انتحار بريطانيا

نشر في 15-05-2015
آخر تحديث 15-05-2015 | 00:01
على غرار خصومها خسرت المملكة المتحدة مستعمراتها حول العالم، إلا أنها احتفظت بالجزء الأكبر من إمبراطوريتها المحلية: الأمم المتعددة (الإنكليزية، والأسكتلندية، والويلزية، والأيرلندية الألسترية) التي لا تزال تتشارك في العلم والتاج.
 نيويورك تايمز طوال حقبة كبيرة من التاريخ الأوروبي شكلت الإمبراطورية ترتيباً سياسياً طبيعياً: شاسعة، متعددة اللغات والإثنيات، ثم متعددة الديانات، مع ملك على رأس الهرم وتحته اتحاد متقلب.

أتت بعد ذلك الحداثة، الديمقراطية، والوطنية، فطالبت "أمم" أوروبا (بعضها حقيقي وبعضها الآخر مبتكر) بحقها في تحديد مصيرها وحكم ذاتها.

بين عامَي 1914 و1945 (مع الفصل الختامي في البلقان في تسعينيات القرن الماضي)، أدى ذلك إلى كارثة عالمية تاريخية، من إبادات جماعية، وحروب محتدمة من أجل السيادة، ولكن من كل هذه الصراعات ولد نوع جديد من النظم الهجينة، فبات بإمكان الأمم حكم ذاتها داخل حدود أعادت رسمها الحرب والتطهير الإثني، إلا أنها ستخضع لإشراف نوع من إمبراطوريات ما بعد الحداثة: بيروقراطية إمبراطورية من دون إمبراطور، ألا وهي الاتحاد الأوروبي.

لكن المنبوذ لطالما كان بريطانيا العظمى، فعلى غرار خصومها، خسرت المملكة المتحدة مستعمراتها حول العالم، إلا أنها احتفظت بالجزء الأكبر من إمبراطوريتها المحلية: الأمم المتعددة (الإنكليزية، والأسكتلندية، والويلزية، والأيرلندية الألسترية) التي لا تزال تتشارك في العلم والتاج، وبما يتماشى مع وضعها القديم العهد، نأت بريطانيا بنفسها إلى حد ما عن إمبريوم الاتحاد الأوروبي في حقبة ما بعد الحداثة، فانضمت إلى هذا الاتحاد من دون أن تتبنى عملته الموحدة.

عاد هذا التدبير المميز بالفائدة على المملكة المتحدة ككل، فقد ساهم بقاؤها كمملكة متحدة في تعزيز نفوذها العالمي، في حين أن تحولها إلى جزء من الاتحاد الأوروبي، من دون أن تنضم إليه كاملاً، أعفاها من أسوأ الويلات التي عانتها القارة بسبب اليورو.

ولكن لا يمكن أن يدوم أي من هذين الترتيبين فترة أطول، ففي عناوين الأخبار، شكلت الانتخابات البريطانية قبل أيام انتصاراً كبيراً لمحافظي ديفيد كاميرون، لكن الفائز الحقيقي كان قوى الوطنية، الأسكتلندية والإنكليزية، التي وضعت فجأة المملكة المتحدة كما عهدناها على المحك.

تُعتبر القصة الأسكتلندية مثيرة جداً للاهتمام، كان الاستقلال الأسكتلندي يبدو قبل عقد مجرد تسلية مزعجة، وبعد خسارة الاستفتاء من أجل الاستقلال، شاع الافتراض أن الوطنيين استنفدوا حظهم.

ولكن بدلاً من ذلك، يبدو أن حملة الاستفتاء أثرت في السياسات الأسكتلندية أكثر من نتيجتها التقنية، فكما ذكر قبل أيام ألكس ماسي، كاتب أسكتلندي موالٍ للاتحاد، "تشكل الوطنية الدين العلماني الجديد"، فضلاً عن أن سياسات الهوية هزمت فجأة "كل الوافدين"، هزمت الكل باستثناء ثلاثة، كما اتضح، ففي انتخابات يوم الخميس، شغل الوطنيون 56 مقعداً من مقاعد البرلمان التسعة والخمسين في أسكتلندا، مما حوّل بالتالي الشمال المتعدد الأوجه إلى دولة حزب واحد.

لكن ما يريده الوطنيون الأسكتلنديون هو استبدال علم الاتحاد بصفقة مع الاتحاد الأوروبي في حقبة ما بعد الحداثة: حكم ذاتي متأصل إثنياً تحت مظلة بعيدة متعددة الجنسيات بدل اتحاد سياسي يستطيع أن يدعم حروباً أو اقتطاعات في الموازنة يعارضها معظم الأسكتلنديين، ولكن لا يؤيد كل الأسكتلنديين الذين صوتوا للوطنيين أخيراً هذه الرؤية، إلا أن نفوذ الاتحاد تراجع بالتأكيد في الشمال. في المقابل، تريد حركة وطنية إنكليزية في الجنوب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بالكامل، وتعتبر أن الأسكتلنديين يحظون بصفقة جيدة داخل المملكة المتحدة كما هي اليوم، وهذه هي الروح الكامنة وراء حزب استقلال المملكة المتحدة (وهو حزب شعبي مناهض للعولمة يسلب اليسار واليمين الأصوات على حد سواء) ووراء قاعدة المحافظين أيضاً.

قد تغذي إحدى روحي الوطنية هاتين في الشمال والجنوب الأخرى، فستُضطر حكومة كاميرون، وإن بتردد، إلى منح مشاعر "الإنكليزي الصغير" حقها، فقد وعد بإجراء استفتاء بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي عام 2017. ولا شك أن هذا سيؤكد رغبة الوطنيين الأسكتلنديين بموقفهم المغاير في حكم أنفسهم وحدهم.

على الورق، لا تزال الحجج الداعمة لعدم الانفصال وعدم الخروج من الاتحاد الأوروبي قوية، ولا شك أن الأسكتلنديين يحصدون فوائد كبيرة من الاتحاد، فضلاً عن أن الرؤية الوطنية عن دولة أسكتلندية شبيهة بالنرويج إنما مع تنانير غنية بالنفط، وديمقراطية اجتماعية لن تصمد على الأرجح عندما تصطدم بوقائع الاستقلال. في المقابل، تعني مقاربة تخلي بريطانيا "الآن وليس لاحقاً" عن أوروبا وخروجها من الاتحاد الأوروبي في الحال أنها ستتنازل عن نفوذها الاقتصادي والسياسي (لفرنسا على الأرجح) لقاء مكاسب غير أكيدة.

ولكن هذه حجج عملية، وتحتاج السياسة أحياناً إلى أكثر من ذلك، فيقدّم وطنيو أسكتلندا وإنكلترا بطرق مختلفة رؤية عن مجتمع سياسي يشكل محور إيمان وغاية قائمة بحد ذاتها، وفي وجه رسالة مماثلة لا يكفي الدفاع ببساطة عن النظام الحالي بالقول، مثلاً، "نعم، بات بالياً اليوم إنشاء إمبراطورية صغيرة، إلا أن الفوائد الصافية تجعل هذه الإمبراطورية كياناً يستحق الاحتفاظ به".

بدلاً من ذلك عليك أن تقدم بكل وضوح حججاً تدعم بريطانيا العظمى، ومن الضروري أن تذكّر بتاريخ المملكة المتحدة العريق في العالم، الذي ساهم الأسكتلنديون كما الإنكليز في دعمه وماتوا في سبيل الدفاع عنه، من دون أن تشعر بأي خجل، ويلزم أن تؤكد للإنكليز أيضاً أن حاضر بريطانيا المتعدد الثقافات بوجهه الأوروبي يستطيع أن يتماشى مع هذا الماضي من دون أن يدفنه، علاوة على ذلك يجب أن تبرهن أن إمبراطورية ليبرالية قد تكون حقيقية ومتأصلة تماماً كأي وطن إثني، فهو أمر "تشعر به في الدم والأعماق، فهو نقي عظم حياتنا"، كما ذكر ماسي خلال الاستفتاء الأسكتلندي.

أنا أميركي وليس من واجبي أن أطرح حججاً مماثلة، ولكن إن لم يعثر أقرباؤنا على قادة يستطيعون تقديم هذه الحجج، فلا شك أننا سنفتقد بريطانيا العظمى.

 * روس دوثات

back to top