياً النزعة النرجسية التي كثيراً ما تنسحب على هذا النوع، لكني فضلت أن أرسم لي صورة من خلال الآخرين لأنهم الأسبق في هذه الحياة مثل الجدة والأم والجد وسرفنتس... مثلا، أنا لا أعرف لماذا سُميت واسيني إلا من خلال رواية أمي. من الأجدى أن أعطيها فرصة لتتكلم عني في هذا السياق.

لم أعرف حياة الجد الأول في الأندلس {الروخو} إلا من خلال ما روته الجدة. لم أعرف سرفانتس إلا من خلال كتبه ومؤلفاته، لهذا ارتأيت أنه من الأجدى أن أرسم هذه الصور عبر شخصيات فاعلة في حياتي، لكن كلهم ماتوا فكيف أصل إليهم؟ لذا اختلقت تلك الرؤية التي نقلتني من الأرض إلى السماء، وهي تقليد ثقافي عربي إسلامي وإنساني معروف لدينا، مثلاً معراج الرسول الأكبر، إذ يقول كثر اعتماداً على عائشة أنه لم يرحل بجسده،  لكنه انتقل بروحه.

نجد  ذلك في المجال الأدبي، كما هي الحال في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري الذي قام برحلة معراجية إلى العالم الآخر، والتقى الشعراء الذين توفوا، وفي الآداب العالمية عند الكاتب الإيطالي دانتي اليغري الذي كتب في الكوميديا الإلهية عن الحالة نفسها، لكن كلها موضوعات دينية، بما في ذلك الإسراء والمعراج.

أنا اشتغلت المعراج كنظام لكني أعطيته بعداً إنسانياً، فرحت، من خلاله، أبحث عن الذين عرفتهم، وكان لهم الدور الحاسم في حياتي.

هل أردت من خلال سيرتك أن تبيّن أنك كنت ضحية ظروف وأحداث معينة؟

لا بل أردت أن أقص حياتي بحيادية ومن دون أن أكون ضحية للتاريخ، بمعناه المادة الموضوعية، وهي مادة مساعدة على وضع النص أو السيرة في مدارها الإنساني المرتبط بالمعيش الحياتي، حتى لا تصبح السيرة عبارة عن كلمات ذاتية قد لا تهمّ القارئ كثيراً، لأن ما يهمه في هذه النصوص، أن يجد نفسه فيها ويشعر بأن ثمة تقاطعاً مع ما يعيشه كإنسان، وربما كان سحر الكتابة هو هذا، أي كيف نكتب نصاً يتحدث عن الذات وفي الوقت نفسه يتحدث عنها في مدارات الحياة المعقدة.

فكرة الانتقال إلى العالم الآخر منحتني فرصة ليكون النص بين العالمين: الأرضي والسماوي. يقول ما هو ذاتي ويقول أيضاً ما هو موضوعي، ويمنح القارئ فرصة التعرف إلى الشخصية التي يكتشفها للمرة الأولى.

تزخر السيرة بحكايات ومرويات من أدبيات الموروث النثري، فهل هدفت من خلالها إلى الغوص في الجو الأندلسي؟

بالطبع، لذا استقيت حكايات ومرويات مرتبطة بتاريخ الجو الأندلسي الذي أدى دوراً مهماً في حياتي من خلال مرويات الجدة. أنا لم أرَ الجد الأكبر لأنه عاش في القرن السادس عشر، لكن الجدة أوصلته بطريقة متفوقة وكأنها تروي قصصاً حقيقية.

قيمة المرويات أنها تدعنا في سياق الحكايات وفي سياق النصوص الأدبية التي تبنى على الموروث الشعري، ومن خلالها، أوصلت إلى القارئ قصة جدي. لكن يجب أن نفهم المرويات من خلال عنصرين: عنصر الحكاية كما تراها الجدة وعنصر التاريخ، لأن التاريخ مادة حية تستحق الاهتمام بها بشكل لائق. من خلالها نتعرف إلى التاريخ الأندلسي، عذابات الموركسيين، محاكم التفتيش المقدس، ما يعطي للسيرة نمطاً معيناً قريباً من التاريخ، لكنه ليس هو التاريخ.

اعتمدت الأسلوب الصوفي في التعبير وغالباً ما تذوب شخصيتك في أناك وأنت طفل وأنت شاب وأنت رجل ناضج وأنت كاتب وأديب...

اخترت الأسلوب الصوفي للكتابة لأنه يساعدني على التوغل في النفس الإنسانية بعمق، وقول ما لا يمكن أن تقوله اللغة العادية، فنحن نحتاج بالضرورة إلى لغة الداخل، وهي أصعب في مجال الكتابة من اللغة الوصفية التي لا تتطلب جهداً واستنزافاً داخلياً كبيراً.

كذلك اخترت الشعرية، أحياناً،لأنها غير مباشرة ولأنها استعارية تتناسب مع القصة بكاملها، سيرة المنتهى، لأنها بدورها استعارة كبيرة من الحياة في صعوبتها ومشقاتها، لذا، اللغة رهان أدبي مهم وليست حالة عامة. صحيح أن في اللغة شيئاً من العمومية لأننا نتقاسمها مع الغير، لكن فيها خصوصية لأنها لغتنا التي تنتمي إلينا وننتمي إليها.

للمرأة حيز كبير في السيرة، إلى أي مدى وجَّه حضورها مسار حياتك؟

أنا شخصياً ثمرة تكونات متعددة أدت فيها المرأة الدور الحاسم في ثقافتي وحياتي. عندما فقدت والدي، اتخذت أمي صفة الأب لأنها خرجت إلى العمل لتعيل أبناءها الستة. جدتي ربتني في حضنها على هذه المرويات، لذا أجدني بين امرأتين عظيمتين: الأولى، أمي تعلمت منها المقاومة والتعامل مع الحياة، حتى في قسوتها. والجدة التي تعلمت من خلالها كيف أروي قصصي، وأكثر من ذلك، هي من دفع بي إلى تعلم العربية.

أما مينا، أو كما تسمى، مومس، وأنا لا أؤمن بهذه التسمية لأننا عندما نتعرف إلى قصتها ندرك كم ظلمت ومدى قسوة المجتمع عليها، تشكل بالنسبة إلي، الحب الطفولي الأول المليء بالحنان والعاطفة، رغم أن الحياة لم تكن رحيمة معها، ولأنها ضحية وضع صنعه نفاق الآخرين وحبّهم المستشري والكبير والناظم للشكل الظاهري للحياة. لذا كل ما يتعلق بهذه الشخصية وشخصية مريم الموجودة في نصوصي يدين بالكثير إلى هذه الشخصية التي تعلمت منها السماحة والحب والخير والمحبة.

لم تحاول في السيرة تجميل حياتك بل سردتها بانفعالاتها ووقائعها المختلفة من دون روتوش، فهل أردت أت تكون {أنت أنت} في الكتابة وفي الحياة؟

صحيح، لأن الحياة التي أتحدث عنها ليست نموذجية، هي كغيرها من ملايين الحيوات التي عاشها أناس غيري، بأشكال مختلفة، تتخللها أفراح صغيرة وحالات عنف قاسية، ربما الفرق الأوحد أني كتبت هذه الحياة جزئياً بينما هم اكتفوا بعيشها.

كيف انبثقت فكرة السيرة؟

لا أدري من أين جاءتني فكرة السيرة في الأصل، ولا سرّ اللحظة الأولى التي دفعتني نحو هذا الجنون وبالشكل الفني الذي ارتضيته لها. ولا أدري لِمَ اخترت ميترا رفيقتي في هذا المنتهى، من بين المئات ممن عرفت وعشقت وخلقت وأبدعت لأروي على مسمعها هذا الحب وهذا الخوف...

لماذا اخترت هذا الوقت بالذات لتخرج إلى النور؟

حاولت كثيراً أن أنجزها قبل سنوات ولم أفلح أبداً، لأنها ظلت هامشاً ولم تتحول إلى جوهر أو إلى انشغال مهم في حياتي الكتابية. يصعب علي اليوم تحديد اللحظة الزمنية الأولى التي نشأت فيها فكرة السيرة.

لكني أتذكر أن الطفل الكامن فيّ وقف أمام ناطحات السحاب في لوس أنجليس، وتساءل ما الذي جاء به إلى هذه المدينة غير كتاباته التي منحته فرصة لا تقدّر بثمن ليخرج من دائرة الضيق التي مات تحت ثقلها كثير من الكتاب والفنانين. كيف استطاع الطفل الذي عاش بالصدفة وكبر بالصدفة ونجح بالصدفة وما زال يعيش بالصدفة أن يصبح كاتباً.

ما التحولات التي حدثت ليجد هذا الصبي نفسه واقفاً أمام ناطحات سحاب؟

لا أريد أن أقول كل شيء، للقارئ حقه في اكتشاف خفايا وسحر وأسرار الحياة في لحظة قراءتها والتوغل في النص، لكني كتبت هذه السيرة بقلبي وأيضاً بكل حواسي الحية التي ترفض أن تستسلم لسلطان الوقت، وبكل ما ملكت من قوة وإيمان بأن الحياة تظل السيدة، وقد وجدت لتعاش وبالشكل الذي يليق بها وبنا.

كيف تفسر طغيان الناحية الأدبية على السيرة؟

 

هذه السيرة هي سيرة أديب وليست سيرة مناضل خاض حروباً ومعارك وانتصر فيها وغيّر مجرى التاريخ، أو شخصية اجتماعية، أو رجل مال... لذا للصفة الأدبية ما يبررها منذ البداية، وشكلت بالنسبة إلي انشغالا مهماً في الفكرة والصياغة واللغة... شرطي الأساسي من هذه السيرة أن تقولني بصدق وأن أمارس حربي الداخلية مع الحقيقة وأشكالها الخارجية...

back to top