حتى لا نكون من الأشقياء!

نشر في 14-09-2014
آخر تحديث 14-09-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي تروي بعض المصادر التاريخية أنه جيء به فقطعت يداه ثم رجلاه، ثم سملت عيناه، أي فُقِئَتا، وهو مع ذلك صابر محتسب يقرأ سورة "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق" إلى آخرها، ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: "إني أخشى أن تمر عليّ ساعة لا أذكر الله فيها"، فقطعوا لسانه ثم قتلوه وأحرقوا جثته.

هل تعلمون من هذا "التقي" الذي ظل لسانه رطبا يلهج بذكر الله حتى مات؟!

إنه من جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء عليّ فسلّم، فأقعده رسول الله إلى جنبه، فقال:‎ يا علي، مَن أشقى الأوّلين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر الناقة، فمن أشقى الآخِرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فأهوى بيده إلى لحية عليّ، فقال: يا علي الذي يخضب هذه من هذا، (أي الذي يصبغها بالدم) ووضع يده على قرنه. قال أبو هريرة: فوالله ما أخطأ الموضع الذي وضع رسول الله يده عليه.

نعم. إنه من قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: هو أشقى الآخرين، إنه عبدالرحمن بن ملجم، قاتل المبشر بالجنة، زوج بنت رسول الله الذي قال عنه: "من آذى علياً فقد آذاني"، رابع الخلفاء الراشدين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه!

حين وقفت على هذه الرواية أخذت أتأمل كثيرا في كيف يمكن أن يظل الإنسان ظلالا بعيدا، فيبقى مع ذلك حتى اللحظة الأخيرة على ظنه ووهمه بأنه يحسن صنعاً.

يقال في الدراسات السلوكية النفسية إن "وراء كل سلوك نية إيجابية"، أي أن كل إنسان عاقل سوي لا يقوم بأي تصرف إلا بعدما يوجد لنفسه تبريراً داخلياً، تبريراً إيجابياً على مستوى تفكيره الشخصي، أي على مستوى اعتقاده وظنه ووهمه، مهما كان هذا التبرير خاطئا وغير مقبول عند الآخرين، ولو أمعنتم النظر لوجدتم أن هذه القاعدة تصدق حتى في أعتى العتاة وأطغى الطغاة وأشقى أشقياء الأولين والآخرين، بل ستجدونها تصدق حتى في أشر خلق الله أجمعين، إبليس الرجيم، الذي قال له الله عز وجل "مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ"، أي لِمَ لَمْ تسجد لآدم عليه السلام؟ فأجاب "أَنَاْ خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ". نية إيجابية عند الشيطان وتبرير مقنع على مستوى ظنه ووهمه، لكنه لم يكن مقبولا عند الله عز وجل لذلك "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ".

كان من اللازم أن تجعلني هذه النظرات والتأملات أنكفئ على نفسي لأقلب في عالم نواياي الداخلية، تلك النوايا التي حركت، ولا تزال تحرك، كل أفعالي وسلوكياتي، النوايا التي لطالما اعتقدت وآمنت بأنها "إيجابية" وصحيحة. أقلبها على وجوهها فأعيد النظر فيها تمحيصاً، أراجعها وأدرسها وأضعها على الميزان، ولعلي أستشير من أثق برأيه فيها، لأجل أن أعيد تهذيب وتشذيب وترتيب أفعالي وسلوكياتي، على أمل أن أفلح قبل أن يفوت الأوان فأكون من الأشقياء.

وبالطبع هي دعوة للنفس في المقام الأول، لكنها كذلك دعوة لكل إنسان لئلا تأخذه العزة بنفسه وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال على الدوام، وأن يضع دائما في اعتباره أن فعله وقوله ورأيه وتفكيره الناتج عن نيته "الإيجابية"، مهما بدا له في الظاهر سليما وصحيحا، ليس في النهاية سوى "صواب" يحتمل الخطأ، كما قال الشافعي رحمه الله يوماً من الأيام، بل لعله يحتمل الخطأ الشديد جداً، والعياذ بالله.

back to top