جيمس جويس في «أشعار»... الحبّ فضّة المرايا سماء وأرضاً

نشر في 29-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-12-2014 | 00:01
No Image Caption
لفتني أحد قائلاً: «إنّي حزين كقصيدة مترجمة». نعم، إنّ ترجمة الشعر لا تستطيع أن تحافظ على استدارة أقماره وعلى خصب الذهب في شموسه، إلاّ أنّها نشاط أدبيّ جبّار، يغني قدر المستطاع أدب اللغة المنقول إليها، وممّا لا يرقى إليه الشّكّ أنّ للمترجم ما له في الوفاء للنصّ الأصليّ، بلغته الأمّ، وبقدر تذوقه الكلمة في اللغتين بقدر ما تكون النتيجة مرضية للقصيدة نفسها ولصاحبها أيضاً. من نتاج الشاعر جيمس جويس اختارت المترجمة ريم غنايم المجموعتين: «موسيقى الحجرة»، و«أشعار رخيصة»، وثلاث قصائد: «هو ذا الطفل» و»المحكمة المقدّسة»، و»غاز من موقد»، ونقلتها إلى اللغة العربيّة متبنّية إيّاها اختياراً وترجمة وتقديماً.
تعلن ريم غنايم في مقدّمة «أشعار» أن جيمس جويس مبدع، غزير الإنتاج على تعدّد، وأي باحث يريد الإبحار الشامل فيه يحتاج إلى عمر لا يقلّ عن عمره: «أعمال جويس هي تحدٍّ لكلِّ باحث في هذا الأدب، إذ يلزم الأمر – كما أراد له جويس- عمر الباحث بأكمله لبحث وسبر أغوار هذا الأدب رواية وشعراً ومسرحاً». واستناداً إلى المقدِّمة، إنّ حياة جويس ضاقت بالألم والمرض، وهو الذي على صعوبة عيشه هدر وقتاً كثيراً على حبّ النساء، وبائعات الجسد. إضافة: «إلى الوحدة والاكتئاب ومعاناته المستمرّة من حبّ تعذيب النفس، ومن عقدة الدين والكنيسة ومن وطنه ايرلندة». أمّا شعر جويس فيضجّ بالموسيقى والغنائيّة على انسياب: «مع الحفاظ على رصانة اللغة ورباطة جأشها». وهو ليس غريباً عن عالم السخرية وروح الدعابة. وتعود أهميّة ما قامت به غنايم إلى أنّ «أشعار» هو أوّل كتاب ينقل إلى العربية جويس الشاعر، الباحث عن الذات الأولى في قصائده. ولا تخفي المترجمة «غلبة الطابع القاتم والتشاؤمي على قصائد المجموعة»، إلاّ أنّها تدلّ في الوقت ذاته بإصبع الإعجاب على جيمس جويس: «النّحات المتفرّد، ومالك الحزين، والبوهيميّ الحالم»، فهو يحترف جمع الأضداد في شخصيّته، إلى حدّ اعتبار ترجمته: «أشبه بالانتحار اللذيذ، أو الموت المحمود، أو الانتصار بعلامة استفهام».

«موسيقى الحجرة»

يستهلّ جويس هذه المجموعة بالانتماء إلى الطبيعة، فَيرى الأرض والجوّ مشدودَين إلى بعضهما بأوتار، ويرى أوتاراً أخرى تسير وتسيل والنهرَ:

«أوتار في الأرض والجوّ

 تهب الموسيقى عذوبة

 أوتار بمحاذاة النهر

 حيث يحتشد الصفصاف».

وفي هذا العالم الطبيعيّ المسوّر بالنغم بيئة صالحة لإقامة الحبّ الذي يطرِّز معطفه بالأزهار، وبالأوراق يزيّن شعره:

«حيث الحبّ يهيم هناك

أزهار شاحبة على معطفه

أوراق داكنة على شعره».

وإلى رمزيّة اللون يمضي جويس ليستثمر في نصِّه الشعريّ لغة الألوان التي تقول ما عندها برمزيّة تلامس السورياليّة، فالشفق يقع على شرفة الأرجوان ليجد نفسه في أزرق يزداد عمقاً، والمصباح يرسل النور أخضر يلفّ أجساد الشجر:

«يتحوّل الشفق من أرجوانيّ

 إلى أزرق موغلٍ في العمق

 يلفّ المصباح بوهج أخضر شاحب أشجار الجادّة».

وبين قصيدة وأخرى يرتاح جويس تحت سحابة عازفة، ويرصد بعينيه العاشقتين قيثارات غير مرئيّة إلاّ أنّها موجودة بكثافة، وهي التي تفرش دروب الحبّ بنور النغم مرتقياً إلى السماء، لتغدو الموسيقى فتنة تميِّزُ السماء والأرض في الوقت نفسه:

«اعزفي أيّتها القيثارات المحجوبة

 للحبّ الذي يتّقد طريقه في السماء

 وقت تظهر وتختفي الأضواء الرقيقة.

 موسيقى عذبة تُسمع في الأعالي وعلى الأرض».

ويواصل جويس دعوة حبيبته إلى أن تكون والطبيعة في لوحة عاطفيّة واحدة، تأخذ ألوانها وخطوطها من ريشة حُبّ سخيّة تحترف صناعة الجمال المنسوج على نول العاطفة:

«حبيبتي بثياب خفيفة

 بين أشجار التفّاح

 حيث تشتهي الرياح الشّقيّة

 الهبوب زُمَراً».

ولا يرغب شاعر الحبّ والطبيعة في ذكر الأرض إلاّ واصلاً إيّاها بالسماء، فكأنّ الوجود يتكامل في المشهد الجويسيّ ليكون ممتلئاً وكثيفاً فيشبع ويروي العين والقلب والأذن:

«وحيث السماء كأس أزرق شاحب

 فوق الأرض الضاحكة

 تسير حبيبتي بخفّة،

ترفع فستانها بيدين أنيقتين».

ومن اللافت أن جويس، على رغم شخصيّته الّتي تشّد به نحو عالم اللذّات، يبدو ذا عفّة في الحبّ، وذا براءة تشبه بدايات البراءة الأولى، تلك البراءة المسكونة بنقاء الريف وقيمه، وربّما هو بذلك يَنْشد ما ليس لديه:

«من التي تعبر ضوء الشمس

... دروب أرض الغابة كلّها

 تلتمع بنار ذهبيّة رقيقة

 لمن تحمل أرض الغابة المشمسة ثياباً رائعة؟»

وللحبّ أن يكون لجويس صديقاً لا تذبل المحبّة في هدر صداقته بعد انطفاء كوكب الصداقة وتناثر أسماء الأصدقاء على امتداد النسيان:

«ذاك الذي صنع المجد

ولم يجد روحاً ترافق روحه

بين أعدائه بجفاء وغضب

ملتصقاً بنبل قديم،

 ذاك العالي الذي لا رفيق له

حُبُّه رفيقه».

أشعار رخيصة

كيفما التفت جويس تجد عيناه للحبِّ مكاناً في المشهد، ففي مسابقة القوارب التي يشارك فيها أخو الشاعر ستانيسلاوس، حبّ موشوم على المجذاف، وقلوب تقول دموعها رغم أنّها في مرحلة الفتوّة:

 «سمعتُ قلوبهم الفتيّة تبكي

الحبّ يحرس فوق المجذاف المائل...».

ويخاطب الشاعر قلوب البحّارة الخفّاقة في ظلال أعشاب تتنهّد، ويرثي زمناً عاشقاً لن يعود، لأنّ الرياح استقالت من رغبة الشراع إلى الأبد:

 «أيتها القلوب

 أيتها الأعشاب المتنهّدة

 عبثاً يندب فرسانك المستقلون حبّاً

لن تعود الرياح الجامحة العابرة

 أبداً، لن تعود».

 وجويس المنتسب إلى ألم الحبّ المتواصل، يحتفظ لغيره بهذا الحقّ، ولو كان هذا الغير زوجته نورا التي رافقها في زيارة إلى قبر حبيبها مايكل بودكين حيث ذكّرته بأنها هي أيضاً ستكون حصّة الموت يوماً ما. وفي هذا الجوّ الملبّد بالعواطف المتناقضة، يرتدي جويس حزن زوجته على حبيبها السابق وكأنّه ينطق ملبّياً مزاج قلبها ورغبته حين يقول:

«يهطل المطر فوق راهون برفقٍ،

 برفق يهطل،

حيث يستلقي حبيبي الغامض».

وإذا كان لا بدّ من سواد يختصر الحزن، تغرق القلوب وتصل إلى أعماق سوادها ويُنزِل الحبّ حياته عن كتفيه مثلما يتنازل قلب عن خفقانه:

«كذلك هي قلوبنا قاتمة، أيّها الحبّ، ترقد وتفتر

كما رقد قلبه الحزين».

ويختتم جويس أشعاره الرخيصة بقصيدة «صلاة»، وفيها يقف على شرفة الرحيل، مستعدّاً للانسحاب من لعبة الليل والنهار، محتفظاً بالحبّ الذي سيعبر الموت بمعيّته:

«انسحبي منّي بهدوء

 يا حياتي البطيئة

 إنحني أكثر عليّ،

 رأسي يتوعّد.

 مفتخراً بسقوطي، أتذكّر، أتحسّر عليه ذاك، ذاك الذي كان».

back to top