عملية «العزم التام»... تقييم مؤقت
حتى هذا اليوم ساعدت القوة الجوية على إيقاف مفاعيل هجوم تنظيم «داعش» وعكسها على معقل الأكراد في عين العرب، حيث تسببت الضربات الجوية التي فاق عددها 470 ضربة بأضرار جسيمة في صفوف قوات التنظيم وأدت إلى خسارة العديد من الأسلحة الثقيلة والآليات.
منذ إصدار الرئيس أوباما الأمر إلى القوات الأميركية بمباشرة العمليات العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" من أغسطس، نفّذ التحالف أكثر من 5 آلاف غارة جوية مستخدماً نحو 4 آلاف سلاح، فضلاً عن 1700 مهمة استخبارات ومراقبة واستطلاع جوية، وأكثر من 22 ألف رحلة جوية لإعادة التموين وما يزيد على 1300 عملية نقل جوي لتسليم نحو 6000 طن من المساعدات الإنسانية والعسكرية، إلا أن هذه الأرقام منخفضة مقارنة بالحملات الجوية السابقة كما أنها توحي بالافتقار إلى الفعالية التكتيكية، فخلال عملية "عاصفة الصحراء" مثلاً شنت طائرات التحالف ما بين 800 و1000 غارة جوية بالمعدل في اليوم، ولكن عند دراسة هذه الحملة من المنظارين العملياتي والاستراتيجي، يتبين بوضوح أنها حققت بعض النجاحات البارزة.الحملة في العراقبلغ هجوم "داعش" في العراق أوجه، وبينما كان التنظيم قد نفّذ سابقاً زحفاً سريعاً في مناطق شاسعة لمباغتة وحدات الجيش العراقي والتسبب في دحرها، أصبحت قواته اليوم تنتشر هناك في حالة دفاعية في أغلب الأحيان لا تتخللها سوى عمليات هجومية في مواقع محلية، ومع أن هذا الوضع لم ينتج عن الحملة التي تشنها قوات التحالف وحدها، إلا أن الضربات الجوية دمّرت أو ألحقت الضرر بما يزيد على 300 آلية و15 قذيفة هاون وقطعة مدفعية، وتسعة نظم قيادة وتحكم، وذلك في المرحلة الحاسمة الممتدة على الشهرين ونصف الشهر الأولين من العملية حينما كانت الجماعة لا تزال تشن هجماتها بصورة نشطة، هذا بالإضافة إلى قتل أو جرح عدد غير محدد من مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية".الحملة في سوريةبدأت الضربات الجوية لقوات التحالف في سورية بعد شهر ونصف الشهر على استهلالها في العراق، ولكنها ازدادت حدةً مع ابتعاد تنظيم "داعش" عن الجبهة العراقية المتصفة بالركود واتجاهه نحو ما يعتبره أهدافاً أسهل في سورية. وحتى هذا اليوم ساعدت القوة الجوية على إيقاف وعكس مفاعيل هجوم هذه الجماعة على معقل الأكراد في كوباني (عين العرب)، حيث تسببت الضربات الجوية التي فاق عددها 470 ضربة بأضرار جسيمة في صفوف قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأدت إلى خسارة العديد من الأسلحة الثقيلة والآليات التي يصعب استبدالها. ولعل الهزيمة التي مني بها التنظيم في كوباني تعد الانتكاسة الأبرز له خلال العام المنصرم، ومن الممكن أيضاً أن تنفي عنه صفة التنظيم الذي لا يقهر.العقبات والنواقصلم تخل الحملة من التحديات، فقد واجهت القوة الجوية القيود بسبب السياسات التي شرعها القادة السياسيون والعسكريون في الولايات المتحدة من أجل الحد من عدد الأهداف التي يمكن ضربها كل يوم، أولاً، إنّ القرار بتجنب نشر الجنود الأميركيين على الأرض عطّل التكتيك المثبت الذي يتمثل بجمع "القوات الخاصة" مع الجنود المحليين من أجل تحديد الأهداف التي ستستهدفها الضربات الجوية لدى العدو. وللتعويض عن هذا القيد تم تعيين مستشارين أميركيين في مختلف المقرات العراقية سعياً إلى تحديد متطلبات الدعم الجوي وإيصال هذه المعلومات إلى" مركز العمليات الجوية المشتركة" في قطر الذي يشرف على الحملة الجوية. لكن يبدو للأسف أن نظام القيادة والتحكم العراقي خاملٌ لدرجة تمنعه من نقل الأهداف إلى المركز المذكور بانتظام في الوقت المناسب. ثانياً، تتعامل القيادة المركزية الأميركية والبنتاغون مع الحملة على "داعش" باعتبارها مسعىً قائماً على مبدأ "الاقتصاد في القوة" الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد العمليات الأخرى في سائر أنحاء المنطقة. ويصح هذا الأمر بشكل خاص فيما يتعلق بقوى الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع التي لا تزال تركز بشكل كبير على دعم العمليات الرجعية في أفغانستان، وطوال فترة الحملة على تنظيم "الدولة الإسلامية"، استعانت "القيادة المركزية الأميركية" بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في أفغانستان بأكثر من ست إلى عشر مرات ما استعانت بها في العراق وسورية. وفي غياب وحدات منتشرة على الأرض، تقع مسؤولية العثور على أهداف "داعش" وضربها على قوى الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع بشكل يكاد يكون حصرياً. لكن نقص هذه الإمكانات في العراق وسورية لا ينفك يترك "مركز العمليات الجوية المشتركة" أمام أهداف يتدنى عددها كثيراً عن عدد الطائرات والأسلحة المعدة لضربها، وتشتد حدة المشكلة بشكل خاص حين يشن تنظيم "الدولة الإسلامية" عمليات هجومية متزامنة في موقعين أو أكثر، مما يشتت قوى الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع إلى حدٍّ يمنعها من تلبية المتطلبات الأكثر أهمية بشكل كامل.الخطوات المقبلةيعزى بقاء "داعش" في الوجود إلى عاملين: الأول هو أن الفراغ في القوة الذي سببه تراجع نظام الرئيس الأسد من مناطق كبيرة شرق سورية وما تبعه من تداعٍ لقوات الأمن العراقية في الغرب السني من العراق مكّن تنظيم "الدولة الإسلامية" من أن يتحول من جماعة إرهابية مدنية صغيرة إلى دولة فعلية. والثاني هو أن تساهل السكان السنّة المعادين للقوات الحكومية أتاح لتنظيم "داعش" الاستحواذ على مساحات شاسعة من الأراضي في كلا الدولتين بواسطة عدد قليل نسبياً من المقاتلين، وهذه مشاكل تعجز القوة الجوية عن حلها بمفردها.أما على صعيد إعادة تشكيل القوات العراقية والكردية وقوات معينة من الثوار السوريين وإعادة صفة الاحترافية إليها، فتتفاوت فرص النجاح، فالمساعي الأميركية في هذا المجال قد تؤتي ثمارها في العراق في النهاية، ولكن بشكل محدود فقط، ومن المستبعد أن تعود هذه المساعي بمنافع تذكر في سورية في المستقبل القريب، ويعود ذلك جزئياً على الأقل إلى أن عدد القوات التي تخضع للتدريب قليل جداً ولا يسمح بتغيير الدينامية على الأرض بشكل حاسم.وكما هو موضح أعلاه، لن يؤدي قتل المزيد من مقاتلي "داعش" إلى القضاء على العوامل التي مكنت التنظيم من البروز في المقام الأول؛ لذلك يجب توسيع الحملة التي يشنها التحالف من خلال مضاعفة الجهود الآيلة إلى كشف صورة التنظيم الزائفة عن قوته التي لا تقهر في صفوف السنة المحليين وإلى استغلال ميوله الانهزامية التي تتنافى مع أهدافه.فكلما طالت المدة التي سيطر خلالها تنظيم "الدولة الإسلامية" على منطقة ما، زاد انقلاب السكان المحليين ضده بسبب عقيدته العدمية الإرهابية، وهذا أمر أثبتته الثورات العشائرية الأخيرة في شرق سورية وغرب العراق، وفي الواقع إن أكبر مخاوف الجماعة هو نشوب انتفاضة عشائرية ناجحة، لذلك يميل مقاتلو "داعش" إلى قمع أي مقاومة بسرعة قبل أن تكبر وتصل إلى حجمٍ خطير، فإذا نجحت ثورة عشائرية حتى على المستوى المحلي، من الممكن أن تشكل سابقة قوية تصل تأثيراتها إلى المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية". إلا أن خلق مثل هذه الفرصة يتطلب زيادة الدعم الجوي للسنّة الذين يقاتلون "داعش"، ولا بد أن يأتي ذلك في العراق على شكل جهود إضافية لدعم العشائر المحلية في وجه تنظيم "الدولة الإسلامية"، مما يوصل رسالة بأن مقاومة الجماعة أمر ممكن.إلا أن تقديم الدعم الجوي المباشر في سورية يحفل بتعقيدات أكبر، فمعظم قوات التحالف تسعى إلى إنهاء حكم الرئيس الأسد، لذلك لا يمكنها التضامن مع أي قوة حكومية، كما أن فصائل المعارضة المختلفة هي إما تملك عقائد لا تستسيغها الدول الغربية أو تفتقر إلى التنظيم والتجهيز إلى حد يمنعها من شن أي هجمات على "داعش" في المستقبل القريب. ونتيجةً لذلك، يجب أن تتمحور الحملة الجوية حول مسارين من الجهود: (1) الحط من القدرات الجوهرية لـ"تنظيم الدولة الإسلامية"، كقابلياته اللوجستية والتدريب والقيادة والتحكم، و(2) الحفاظ على قدرات الثوار المعتدلين من خلال توفير الدعم الجوي لبعض الفصائل عند تعرضها لهجوم من "داعش". وسوف يستنزف ذلك المزيد من قدرات التنظيم القتالية ويحط من شأنه في حين يحافظ على قاعدة عمليات لتدريب الثوار المعتدلين.التحديات والمخاطرعلى المدى القريب، قد تتطلب الاستراتيجية المذكورة أعلاه تعامل قوات الاستخبارات و"القوات الخاصة" التابعة لقوى التحالف مع أفراد العشائر العراقية، الأمر الذي يزيد من خطر وقوع الضحايا في صفوف الأميركيين، بالإضافة إلى ذلك، فإن تشكيل قوة سنية مسلحة خارج إطار المؤسسة الأمنية العراقية قد يؤدي إلى استمرار النزاعات الطائفية في البلاد بعد هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولكن إذا ما اعترفت بغداد بهذه الوحدات على نحو مشابه لاعترافها بقوات "البيشمركة"، فمن الممكن أن تصبح في النهاية المحور الذي يُبنى حوله "حرس وطني سني"، مما يسرّع الجهود الهادفة لتحقيق الأمن على المدى الطويل في المناطق السنية غرب بغداد.