الخطَّاط أحمد مصطفى: الحرف العربي يمثِّل الإنسان والكون

نشر في 08-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 08-05-2015 | 00:01
يرتبط الحرف العربي بعلاقة وثيقة بالإنسان والكون، ويتسق معهما، إذ يحكمها جميعاً قانون هندسي واحد يشير إلى الخالق الأحد... هذا ما توصل إليه الخطاط المصري الدكتور أحمد مصطفى، حيث يؤكد أن الحرف العربي يقوم في جوهره على حقيقة علمية ينفرد بها دون حروف لغات البشر أجمعين. معه الحوار التالي.

درست لسنوات طوال الحرف العربي وما يسمى بالسنة الهندسية وعلم القلم. إلى ماذا توصلت؟

عملت لسنوات طوال على مصطلحات تركها لنا الوزير العباسي {ابن مُقلة}، فالسُّنَّة معناها القانون، وهي تذكرنا بالآية الكريمة {تلك سُنَّة الله ولن تجد لسُنَّة الله تحويلا ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً}. عندما بحثنا في هذا الموضوع وجدنا أن الحروف العربية 28 حرفاً يقابلها 28 منزلة من منازل القمر تحرك عملية المد والجزر، يقابلها 28 مفصلاً، 14 في اليد اليمنى و14 في اليد اليسرى.

 يصل الإنسان إلى القطع بهذه السُنَن، ولكنه يقف أمامها مبهوراً متأملاً، وعندما نرى نقطة المياه بعد تبلورها تحت المجهر نرى هندسة كاملة، إن الإنسان هو {ألف} الظهور العضوي للكون كله، والألف هي المحور الأساسي أو {إنسان الحروف} في شتى مفردات التعبير في لغتنا العربية، والإنسان والحروف والكون بأسره يحكمهم جميعا قانون هندسي واحد يشير إلى الخالق الأحد.

حمل كتابك الذي صدر حديثاً بالإنكليزية في لندن عنوان {الخط الكوني}. ما هو المراد بذلك؟

المراد بالخط الكوني الإشارة إلى معضلة واجهت العقلية المسلمة المبدعة في محاولاتها للآتيان بعملية إبداعية يتواكب فيها المضمون المنزَّل والشكل. المضمون ليس من صياغة الإنسان، ولكنه من صياغة الله سبحانه وتعالى، فمن أين يأتي الشكل؟ وتتضح الإجابة عن السؤال مع وصول القرن الثالث الهجري /التاسع الميلادي بعدما تعرَّف المسلمون إلى القوانين الهندسية، وعلموا أنها تمثل لغة الله وسنَّتِه. أقاموا هندسة الحروف على النسبة والتقدير، فجاء الخط على نسق وإيقاع يعكس القوانين المودعة في الترتيل المنزل نفسها، بل وفي خلق كل شيء {خلق كل شيء فقدَّره تقديرا}.

يربط البعض الخط العربي بتركيا رغم ما قدمه العرب من إسهامات عدة في هذا المجال. لماذا هذا الربط؟

بالتأكيد لتركيا إسهامات عظيمة بحكم كونها كانت معقل كرسي الخلافة العثمانية لقرون طويلة، ومن الطبيعي أن السلطات العثمانية كانت ترسل إلى مركز الخلافة أعظم وأشهر أصحاب المواهب والمهارات من المبدعين في شتى بقاع الإمبراطورية العثمانية، ليجعلوا منهم معلمين للأجيال المقبلة. مصر على وجه الخصوص كانت لها مساهمة كبيرة في هذا البرنامج العثماني، ونسمع عن خطاطين كبار من أصول مصرية انتقلوا إلى تركيا وعاشوا في الأستانة، وآثروا الحياة الثقافية والإبداعية فيها، حينما كان الحرف العربي مستخدماً في كتابة اللغة التركية.

 بعد انهيار الخلافة العثمانية، ظهرت دعاوى كاذبة فحواها أن الحرف العربي ليس له أي أساس علمي، من ثم لا يمكن أن يساعد على التقدم التقني للتطور وتحديث البلاد، وأن الحرف الروماني هو ما يملك هذه المقومات. ينطوي هذا الإدعاء الكاذب على هدف آخر غايته تغريب المجتع التركي، ليس في علاقته بكتاب الله وقرآنه الكريم فحسب، بل لقطع شريانه الروحي وصلته التاريخية بتراثه الإسلامي والثقافي الذي حققته الإمبراطورية العثمانية كأطول إمبراطورية على مدى التاريخ. ومع مرور الزمن.

 ثبت كذب هذا الإدعاء بالتحقيق والكشف التاريخي عن ماهية علم هندسة الحروف العربية في كتابي الذي صدر حديثاً بعنوان الخط الكونيThe Cosmic Script، حيث يتبين بجلاء أن الحرف العربي يقوم في جوهره على حقيقة علمية ينفرد بها دون حروف لغات البشر أجمعين، وذلك على العكس افتراءات كاذبة تمكنت من عقول الجاهلين في غياب من يملك المعرفة والحقيقة التاريخية لدحضها، وكشف الظلم الذي أنزله المغرضون بالحرف العربي وبأنفسهم، ولكن لا يشعرون، لأن الغرض كان في حقيقته طمس أهم الوسائل التي تمكن المسلم وغير المسلم التركي أن يتواصل بها مع تراثه المتحقق بالحرف العربي على مدى 600 عام.

هل ثمة تخوف من تأثير التقنية الحديثة وتقلص الاهتمام باللغة العربية على مستقبل فن الخط؟

لا يجوز النظر إلى الكمبيوتر إلا باعتباره أداة عصرية، أهم ميزة فيه قطع رحلة أدائية طويلة جداً في زمن قياسي قصير بالنسبة إلى الظروف التي لم يكن بها هذه التقنية. لكن علينا ألا ننسى شيئاً مهماً للغاية وهو أن هذا الجهاز يعمل حسب توجيهنا له، ولا نتوقع أنه سيتدخل في ما هو مكنوز في إدراكنا.

 يعتقد كثيرون خطأ أن الكمبيوتر خلَّاق، وتلك حجة من تعوزه الفطنة ليفهم أنه إذا لم تكن لدى الإنسان القدرة على التصور فلن يمنحه الكمبيوتر ذلك، إذا أدخلنا بهذا الجهاز مستطيلاً قائماً على النسبة الفاضلة فسيقوم هذا الجهاز بالرسم حسب التوجيهات فقط. وإذا كان ما ندخله في الكومبيوتر تافهاً وعديم القيمة فعلينا ألا نتوقع أن يكون الناتج منه بخلاف ذلك.

ماذا يمثل لك بيع إحدى لوحاتك في مزاد {كريستي} بسعر قياسي؟

لم يكن في تصوري أو استهدافي أن يحقق أحد أعمالي سعراً معيناً. جاءني هذا الحدث وأنا مطمئن روحياً ومتماسك إدراكياً، فلم يشغلني على الإطلاق. لكن كثيراً ما أفكر في الأجيال الجديدة التي تبحث عن أمور تتحقق بها هويتها، وكيف لها أن تدرك أن طريقها إلى التأصيل هو عملية فهمها تراثها التاريخي والروحي، وتلك مسألة في غاية الأهمية نستطيع أن نفاخر ونتميز بها أمام الآخرين.

هل تعتقد أن فن الخط العربي مظلوم أم أن دوره توارى؟

الخط العربي وسط للكتابة في المقام الأول، ولكن إذا تعاملنا معه كوسط للتعبير، سيختلف الموضوع. يتطلب ذلك رؤية واعية وخبرة تشكيلية مسيطرة على المادة، وإدراكاً فطناً يأخذ الحرف إلى آفاق تتخطى حدود الحسن الكتابي لتحقيق طموحات تجعل من الحرف مساحة كونية تقرأها عيون البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ذلك بعدما تخاطب فيهم فطرتهم، أي ذاكرتهم القصوى التي لا يمكن التعرف إليها إلا في مجمع البينية الموحدة بين الشكل والصوت، وبين الظاهر والباطن، بل وفي ما لا يحصى من الزوجيات. لا يتحقق ذلك إلا بشهية للمعرفة لا تفتر وانكسار القلب للوهَّاب، ولا يتسنى ذلك إلا إذا زاد وعينا وفهمنا بأصول تقاليدنا وعملنا على إحيائها وإحياء أنفسنا ليصبح في مقدورنا أن نأتمنها على أسرار مستقبلنا، ونرفع حجب الآفاق التي تنطوي على حقيقة هويتنا.

ما هي أنواع الخطوط التي تنطلق من خلالها في أعمالك الفنية؟

لا أنتقي الخطوط كما ينتقيها الخطاط في كتابته، ولكني كمصور أقف منصتاً أمام ما عزمت العمل عليه وكأني في موقف {من ألقى السمع وهو شهيد}، فالخطوط المستخدمة في التعبير التشكيلي ليست خطوطا للعين الخبيرة بالعربية فقط، إنما هي خطوط تخاطب عين الحدس الفطري الكامن في البشر جميعاً. تتحوَّل الخطوط المستخدمة إلى إشارات على خريطة تعبيرية تهدي السالك إلى الإفصاح عن مكنوز معانيها.

إذا كانت الكتابة هي المقدمة لظهور الخط، فكيف تفسر نشأة أنواع الخطوط عبر تاريخها العربي الإسلامي؟

نشأت أنواع الخطوط لتكون علامات فارقة على المزاج المصاحب لعملية التذوق الفني ومدى ارتقائها في سلَّم الخبرة العملية وآفاقها.

 

من خلال رحلتك مع الخط العربي والتي امتدت إلى أكثر من أربعين عاماً، ما هي البصمة أو الخصوصية التي تعاملت بها؟

طوال مسيرتي في بقاع الإبداع وأوديته وأحراشه وجباله وكهوفه ووحوشه وإنسه وجِنِّه، ولم أستهدف شيئاً يسمى البصمة أو الخصوصية. من اتخذ مثل ذلك كشرط سابق على عملية التعبير أياً كان وسطها، لن يجد إلا موت الموهبة في مهدها، ومن يفعل ذلك فهو أحمق يعتقد أنه يحسن صنعاً، بينما هو في حقيقة الأمر يطلق النار على نفسه.

back to top