مؤتمر مكة... إرهاب وأوهام

نشر في 02-03-2015
آخر تحديث 02-03-2015 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري ما أكثر المؤتمرات والندوات الدولية والعربية التي نظمت حول "مكافحة الإرهاب" في المنطقة العربية وخارجها على امتداد السنوات الـ١٥، لكن ما أقل جدواها في تشخيص ظاهرة الإرهاب ومعالجتها، وآخر هذه المؤتمرات مؤتمر مكة "الإسلام ومحاربة الإرهاب"، وقبله مؤتمر الأزهر "مواجهة التطرف والإرهاب".

 الملاحظة العامة الأولى على أوراق هذه المؤتمرات أنها تسلط الأضواء على الأسباب الثانوية للإرهاب أكثر من تركيزها على العامل الرئيسي المولد للفكر الإرهابي، فعلى سبيل المثال طالعتنا الصحف التي غطت مؤتمر مكة الأخير بالعناوين البارزة لأسباب الإرهاب مثل: انتشار الفقر، والبطالة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والأمية، وغياب العدالة، والجهل بالشريعة، وعدم تطبيق الشريعة، والتسلط، إلى غير ذلك من الأسباب الثانوية، في تجاهل للعامل الرئيسي المنتج للفكر الإرهابي وهو "عقيدة التكفير" وزرع "ثقافة كراهية وبغض الآخر" في نفوس الناشئة، وهي آفات مزمنة مهلكة ملازمة لخطابنا الديني خاصة، وتعليمنا الديني عامة، وقد آن الأوان لإعادة النظر فيهما، بهدف تنقيتهما من هذه الآفات وتخليصهما من تلك الأمراض الفكرية إذا أردنا كسب عقول أبنائنا ومشاعرهم وحمايتهم من أمراض العنف والكراهية.

والملاحظة الأخرى على الأوراق المقدمة لهذه المؤتمرات أنها تفتقد الموضوعية في الطرح، إذ تميل عادة إلى التوجهات السياسية والمذهبية للجهة المنظمة، فتسوق تفسيرات سطحية للظاهرة الإرهابية لا تقنع أحداً، وتبالغ في تعليق الإرهاب على جملة من الأسباب المتداخلة؛ السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يصعب حلها كقضية فلسطين.

لا يمكن للظروف الاقتصادية الصعبة أن تفرز إرهاباً، هي قد تنتج مجرمين كما جسد ذلك فريد شوقي في "جعلوني مجرماً"، فمجتمعاتنا عاشت ظروفاً صعبة قبل "لعنة النفط"، ولم نسمع عن إرهابيين، وهناك شعوب عديدة تعيش تحت خط الفقر ولم تفرز إرهاباً، و"الحرمان الاقتصادي" لم يكن في يوم من الأيام دافعاً للعمل الإرهابي، قد يكون دافعاً للسرقة والقتل، فكيف نفسر الإقبال المتزايد على "داعش" من شباب غربيين يعيشون في يسر؟

كيف نفسر بيع شباب سعوديين ممتلكاتهم واستبدال معاشاتهم في سبيل الوصول إلى دولة الخلافة؟ آلاف من الشباب التونسي المتعلم والميسور الحال يلتحقون بـ"داعش"! (٣) آلاف تركي من عائلات معروفة بالرفاهية الاجتماعية والمالية يحاربون في صفوف "داعش"! أرملة كوليبالي "حياة بومدين" لم تكن تعاني فقراً أو مظلمة أو قهراً، ولم تتمالك عند دخولها "أرض والخلافة" من التصريح "جميل أن أعيش على الأرض التي يحكمها شرع الله"!

علينا مواجهة أنفسنا ومصارحتها، هؤلاء الذين انقلبوا علينا وسلوا سيوفهم ضدنا، لا يشكون مظلمة أو فقراً أو جهلاً، هؤلاء يعانون كراهية عميقة مترسخة في نفوسهم ومشاعرهم، وفكرا عدوانيا مستحوذا على عقولهم وأذهانهم، هؤلاء طبع الله على عقولهم وقلوبهم، يعانون انغلاقاً فكرياً رهيباً، وإلا كيف تفسر تحول هذا الشاب الذي كان يعيش حياة اللهو في فلوريدا، يعشق الهوكي ويصيد الأسماك، بأن يترك هذه الحياة ويجند نفسه في صفوف "داعش"؟!

لا علاقة للإرهاب بالأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية ولا قضية فلسطين أو ظلم الأنظمة وفسادها، كلها عوامل ثانوية، قد تثير تمرداً أو احتجاجاً أو ثورة لكنها لا تنتج إرهاباً، فالإرهاب يبدأ بـ"التطرف الفكري" الذي يزرع في العقل ويشحن الوجدان بكراهية الآخر وبغضه وتكفيره، وخطاب ديني تحريضي من منبر أو موقع إلكتروني، لينتهي بقنبلة مدمرة للحياة والأحياء، ولا يمكن تبرير الإرهاب بأنه ردة فعل طبيعية ضد مظالم الحكومات العربية أو مظالم الحكومات الغربية، ما ذنب الإبرياء في الأسواق والمجمعات ومحطات القطارات والطائرات؟!

للأسف، ما زالت المؤتمرات والندوات الدولية والعربية تردد أفكاراً ساذجة حول أن الإرهاب تعبير عن أزمات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، هذه الأطروحة هي الأكثر تداولاً في الساحة الغربية والأميركية، حتى إن الرئيس الأميركي أوباما أصبح يرددها مؤخراً، محملاً الحكومات العربية المسؤولية عن عدم معالجة المظالم والفساد والحرمان من حقوق الإنسان، وكذلك وزير خارجيته "كيري" الذي كتب مقالاً عن "التطرف العنيف" باعتباره مسبباً للفساد وعدم حصول الشباب على وظائف!

مثل هؤلاء مثل من برر الإرهاب بغياب الديمقراطية أو إخفاق ثورات الربيع العربي، وكأن المجتمعات الديمقراطية لا تنتج إرهاباً؟! الذين تركوا الأوطان وتسللوا وتكبدوا المشاق، وصولاً  إلى "جنة داعش" لم يفعلوه عن فقر أو قهر أو ظلم، إنما فعلوه جهاداً لنصرة دولة الخلافة، أو استشهاداً طمعاً بالفوز بالجنة! يقولون إن "داعش" تغريهم بالمال، فهل يضحي الإنسان بنفسه من أجل المال؟!

وفاء الشهري، وريما الجريش، ود. إيمان البغا، وغيرهن اللاتي هاجرن إلى "داعش" لم يفعلن ذلك عن ضيق ذات اليد أو جهل أو لأن هناك من غرر بهن، بل فعلن ذلك عن قناعة وعقيدة بأن عملهن جهاد فرض! وكذلك المراهقات البريطانيات الثلاث القاصرات اللاتي هربن من أسرهن للالتحاق بـ"داعش"، لم يفعلن ذلك عن فقر بل رأين في الهجرة واجباً دينياً!

السعوديون الدواعش كانوا الأكثر استماتة في "كوباني"، واختاروا أخطر المواقع المعرضة للقصف، لماذا؟ لأنها- حسب زعمهم- أقصر الطرق إلى الجنة! "ذباح داعش" قاطع رؤوس الرهائن، بريطاني كويتي المولد، من عائلة ميسورة، مهندس كمبيوتر؟

ومن هنا ندرك أن كل التفسيرات التي تقول إن الإرهابيين حمقى أو مرضى نفسيون أو يشكون فقراً أو مظلمة، أو أن هناك من غسل أدمغتهم أو أن المخابرات الأميركية أو الإسرائيلية غررت بهم، نوع من الأوهام والأساطير.

لن يحل الإرهاب بحل مشكلات الفقر والجهل والفساد والظلم ولا حتى قضية فلسطين، لا حل للإرهاب إلا فكرياً وثقافياً من خلال تعليم متطور، وخطاب ديني يحتضن الإنسان، ومعلمين هداة، ومنابر ومؤسسات ثقافية تحصن الناشئة من أفكار التطرف.

ختاماً: فإن أزمة استمرار الإرهاب هي أزمة فكر مريض لم نحسن تشخيصه، الفكر التكفيري هو المنبع الأساسي للإرهاب، وعمليات التفجير هي الثمار المرة لأيديولوجية التكفير، لا يفجر الإنسان نفسه إلا للجنة!

* كاتب قطري

back to top